بعد مرور المباحثات السياسية بين الحكومة العراقية وإقليم كوردستان والحكومة التركية وممثل الولايات المتحدة الأمريكية بمراحل متذبذبة نتيجة إصرار الدولة التركية على حل القضية الكوردية فيها بالخيار العسكري بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني والقضاء عليه، فإن الخيارات المطروحة من هذا الطرف تبدو أنها غير مجدية لحل قضية سياسية وقومية متسمة بالمطالبة الشرعية لنيل الحقوق الثقافية والسياسية للشعب الكردي في تركيا الذي يقدر عدد نفوسه بأكثر من 20 مليون نسمة وهو القومية الثانية الرئيسية فيها.
وهذه المعضلة هي المدخل الذي يمكن عن طريقه لتركيا الدخول الى الاتحاد الأوربي من خلال تطبيق المعايير الأوربية في منح الحقوق القومية والثقافية والسياسية للقوميات التي تتكون منها الدولة التركية وهي الترك والكرد بالدرجة الرئيسية، ولكن من خلال قراءة الواقع التركي يبدو أن المؤسسة العسكرية التركية لا زالت بعيدة عن تفهم المطالب الأوربية لفسح المجال أمام الدولة للدخول الى السوق الأوربي المشترك، وهي لا زالت تتحكم بها عقلية عسكرية لحل القضايا في تركيا خاصة القضية الكردية، وهي مصرة على سد منافذ الحل أمام هذه المعضلة بحجة القضاء على الحركات التحررية الكردية المسلحة ممثلة بالحزب العمالي الكردستاني الذي يعتبر الحزب الكردي الوحيد في تركيا الذي يقود الكفاح المسلح لنيل الحقوق القومية للكرد ضمن السيادة التركية.
وبالتوازي مع هذا الاتجاه لرجال المؤسسة العسكرية التركية، فقد ظهر اتجاه آخر يطالب بإيجاد حل سلمي للقضية، وهو من محاسن الأمور في دولة تركيا العلمانية، حيث خرجت أصوات فيها تنادي باللجوء الى حل غير الخيار العسكري لحل القضية توازيا مع الإصلاحات السياسية التي ادخلها رئيس الحكومة طيب أردوغان ضمن منهاج مسار التحسن لتنفيذ المعايير الأوربية في مجال الحقوق السياسية والديمقراطية والثقافية، وإحدى هذه الحلول المطروحة على الساحة السياسية التركية هي المطالبة بتطبيق النظام الفيدرالي لحل مسألة القوميات في تركيا، وهو حل يحمل معه معالجة جذرية للمشاكل السياسية والقومية والثقافية للأقليات والقوميات التي تعيش في تركيا، وهو يحمل في عين الوقت حكمة وعقلانية كبيرة لغرض ضمان الاستقرار والأمن والسلام في دولة تتسم بعلمانية معتدلة لإبعاد شبح الحروب المذهبية والدينية عن الدولة التركية.
وضمن هذا الاتجاه، فقد تمكن العراقيون والكرد في إقليم كردستان من إيجاد حل جذري لمسألة القوميات في العراق من خلال اللجوء الى تطبيق النظام الفيدرالي في بنيان هيكلة الدولة العراقية، مع وضع دستور معاصر دائم بموافقة الأمة لإدارة البلاد وفق أسس تتسم بالحداثة في الحياة، لإرساء المؤسسات الشرعية الممثلة بحكومة وطنية مخولة من جمعية نيابية منتخبة وسلطة قضائية مستقلة، ومن خلال هذه المداخل بدأت اتجاهات الأمور تسير في العراق نحو بناء الركائز المكملة لتعزيز العملية السياسية من خلال تدعيم العملية الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية لبناء الدولة على أساس الفيدرالية ونظام حكم الأقاليم ومجالس المحافظات المنتخبة من قبل العراقيين اعتمادا الى الأسس العامة في الدستور العراقي الدائم.
استنادا الى هذا الواقع الجديد الذي أخذ يفرض نفسه بصبر وتأني من خلال قراءة النموذج العراقي، فان التوجه الجديد لبعض الأطراف السياسية التركية للمطالبة بتطبيق النظام الفيدرالي لإخراج الدولة من أزماتها السياسية والقومية والاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها من عهود طويلة، يشكل دعوة حكيمة للبحث الجاد في إيجاد وسائل ضامنة حقيقية لمعالجات القضايا الأساسية من جذورها للوصول الى إرساء أركان تأسيس الدولة الفيدرالية لصالح مصلحة الأمة التركية بكافة شعوبها وقومياتها المتعددة لمراعاة الخصوصية القومية والثقافية والمذهبية المتنوعة لدى مكونات هذه الأمة التي تتركب من قوميتين رئيسيتين هما الترك والكرد.
ومن هذا المنطلق نبين ان النظام الفيدرالي هو عبارة بالأساس عن نظام للإدارة اللامركزية وهو يشكل القاعدة الأساسية للأنظمة القائمة على الفيدرالية المبنية على الأقاليم أو إدارة المقاطعات أو الولايات أو المحافظات في المجتمعات الديمقراطية، لتميزه بمميزات ومبررات عديدة تساعد على إقامة وإرساء حكومة تتسم بالشفافية والإدارة الناجحة لتحقيق مطالب المجموعات السكانية الممثلة لها حسب مناطقها ووحداتها، لهذا ولأهمية هذا الأمر فإننا نسلط الضوء على أهم الميزات التي يمكن أن تتسم بها دولة تركيا الفيدرالية استنادا لنظام اتحادي دستوري، والميزات أساسية في الهياكل التنظيمية والمؤسساتية لإدارة الدولة وفق رغبة الشعب استنادا الى النهج الديمقراطي المثبت في الدستور العلماني لتركيا، ولهذا نجد ان النظام الفيدرالي هو الحل الجوهري الغائب عن تركيا لحل القضية الكردية.
ولغرض منح هذا النظام أهميته السياسية للرأي العام التركي، نبين إن الميزات التي تتميز بها دولة النظم الفيدرالية، عملية وواقعية وتحتل الأولوية ضمن اهتمامات الدولة الحديثة، ولغرض بيان الأهمية الإدارية والسياسية التي نتجت عن جملة من الإنجازات التي تحققت بفعل التطبيق الميداني والإداري والسياسي للأنظمة الفيدرالية في المجتمعات الديمقراطية على المستوى الدولي، نبين أهم المزايا لهذا النظام وهي:
أولا: دعم الديمقراطية وضمان حقوق سكان الوحدات الإدارية للأقاليم الفيدرالية من خلال زيادة دورهم في المساهمة لإدارة مناطقهم وإيصال حاجاتهم الى المجالس المحلية المنتخبة التي تحولها إجراءات عملية بموجب خطة مناسبة بغية تنفيذها.
ثانيا: التوازن والتوافق بين المصلحة العامة ومصلحة المجموعات السكانية من خلال التعبير عن رغباتها في اختيار الممثلين ضمن عملية انتخابات ديمقراطية، للعمل على تلبية الحاجات الأساسية للسكان وتقديم أفضل الخدمات لهم.
ثالثا: التوازن بين مصلحة دولة الأقاليم الفيدرالية ومصلحة الوحدات الإدارية الصغيرة من خلال تنظيم العلاقات بين المستويات الإدارية المختلفة وتقسيم الحقوق والواجبات فيما بينها والصلاحيات ونمط العلاقة بين الأطراف المعنية، وضمن إطار من التنسيق والتكامل والتعاون بين المستويات المختلفة.
رابعا: الاستغلال الأمثل للموارد المحلية البشرية والطبيعية والمالية لصالح التنمية المتوازنة في المنطقة المعنية لكل المكونات والوحدات الإدارية للإقليم الفيدرالي.
خامسا: تلبية حاجات السكان المحليين في كل وحدة أدارية وخلق تنمية حقيقية تزيد من أهمية الإقليم للمساهمة في زيادة الدخل المحلي وتحقيق مستوى معاشي مناسب للسكان موازية للمستوى العام في البلد.
سادسا: زيادة القدرة والسرعة والمرونة في اتخاذ القرارات ومتابعة نتائجها لتنمية الوحدة الإدارية المعنية ومنح السلطة والصلاحيات لها لمساعدتها على زيادة قدرتها ومرونتها في اتخاذ القرارات المناسبة لتحقيق أهداف التنمية وتوفير الخدمات والحاجات للمجموعات السكانية في كل إقليم.
سابعا: إزالة بؤر النزاعات والتوتر بين الوحدات والمجموعات السكانية لأسباب قد تتعلق في كثير من الأحيان بسوء الإدارة نتيجة أسباب متعلقة بالملكية أو أسباب اجتماعية أو مذهبية.
ثامنا: حل المشاكل والمعضلات والأزمات الداخلية التي تواجه المنطقة أو الوحدة أو المجموعة السكانية نتيجة أسباب أثنية أو عرقية أو اجتماعية أو اقتصادية أو مذهبية من خلال إشراك السكان واخذ آرائهم كحلول ضامنة لإزالة المشاكل من خلال المعايشة الميدانية للواقع دون تعقيد ودون تأزيم للمشاكل المتوفع حدوثها.
تاسعا: تلبية حاجات المجموعة السكانية أو الوحدة الإدارية وفق أفضليات تتطلب توفيرها وتقديمها لسكان تلك المناطق والإدارة المنتخبة والمتمتعة بالصلاحيات والسلطات اللازمة تكون على دراية بهذه الاحتياجات.
عاشرا: استمرارية وديمومة التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي للمناطق الكردية في تركيا ضمن موجبات استراتيجيات مدروسة قائمة على وضع أهداف و أولويات يحددها سكان المنطقة وفق قاعدة المتاح من الموارد والإمكانيات لتحقيق المهام ضمن سياق التنمية العامة للإقليم وللدولة.
حادي عشر: تنشيط المجموعات السكانية والوحدات الإدارية المهمشة التي تعاني من نقص التطور والتنمية في إطار البلد الواحد وما تسببه ذلك من مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية، مما تتطلب الحاجة الفعلية في تنشيط اقتصاديات هذه المناطق.
ثاني عشر: زيادة مشاركة سكان الوحدات والمجموعات السكانية في وضع السياسات العامة واتخاذ القرارات على صعيد الإقليم وعلى صعيد الدولة، لإتاحة الفرصة لهم للإطلاع وإبداء الرأي والمشاركة في الأنشطة الخاصة بتحديد الأهداف النابعة من ضرورات الحاجة للإقليم المعني، وتأمين التوافق والانسجام مع السياسات المحلية للإقليم والدولة ضمن الأسس القانونية التي تخضع لحكم المؤسسات الدستورية لزيادة دور السكان في الأقاليم الكردية في تركيا ضمن المجموعات السكانية للمساهمة في تحديد الاستراتيجيات والأهداف العامة للدولة التركية.
بعد سرد هذا الموجز السريع للمزايا الهامة التي يمكن أن يتسم بها النظام الفيدرالي لدولة تركيا، فإن إرساء هذا النظام الإداري السياسي المرن لإدارة الدولة تتطلب رؤية حكيمة وإيمان راسخ لتهيئة المقومات الأساسية له لكي يأتي هذا النظام ضمن الأسس الحديثة التي سترتكز عليها بناء الدولة التركية الحديثة لتلبية تطورات الحاجات الحاضرة والمستقبلية للأمة التركية بتركها وكردها لضمان مستقبل زاهر، وانطلاقا من هذا المنظور فإن إرساء هذا النهج الجديد والحديث لإدارة مكونات الدولة التركية ستشكل الفرصة الذهبية أمام السياسيين فيها خاصة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لتجاوز الآثار المتخلفة عن الحروب والأزمات القائمة فيها، لإرساء نموذج منشود وجديد لإدارة دولة حديثة قادرة على النهوض بالترك والكرد لرسم حاضر مشرق ومستقبل زاهر لتركيا الحديثة لتكون نموذجا ناجحا يقتدى بها على الصعيد الإقليمي وعلى المستويين الإسلامي والدولي.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف