ينظر كثير من العرب على الصعيد الشعبي طبعاً بعيداً عن حسابات الرسميين وصفقاتهم المشبوهة بعين الأسى لما يحصل في غزة من اقتتال بين الفلسطينيين بجناحيهم السلطويين فتح وحماس. ولا شكّ فإنّ الفلسطينيين من بينهم هم الأكثر تأثراً على هذا الصعيد؛ فمن كان منهم في الداخل يجد نفسه واقعاً بين المطرقة الإسرائيلية واعتداءاتها وعملياتها العسكرية المتواصلة في غزة وسندان الإقتتال بين فتح وحماس. أما من هم في دول الشتات والذين ما زال أمل العودة يسكنهم عبر مطالبتهم الدائمة بالإلتزام بهذا الحق في كلّ المناسبات رافضين كل محاولات التوطين، أما هؤلاء فيتضاءل لديهم مع استمرار الصراع ذلك الأمل فيقبعون في شتاتهم الذي تحول إلى شتات آخر في العراق مع بداية العام الحالي وفي لبنان منذ شهر تقريباً.
يبدو أن الصراع بين فتح وحماس أكبر من مسألة سلطة ونفوذ بين طرفين مختلفي العقائد والأيديولوجيات والإستراتيجيات والممارسات. فهو صراع يدلنا في استمراره على مشروع أكبر بات معروفاً للجميع منذ الصيف الماضي حين تجلى في الحرب الإسرائيلية على لبنان وكانت قد بدأت تباشيره مع الحرب الأميركية المسماة quot;على الإرهابquot; والتي توجتها باحتلال أفغانستان والعراق والتهديد والحظر والتجييش المستمر ضد إيران.
وبطبيعة الحال فلا يمكن للمشروع الأميركي التطبيق دون التزام عربي ولو كان على الصعيد الرسمي؛ فالولايات المتحدة بغنى عن الإرادة الشعبية العربية ولو أنها تروج للديمقراطية التي تخدم أهدافها لا غير في البلاد التي تفتحها. هذا الإلتزام العربي الرسمي نموذج يراد من خلاله استكمال لمرحلة كاملة بدأت مع ظهور الفدائيين عقب هزيمة الـ67 وتوجت بالإنتصارين المتتاليين للمقاومة في لبنان ومن وراءها من الأشقاء والداعمين عامي 2000 مع الإنسحاب الإسرائيلي شبه الكامل من لبنان و2006 مع تشكل ذراع عسكرية إسرائيلية دمرت البنى التحتية للبنان على مدار 33 يوماً عبر إمدادات أميركية من الصواريخ الذكية انطلقت شحناتها من المطارات البريطانية وبدعم وضوء أخضر غير مسبوق عربياً دون التمكن من القضاء على حزب الله.
مرحلة معاكسة للإرادة الشعبية التي مثلتها قوى المقاومة على اختلاف أطيافها من يسارية وقومية وإسلامية. مرحلة شكلت موقفاً رسمياً متماشياً مع الإرادة الأميركية ولو قلت نسبة العمالة فيه أو كثرت بين بلد عربي وآخر على الصعيد الرسمي. بدءاً من أعلى الهيئات العربية الرسمية وهي الجامعة العربية وصولاً إلى أصغر موظف يأتمر بالأوامر الأميركية دون أن يشعر بذلك حتى. والغريب في هذا الإطار هو التعاون الدائم الذي يبديه المتحكمون برقاب الشعوب من الحكام مع الإدارة الأميركية جمهورية كانت أم ديمقراطية لا فارق بتاتاً.
تحقق الإنتصار الأخير في لبنان وأنكر الكثيرون ذلك عليه. ورأينا يومها جميعاً كم كان الشارع العربي من المغرب إلى موريتانيا وتونس والجزائر وليبيا ومصر والسودان وسوريا والأردن وفلسطين ودول الخليج حتى العراق الجريح، كيف كان هذا الشارع متضامناً مع الشعب والمقاومة اللبنانيتين، وكيف بذل الكثير منهم من ماله وجهده لدعم لبنان. أما على الصعيد الرسمي فقد أنكرت الدول العربية النافذة أميركياً - أو التي يهيّأ لها أنها نافذة- حتى لبنانية المقاومة وكأن مقاومة إسرائيل إذا سلمنا جدلاً بطروحاتهم الخاطئة يجب أن تقتصر على فئة واحدة لا غير متناسين أنّ العدو الإسرائيلي يفعل ما شاء متى شاء في ضرب بلاد عربية، لا بل إنه يلقى دعماً وتنويها لقاء قيامه بذلك فتعتبر المقاومة لدى بعضهم quot;صاحبة مغامرات خطيرةquot;.
إذاً فنحن الآن أمام واقع يشير إلى شرخ أكبر من المعتاد بين الطبقتين الحاكمة والمحكومة في بلادنا العربية مهما كانت خيارات كل شعب عربي واتجاهاته. والإقتتال بين فتح وحماس جزء من ذلك في ظل عدم اعتراف أميركا وإسرائيل والغرب بالحكومة الحماسية واعترافهم الدائم بشرعية الرئيس محمود عباس. وفي هذا الأمر مفارقة غريبة أبرزها أكثر من رأي سابقاً تتلخص في دعم أميركا لمصالحها وما تراه من فوائد لخطها في كلّ بلد بطريقة مختلفة عن الأخرى. فالوضع في السلطة الفلسطينية هو نفسه في لبنان اختلاف بين الرئاسة والحكومة لكنّ أميركا تدعم الحكومة في لبنان بعكس ما يحصل في السلطة الفلسطينية. الأمر نفسه ينطبق على فكرتها عن الديمقراطية التي تسعى لتطبيقها في أفغانستان والعراق بينما على التخوم من تلك المنطقة تقع باكستان بديكتاتورها العسكري مشرف والتي لا تنال حتى إشارة إلى ديكتاتوريتها في ظل ارتمائها التاريخي في أحضان أميركا تجاه الهند وهي أكبر ديمقراطية في العالم على الصعيد البشري.
إذاً فالحل صعب للغاية واستمرار الإقتتال متوقع بشدة في ظل التخلي عن كلّ منجزات مؤتمر مكة الذي تولى التقريب بين وجهات نظر المتخاصمين والذي تم برعاية كاملة من العاهل السعودي أوائل العام الجاري، وكانت الصور التي التقطت يومها تشير إلى القدرة السعودية الكبيرة على جمع الأخوة على نقاط مشتركة تشكل الوحدة الوطنية بين الجانبين المتخاصمين، لكنّ استمرار الصراع وتجدده بأشكال أشدّ ضراوة أظهر أنّ الولايات المتحدة سحبت البساط من تحت أقدام أكبر المبادرات العربية للحلّ. أما على الصعيد الأكبر وهو المشروع الأميركي للمنطقة فالحل يبدو أصعب في ظل ذلك الشرخ الدائم بين الشعبي والرسمي وعبر بوصلة شعبية عربية، لا تملك حتى حقوقها المدنية داخل بلادها، تشير إلى إسرائيل كعدو للأمة ومن ورائها أميركا والحكومات الغربية. وبوصلة رسمية عربية أضاعت البوصلة ولم يبق لها من هم أكثر من الزج بالمزيد والمزيد من الشعوب في السجون.
فتح- حماس ليست سوى الحلقة الأخيرة في سلسلة ضرب المقاومات في كل دول الطوق التي ما زالت تبقي على مقاومة، ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير. وهي بعدما لم تقو على حزب الله في لبنان الذي حقق الإنتصار الحقيقي الأكبر منذ عام 1956 ووضع إسرائيل بكاملها في مرمى صواريخه فعلياً في كل الشمال ونفسياً حتى صحراء النقب جنوباً، بعدما لم تقو عليه اخترقت الحلقة الفلسطينية الأضعف والأكثر تشرذماً واعتمدت استراتيجية جديدة هذه المرة بدأت مع دخول حماس إلى السلطة وإبقائها على إسرائيل كعدو فبات صراع الأخوة هو الحلّ في سبيل القضاء عليها وبعدها يتم القضاء على حركات المقاومة الأقل قدرة وتنظيماً عبر الإغتيالات والإعتقالات والإعتداءات.
فكان صمود حماس تجاه الهجمة الكبيرة للتخلي عن مبدأ العداوة الأبدية لإسرائيل الباب الذي أدى لزجها في الإقتتال الداخلي مع فتح. وكأنّ الأميركيين يريدون تطبيق مبدأ واحد في مختلف البلاد العربية: من يصل للسلطة يجب أن يعترف بإسرائيل.
عصام سحمراني
التعليقات