حين بدا واضحاً لعتاة الرأسماليين الإمبرياليين أن نمط الإنتاج الذي كانوا قد أتوا به قبل نحو ثلاثة قرون ليؤمن لهم أرباحاً طائلة لم يكن أحد قد حلم بها من خلال أبشع استغلال عرفه التاريخ لبني الإنسان، حين بدا واضحاً أن نمط الإنتاج الرأسمالي لم يعد قادراً على الاستمرار والبقاء بعد أن انفكت جميع الدول المحيطية التابعة عن المراكز الرأسمالية، اقتدى هؤلاء الإمبرياليون بهتلر وعشيقته إيفا براون وبغوبلز

أين هي الشيوعية اليوم؟ 1
وعائلته الذين تجرعوا السم الزعاف خشية أن يقعوا أسرى في يد الجيش الأحمر الذي كان يضيق الخناق عليهم؛ تجرع الإمبرياليون السم الزعاف في كأس quot;إعلان رامبوييه ـ نوفمبر 1975 quot;. قرر هؤلاء الإمبرياليون استبدال الإقتصاد الرأسمالي بالإقتصاد الإستهلاكي(Consumerism)، خشية أن تحملهم قاطرة التاريخ إلى محطة يكرهونها غاية الكراهية وهي المحطة الإشتراكية؛ الإقتصاد الإستهلاكي الذي يقوم على ثلاثة أعمدة رئيسية..

1)إنتاج الخدمات عوضاً عن إنتاج السلع في الإقتصاد الرأسمالي. يتم إنتاج الخدمات بصورة فردية دون الحاجة إلى رأسمال وإلى أدوات إنتاج، والأهم من ذلك أنه لا يحتاج إلى تسويق. إنتاج الخدمات ليس إنتاجاً رأسمالياً.
2)نمو طبقة طفيلية في غاية الشراهة في استهلاك السلع والخدمات يشكلها منتجو الخدمات وهم حصراً الطبقة الوسطى، وبالمقابل تنكمش طبقة البروليتاريا، طبقة منتجي السلع.
3)في سوق الخدمات ـ وكلمة السوق تستخدم هنا مجازاً فالخدمات أعجز من أن تقيم سوقاً ـ يتآكل قانون القيمة الرأسمالي بل يغيب تماماً كي يتمكن منتجو الخدمات من مبادلة خدماتهم بأضعاف أضعاف قيمتها من السلع وهو ما يساعد الطبقة الوسطى على افتراس الطبقة العاملة.

وعندما دللنا بالوقائع الثابتة أن هذا الإقتصاد البديل ليس إبناً للحياة وليس قابلاً للاستمرار عكس النظام الرأسمالي قبل قرن أو نحو ذلك ـ كان الرأسماليون يقدمون خدمات متنوعة للعمال تمكنهم من استمرار استغلالهم من مثل فتح أسواق جديدة تسهل دورة التبادل ( نقد ـ سلعة ـ نقد ) وهو ما يؤمن أجور العمال كما يوظفون الأرباح المتراكمة في توسعة الإنتاج بالتمدد الرأسمالي (Capitalist Expansion) وما يرافق ذلك من توسيع مساحة الطبقة العاملة في المجتمع بالإضافة إلى بعض الخدمات شبه المجانية التي تحسن من فعالية قوى الإنتاج كالتعليم والصحة. مقابل ذلك لا تقدم الطبقة الوسطى للطبقة العاملة أية خدمات إيجابية؛ الخدمات التي تنتفع منها الطبقة العاملة كالخدمات التعليمية والصحية والأمنية تستبدلها الطبقة العاملة بأضعاف أضعاف قيمتها من السلع بسبب غياب قانون القيمة الرأسمالي كما أسلفنا. لئن كان الرأسماليون يستغلون العمال أبشع استغلال فالطبقة الوسطى اليوم تفترس العمال بصورة وحشية، ولا تستغلهم فقط، دون مقابل حقيقي.

ثمة من ظننا نتحدث حديث الإيديولوجيا بينما نحن نعتبر حقاً كافة الإيديولوجيات في الواقع عثرات كبرى على طريق التقدم. سخروا منا اعتقاداً منهم بأن الشيوعية ماتت حين مات الإتحاد السوفياتي، ماتت وليس من قوة في الأرض يمكن أن تبعثها من جديد. إننا لا نلوم هؤلاء الساخرين على عدم إدراكهم لميكانزمات الشيوعية المعقدة بالنسبة لمداركهم. لا نلومهم على عدم استشرافهم الشيوعية بعد نصف قرن وربما قرن طويل. لكننا لا نتسامح معهم أبداً وقد عجزوا عن مجابهة قضية حقيقية تهدد مصائر الدول الـكبرى التي quot; تمسك quot; برقبة quot; النظام quot; الدولي القائم حالياً. ما عساهم يقولون بشأن المديونية الفريدة في تاريخ العالم للولايات المتحدة الأميركية والبالغة أربعة أضعاف إنتاجها القومي؟ هل سيستمر العالم في إدانة الولايات المتحدة ثلاثة مليارات من الدولارات يومياً؟ هل سيستمر العالم بشراء الدولارات الأميركية بقيمتها الإسمية في السوق وهي لا تساوي حقيقة ثمن حبرها وورقها. لعل العالم يختزن اليوم ما يزيد على عشرين أو ثلاثين تريليوناً من الدولارات في احتياطياته، فهل سيقبل العالم على شراء دولارات أكثر؟ وإذا أمتنع يوماً عن ذلك ـ وهو سيمتنع بالتأكيد في يوم قريب ـ فماذا سيحل بالعالم؟؟ على هؤلاء الساخرين أن يخبرونا عن ذلك إن استطاعوا ـ ولن يستطيعوا ـ وإلا فحقيق بنا أن نسخر منهم مر السخرية ومما يقولون!

في مقالتنا quot; أين هي الشيوعية اليوم؟ (1) quot; أكدنا بأن لا مناص من أن ينصرف العالم إلى إحياء البروليتاريا التي هي الطبقة الوحيدة القادرة على خلق الثروة الحقيقية وإغناء مجتمعاتها. وخلصنا إذّاك إلى القول بأن في ذلك الخيار بل المخرج وليس الخيار، مخرج إحياء البروليتاريا، تكمن الشيوعية.

لسنا هنا لنماحك كارهي الشيوعية الذين سخروا مما قلنا، لكننا إنما نبحث هنا في حقائق الحياة الإنسانية. لقد أكدنا أن البديل الذي استحضره مؤتمر رامبوييه 1975 ليحل محل النظام الرأسمالي ليس بديلاً كفوءاً وليس لاعباً حقيقياً. ما استبقاه في الملعب الدولي لثلاثة عقود، وقد تصل إلى الأربعة ليس أكثر، هو فقط ما كان قد ادخّره النظام الرأسمالي من ثروات طائلة وما ابتناه من ثقة لامتناهية سمحت للدول الرأسمالية الكلاسيكية الإستدانة أضعاف ما تحتمل حيث بلغت ديون الولايات المتحدة، وكانت أكبر المراكز الرأسمالية، أربعة أضعاف مجمل إنتاجها القومي. الإقتصاد الخدمي السائد اليوم في العالم سرعان ما تتكشف عيوبه البنيوية ليظهر عجزاً فاضحاً في الاستمرار. فالأصل في الخدمات أنها قامت بداية لا لتخدم الإنسان مباشرة بل لتخدم الإنتاج السلعي وهو حاجة الإنسان الحيوية. فالخدمات بشكلها الحالي، الموجه مباشرة لخدمة الإنسان دون الإنتاج، لم يكن يحتاجها الإنسان قبل قرن أو قرنين بل إن الإنسان في عصور التاريخ الأولى لم يكن بحاجة لأية خدمات، لا في التعليم ولا في الصحة ولا حتى في الأمن. الإنسان لا يأكل الهواء!

السؤال الفيصل الذي سيتهرب كارهو الشيوعية من الإجابة عليه هو.. إذا ما كان الإقتصاد الخدمي (ومنه ما يسمى بالإقتصاد المعرفي) القائم حالياً سينهار ـ ولن يتأخر انهياره ـ فما عساها تكون طبيعة نظام الإنتاج التالي؟! هل سيرجع التاريخ إلى الخلف ليقيم نظاماً رأسمالياً مرة أخرى؟! أم أن كل المسالك المسدودة ستفتح مرة واحدة من خلال التسليم بالنظام الشيوعي أو الأحرى اللانظام الشيوعي حيث ستنعدم كل علاقات للإنتاج؟! العديد من كارهي الشيوعية ممن يسبب لهم هذا السؤال إحباطاً شديداً سيردون بسؤال مقابل يقول.. وهل انهار النظام الرأسمالي ليقوم مثل هذا السؤال؟؟ إن الذين ما زالوا يشككون في انهيار نظام الإنتاج الرأسمالي إنما هم في حالة من حالتين: إما أنهم بلا أدنى حس إقتصادي، وإما أنهم يخشون الغرق في الشيوعية فيتعلقون بقشة الرأسمالية. نعيد هؤلاء وأولئك إلى مقالتنا السابقة quot;انهيار الرأسماليةquot; وإلى كتابنا المنشور في موقعنا الألكتروني quot; جديد الإقتصاد السياسي quot;.

بالإضافة إلى استدلالاتنا الشيوعية السابقة نود فيما يلي أن نشير إلى دالتين أخريين تشكلان رافعتين قويتين للشيوعية..

الرافعة الأولى وهي من البناء التحتي. إنها التناقض الأبدي القائم بين أدوات الإنتاج من جهة والإنسان أو الوعي الإنساني من جهة أخرى. السيرورة الإنسانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطوير أدوات الإنتاج، بتحسين فعاليتها وتعظيم مردودها. التزايد المتسارع باطراد في الإنتاج من شأنه بالتالي أن يثقل على أية علاقات للإنتاج مهما كانت قوية ويحطمها في نهاية الأمر فلا تقوم بعدئذٍ أية علاقات أخرى؛ وهكذا هي الشيوعية. الوفرة الوافرة من الإنتاج من شأنها أن تلغي العمل المأجور أو العمل المستوجب ليصبح عملاً تطوعياً رغبوياً ووسيلة وحيدة لتحقيق الذات وتجسيد الإنسانية المتكاملة، العمل الذي لا تشوبه أية شائبة وتتفتق فيه إبداعات لم تعهدها الإنسانية من قبل. سيبكر الإنسان إلى العمل ليس للكسب بل لتحقيق الذات وتجسيد الإبداعات وفي هذا غنىً وأي غنى.

الرافعة الثانية وهي من البناء الفوقي. إنها العلوم الماركسية. أجمع آباء الماركسية على أن الماركسية هي نظرية الطبقة العاملة وهي موردة إليها من خارجها. البروليتاريا وبالرغم من أنها هي من ينتج مختلف عناصر الثقافة والعلوم إلا أنها بذات الوقت أقل الطبقات إلماماً بالعلوم الماركسية وبالفلسفة الماركسية. ولما كانت الثقافة والعلوم هي حصة البورجوازية الوضيعة من تقسيم العمل الإجتماعي، فقد جرى طمس العلوم الماركسية طمساً تاماً وذلك لأن البورجوازية الوضيعة هي أكثر الطبقات عداءً للبروليتاريا، أكثر عداءً من الرأسماليين الذين يحصلون أرباحهم وامتيازاتهم المختلفة على حساب البروليتاريا دون غيرها. العالم كله طمس العلوم الماركسية كما طمس العرب رسائل إخوان الصفا لتصبح مجرد طلاسم حتى للمثقفين العرب أنفسهم. وقد ساعد في ذلك أن العلوم الماركسية علوم معقدة كتعقيد الحياة نفسها كونها علم الحياة. إنها شديدة التعقيد لدرجة أن المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي أبدى جهلاً فاضحاً في الإلمام بالماركسية، وهي مرشد الحزب في التطبيق، مما استدعى توبيخهم من قبل ستالين في العام 1938. إن سوء فهم الماركسية من غالبية كوادر الحزب الشيوعي السوفياتي كان السبب الرئيسي لتمكين التحريفيين بقيادة خروشتشوف من الإستيلاء على قيادة الحزب والدولة والدفع بمشروع لينين الإشتراكي إلى الإنهيار. اليوم وبعد الإنهيار تنتشر الجهالة بالماركسية انتشار النار في الهشيم؛ والقول بفشل الماركسية بعد التجربة هو الريح التي تنشر نيران الجهالة.

للجهلاء نقول أولاً.. أن الماركسية ليست برنامجاً إجتماعياً قيد التطبيق. الماركسية هي مجموعة قوانين نافذة تحكم تطور المجتمعات بكل مراحل تطورها. ونقول ثانياً أن الذي فشل في الإتحاد السوفياتي ليس هو الماركسية بل المعاكس للماركسية (Anti-Marxism) من تصميم خروشتشوف وعصابته. قال ماركس بدكتاتورية البروليتاريا في عبور الإشتراكية وقد ألغاها خروشتشوف أثناء ولايته دون أن يعود إليها خلفاؤه. وقال ماركس بأن محرك تطور المجتمع هو الصراع الطبقي، وسخر خروشتشوف من ذلك قائلاً.. quot; ولماذا علينا أن يصارع بعضنا البعض الآخر؟ quot;!!! وقال لينين بالوحدة العضوية بين عمال العالم والشعوب المضطهدة في المستعمرات، لكن خروشتشوف أقام خطاً فاصلاً بين الجهتين وتنكر لثورة التحرر الوطني العالمية. ما انهار في الإتحاد السوفياتي هو الخرشتشوفية ( معاكس الماركسية Anti-Marxism ) وليس الماركسية وهو ما يدلل بصورة قاطعة على quot; كلية صحّة الماركسية quot; بتعبير لينين.

ما يحز في النفس عميقاً هو أن البورجوازيات والرجعيات المختلفة في العالم كله قد جهدت بصورة حثيثة لطمس الطريق إلى الفراديس الأرضية التي كان قد رسمها كارل ماركس. نجح هؤلاء في طمس هذه الطريق تماماً بعد أن هالوا عليها الحجارة والتراب حتى أن أحداً لم يعد قادراً على ترسّمها. لم يستطع الشيوعيون أن يحولوا دون ذلك لأن سواد صفوفهم المتقدمة هي من أصول بورجوازية وضيعة والشيوعية ليست على أجندتها، أما الصفوف المتأخرة فإنها لا تختزن من الثقافة والعلوم إلا القليل.

النظرية الماركسية قامت أصلاً كعمارة كبرى من البناء الفوقي للنظام الرأسمالي. والبناء الفوقي لا يتشكل أصلاً إلا لينعكس أثره في البناء التحتي فيعمل فيه تصحيحاً وتبديلاً لما يساعد على تقدم الإنسانية اجتماعيا. لكن أدعياء الحرية، أعداء الشيوعية، يحولون دون أن تؤثر الأفكار الماركسية بالبناء التحتي الذي انبثقت منه. أي معنى يبقى للحرية إذا ما أحيل التأثبر المتبادل بين البناء التحتي من جهة والبناء الفوقي من جهة أخرى. كان من المستحيل تفكيك النظام الرأسمالي الإمبريالي دون الإسترشاد بالماركسية وهي أهم عمارة في البناء الفوقي للنظام الرأسمالي. الإسترشاد السليم بالماركسية مثلما أحسن فعله كل من لينين وستالين ليس من شأنه فقط أن يعجل في القضاء على آخر خلايا الرأسمالية بل يعجل أيضاً في تفكيك الأزمة الصعبة التي يمر بها عالم اليوم.

بعض الذين أدركوا صعوبة الأزمة التي تمسك بخناق العالم اليوم وهي الأزمة التي أخرجت قاطرة التاريخ عن سكتها المعهودة، أدركوا ولو متأخرين أهمية الماركسية كرافعة جبارة تعيد القاطرة إلى سكتها. اليوم بعض الجامعات الأميركيه، وليس الروسية، أخذت تدرس الماركسية في بعض كلياتها اعترافاً بأهميتها وبصحتها. ولما كانت الماركسية أكثر الأسلحة فعالية في نقل العالم إلى فجر جديد وضاء، إلى عصر تغيب عنه كل مظاهر الوحشية والحيوانية فقد غدا واجب الشيوعيين الأول والوحيد هو نفض الغبار عن النظرية الماركسية مثلما كان لينين قد فعل في بدايات القرن الماضي.

بعض الأغبياء الذين في غفلة من الزمن دفعت بهم الظروف الاستثنائية لأن يكونوا قادة لفلول أحزاب الأممية الثالثة ما انفكوا يزعقون عالياً في تحشيد الناس للنضال ضد عدو لم يعد موجوداً، لحشد الناس في مسيرة يقودونها إلى الضياع طالما أنهم لا يعرفون إلى أين ولن يعرفوا! نقول لهؤلاء من ذوي الأصول البورجوازية الوضيعة.. العمل الشيوعي اليوم بعد أن انهار مشروع لينين بفعل سوء صنيعكم يقتصر فقط على إحياء الماركسية، ماركسية ماركس وليس ماركسية المجددين المزعومين من أيتام سيء الذكر خروشتشوف. العمل السياسي، أي عمل سياسي، أصبح جهداً ضائعاً طالما أن السياسة ليست إلا أدب الصراع الطبقي والعدو الطبقي اليوم للبروليتاريا لم يعد محدداً تماماً والزعم بأنه ما زال الرأسمالية الإمبريالية أمر يدعو للسخرية والضحك حيث أن من يزعم هذا الزعم لا يعرف حرفاً من ألفباء الرأسمالية ومن شروط الإنتاج البروليتاري. ليناضل الشيوعيون من أجل تعميد الماركسية كنظرية شاملة للحياة وهي الصخرة التي سيبني عليها الشيوعيون الحياة كاملة الإنسانية

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01