أحد قرائي الفصحاء أرسل إلي يعترض على ما أسندت من دور لنيكيتا خروشتشوف في إنهيار الإتحاد السوفياتي متسائلاً فيما إذا كان يصح أن يعزى انعطاف تاريخي كبير وحاد كانهيار معسكر الدول الإشتراكية لفرد بعينه !!
أعترف لقارئي الذكي أنني لم أحاذر بما يكفي كيلا أقصر الإنهيار الذي أحاق بالإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي بأجمعه على شخص خروشتشوف والعيوب الفظيعة التي تكشفت فيه خاصة وأنني كماركسي أقرّ دون أدنى تردد بأن الظروف هي التي تصنع الفرد مهما كان عبقرياً وذا قدرات مميزة. لكنني أيضاً وكماركسي كذلك لا بد من الإعتراف بأن للفرد دوراً هاماً في صناعة التاريخ. فلا يمكن تجاهل دور لينين في انعطافة تاريخ العالم بثورة أكتوبر التي تحولت فيما بعد إلى ثورة اشتراكية وصنعت تاريخ القرن العشرين الذي انتهى إلى ما نحن عليه اليوم. كما لا يمكن تجاهل دور ستالين الحاسم في بناء الإشتراكية السوفياتية التي غيرت وجه العالم، أو تجاهل دور تشرتشل عجوز الإمبريالية بالمقابل في إطلاق شرارة الحرب الباردة وما استدعاه من توتير الأجواء وتكديس للأسلحة على حساب التنمية وخبز الفقراء. وبذات الأهمية لعب خروشتشوف دوراً كبيراً في انهيار الاتحاد السوفياتي والعصف بمشروع لينين الذي جاء كأكبر محاولة جدية في تفكيك الرأسمالية العالمية وعبور البرزخ الإشتراكي نحو الشيوعية.
كان من أخطاء ستالين أنه مات في الخامس من آذار 1953 !!! رغم كل اليقظة الفائقة الفائضة عما لزم فإنه انتظر أكثر من سنة ونصف السنة دون أن يعدم لافرنتي بيريا، وزير أمن الدولة، رغم تورطه في مؤامرة عصابة الأطباء اليهود التي استهدفت حياة أبرز قادة الحزب والدولة. لم يعدم بيريا ولم يتخلص منه ومن المتواطئين معه مبكراً بالرغم من أن ستالين كان قد أدان بيريا بتهمة التقصير في الحفاظ على أمن الدولة السوفياتية. نقول أن ستالين أخطأ في أن مات مبكراً لأنه تبيّن فيما بعد أن بيريا متورط في التآمر على حياة ستالين. لو بقي ستالين حياً لأربع سنوات أخرى ونفّذ برنامجه في إغراق المجتمع السوفياتي بالسلع الإستهلاكية كما عبرّ عن توجهه ذاك في مناقشات القيادة للمسألة الزراعية في العام 1950، لو تم ذلك لما استطاعت القيادة العسكرية لمجمع الصناعات العسكرية الإستيلاء على مقاليد السلطة الفعلية وتحييد الحزب، ولما قبلت جماهير الشعب أن تستبدل الحياة المدنية بالحياة العسكرية كما جرى بقيادة خروشتشوف. وهنا تحديداً نؤكد دور الفرد في صناعة التاريخ مع التأكيد بنفس الوقت أن التاريخ هو ما يصنع الفرد.
قبل أن أشرح المسألة المطروحة أود أن أعبّر عن بالغ الأسف لأنني سمحت لأحد الفصحاء أن يفهمني على غير ما أكون ثم أقول ــ

1.أعود لمسألة الخلاف في قيادة الحزب بين نيقولاي بوخارين يؤيده رئيس الوزراء ألكسي ريكوف مع ستالين والآخرين من أعضاء القيادة في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي ومطلع الثلاثينيات. كان شعار بوخارين الشهير quot; فليغتني الفلاحون quot; وهو ما يعني تعظيم امتيازات الفلاحين وتنمية طبقتهم. كان ذلك ضد سياسة الحزب بقيادة ستالين الذي اعتقد أن بناء الإشتراكية لن يتقدم بتطوير الفلاحات الفردية بل العكس هو الصحيح. الزراعات التعاونية هي وحدها الزراعة التي تترافق مع عبور الاشتراكية.
2.في الأعوام 1934 ـ 1937 ظل ستالين يعيد الموازنة التقديرية للجيش إلى القيادة وعلى رأسها المارشال توخاتشيفسكي بطل الحرب الأهلية، التي ألحت باستمرار على تحديث القوات المسلحة ، كان يعيدها بهدف خفضها بحجة أن كل روبل ينفق على العسكرة من شأنه أن يعيق بناء الاشتراكية، وأطلق حينذاك شعار quot; العسكرة ضد الإشتراكية quot; فكان بالتالي أن تآمرت القيادة العسكرية على الحزب وكادت أن تقوم بانقلاب عسكري يطيح بالحزب. فانتهى الأمر إلى أن أطيح بالقيادة وصدر بحق سائر المتآمرين أحكام قاسية في العام 1938 وتم إعدامهم.
3.في 21 حزيران 1941 انتهز هتلر خلخلة البنية العسكرية في الجيش الأحمر وقام بخرق ميثاق عدم الإعتداء، روبنتروب ـ مولوتوف الموقع في آب 1939 وشن الحرب على الإتحاد السوفياتي بدون أدنى حجة مما دعا وزير الخارجية روبنتروب إلى الاستقالة. استطاعت الشعوب السوفياتية رغم مباغتة العدوان الهتلري أن تنظم صفوفها وتحشد كل طاقاتها وتهزم الجيوش الهتلرية شر هزيمة أذهلت الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا اللتين انهزمتا على أيدي الألمان. وعليه استطاع ستالين أن يفرض شروطه على كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في مؤتمر يالطه 11 شباط، ومؤتمر بوتسدام 28 تموز 1945.
4.ستالين بعد الحرب لم يكن هو ستالين قبل الحرب. كان قد عارض سياسة الثنائي بوخارين ـ ريكوف الزراعية في بداية الثلاثينيات لأن تنمية طبقة الفلاحين تشكل عائقاً للتنمية الإشتراكية. وفي الأعوام 1934 ـ 1937 عارض كل زيادة في الإنفاق العسكري لأن العسكرة ضد الإشتراكية. أما ستالين العائد من بوتسدام فقد بادر إلى تشكيل أضخم مجمع للصناعات العسكرية في العالم، له أن ينفق ما شاء من خزائن الدولة. وهكذا خلق ستالين طبقة عسكرية أكثر عداء للإشتراكية من طبقة الفلاحين وخوّلها الإنفاق ما شاءت من الأموال العامة.
5.أخذ ستالين يؤمن أن البناء العسكري أمر جوهري بالنسبة لوجود ومستقبل الإتحاد السوفياتي خاصة وأن القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي وقد أصدر الأمر بإلقائهما الرئيس ترومان بتحريض من تشرتشل مستهدفين ترويع ستالين وليس لدواع حربية، هاتين القنبلتين أشارتا ـ دون وجه حق على الأرجح ـ إلى أن الحرب التقليدية التي جرت وفقها كل معارك الحرب العالمية الثانية قد أصبحت من الماضي وعديمة الجدوى. ومن جهة أخرى تحقق ستالين واقعياً أن بإمكان الإتحاد السوفياتي توجيه مسار التاريخ بوساطة القوة العسكرية قبل قوة جبهة البروليتاريا العالمية الموحدة، وكأن تلك القوة العسكرية الجبارة كانت ستقوم بدون وحدة جبهة البروليتاريا.
6.منذ ما قبل إنتفاضة أكتوبر 1917 وحتى مارس 1953 امتلك الحزب القرار الوطني دون أن تشاركه جهة أخرى من أي نوع، وقد تعزز ذلك طيلة وجود ستالين في مركز الأمين العام للحزب. لم يدر في خلد ستالين أن القيادة العسكرية مهما تعاظمت قدراتها ودائرة نفوذها سوف تنازع الحزب يوماً على إمتلاك القرار الوطني. ونحن نوافق على أن القيادة العسكرية ما كان لها أن تنازع ستالين بالذات في السيادة على القرار الوطني.
7.أن يكون لبيريا دور في إنهاء حياة ستالين فذلك يرجح أن للقيادة العسكرية أيضاً دوراً في ذلك. وما يزيد في رجاحة ذلك هو الإطاحة بمالنكوف من مركز الأمين العام للحزب بالوكالة 1954 وتسمية خروشتشوف أميناً عاماً أصيلاً للحزب بسبب مطالبة مالنكوف بخفض النفقات العسكرية. وأطيح بمالنكوف من رئاسة الوزارة أيضاً بعد بضعة أشهر.
8.برحيل ستالين امتلك العسكر القرار الوطني ولم يعد الحزب إلا تابعاً طيعاً للعسكر في واجهته خروشتشوف. لعلنا نستطيع اليوم أن نعتبر أن هرطقات خروشتشوف النظرية، وهو الذي لم يقرأ كتاباً لماركس أو للينين طيلة حياته، وكل مزاعمه غير المحترمة عن شخص ستالين إنما هي من وحي العسكر وإرضاء لهم. يتضح ذلك عندما نزع المكتب السياسي للحزب ثقته من خروشتشوف في حزيران 1957 وكان عليه أن يتنحى مثلما فعل مالنكوف قبل ثلاث سنوات فقط. بدلاً من ذلك قام المارشال جوكوف بإحضار جميع أعضاء اللجنة المركزية بوساطة الطائرات الحربية النفاثة من سائر أطراف الإتحاد السوفياتي في اليوم التالي لتقرر اللجنة بطلان قرار المكتب السياسي وطرد جميع البلاشفة منه. كان ذلك إنقلاباً عسكرياً لأن اللجنة المركزية لا تجتمع إلا بقرار مسبق من المكتب السياسي، أي أن الإجتماع غير قانوني. بعد أن أمّن العسكر مركزه في الحزب، أحس خروتشوف إذّاك أنه أصبح أسيراً في قبضة العسكر فتآمر في خريف 57 مع عساكر آخرين وتمكن من طرد جوكوف من جميع وظائفه العسكرية والحزبية.
9.عاد خروشتشوف يردد شعار بوخارين quot; فليغتني الفلاحون quot; وعندما عارضه البلاشفة قبل طردهم بحجة أن هذه السياسة معارضة لسياسة لينين أجابهم خروشتشوف بكل وقاحة .. quot; شبعنا من لينينكم ولم نشبع الخبز quot;. من يقرأ مشروع هذا الغبي quot; استصلاح الأراضي البكر والبور quot; الذي تسبب بخسارة 30 ملياراً من الدولارات، من يقرأه يصاب بالذهول إذ كيف لغبي كهذا يصل لأن يحل محل العباقرة الأفذاذ لينين وستالين !! وكيف لمثل ذلك المشروع المهزلة أن يمر من تحت ذقون أشخاص أخصائين في الزراعة وفي المالية. إعتقد هذا الغبي أنه بقيادة طبقة الفلاحين يمكنه أن يبني الشيوعية كما وعد بها في العام 1990 !!! وهذا دليل قطعي على أن الرجل لم يقرأ صفحة واحدة من الماركسية اللينينية.
10.بعد أن تحقق خروشتشوف من فشل مشروعه السباعي الذي أقره مؤتمر الحزب الإستثنائي في العام 1959 وكان أول مشروع غير خماسي، ورأى نتائج مشروعه الزراعي الوخيمة أفاق من سكرة السلطة والأخطاء الكارثية التي اقترفها وانقلب ليقرر أن خفض النفقات العسكرية أمر لا بد منه، طالب بذلك وقد أخذه الغرور بالنفوذ الزائف في الحزب، ذلك الغرور الذي دفعه لشتم رفاقه في المكتب السياسي قبل الإنقلاب عليه ببضعة أسابيع قائلاً .. quot; خراء ستالين أفضل منكم quot;. تحقق العسكر من أن رجلهم قد استنفذ فانقلبوا علية خلال ساعتين فقط وخيروه بين الإعدام أو الإستقالة ففضل الأخيرة لأنه أصلاً من طينة البورجوازية الوضيعة.
11.العسكر الذين رفضوا ضرب المتظاهرين بقيادة بوريس يلتسن بالعصا، ويسقط بالتالي الإنقلاب على غورباتشوف، هم أنفسهم الذين ضربوا مبنى البرلمان والنواب المعتصمين فيه بالمدافع الثقيلة بعد سنتين فقط. إنقلاب يلتسن هو إنقلاب عسكري بكل معنى الكلمة. العسكر هم الذين فككوا الإتحاد السوفياتي وهم أيضاً الذين تآمروا على حكومات البلدان الإشتراكية وقلبوها لصالح الرجعية وخاصة في رومانيا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا. ما زال هؤلاء العسكر يمسكون بالسلطة وتقوم سياساتهم على مبدأ واحد وحيد وهو تصدير منتوجات مجمع الصناعات العسكرية من مختلف صنوف الأسلحة الحديثة وغير الحديثة. إنهم لا يصادقون إلا تلك الدول التي تشتري أسلحتهم بغض النظر فيما إذا كانت السلطات في هذه الدول معادية لشعوبها ولقوى التقدم. منذ ارتقاء خروشتشوف رأس السلطة في العام 1954 باع مجمع الصناعات العسكرية من الأسلحة المختلفة أكثر من قدرة العالم على الاستيعاب لدرجة أنك اليوم قبائل البلدان المتخلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تتقاتل بأسلحة سوفيتية وروسية.
صحيح أن إحتدام الصراع الطبقي في أوروبا في أواسط القرن التاسع عشر هو ما خلق ماركس الذي اكتشف محرك التاريخ فكان أن عرف الشيوعيون كيف يزيدون من تسارعه فكتبوا فعلاً تاريخ القرن العشرين، لكن ذلك ما كان ليكون لولا أن صادف احتدام الصراع الطبقي شخصاً عبقرياً من جهة وعلى استعداد لأن يكرس كل حياته بكل تفاصيلها لخدمة البروليتاريا وخدمة الإنسانية بالتالي من جهة أخرى. وصحيح كذلك أن اللينينية هي ما صنعت ستالين لكن لو لم يكن ستالين راهباً حقيقياً في خدمة اللينينية، ربّى ذاته على انكار الذات المطلق لما كان ستالين الذي عرفناه كباني لنظام اشتراكي لم تعرف الإنسانية مثيلاً له عبر التاريخ.
الذين أسسوا الحركة الشيوعية وكتبوا بالتالي تاريخ القرن العشرين ونحن ما نزال نعيش تداعياته، كارل ماركس، فردريك إنجلز، فلاديمير لينين و جوزيف ستالين، تميّز أربعتهم بالعبقرية التي يحميها ويربيها في كل واحد منهم إنكار الذات المطلق. تبارى هؤلاء الأربعة بإنكار الذات أكثر مما تباروا في العبقرية.
الحق أننا لا نستطيع أن نقول بأن الفرد يصنع التاريخ دون خشية الوقوع في الخطأ، لكننا دون شك نستطيع أن نقول بارتياح تام أن الفرد يخدم التاريخ. كذلك هو دور الفرد في صناعة التاريخ ـ الفرد المميز والتاريخي بالطبع وليس أي فرد. خدم ستالين بناء الإشتراكية في أضعف الدول الرأسمالية ( الحلقة الضعيفة ) وخدم خروشتشوف تهديم الاشتراكية في أكثر البلدان الإشتراكية تقدماً. من سخرية الأقدار أن تكون أصعب المسائل التي تواجهها الحركة الشيوعية اليوم هي تحديد أيهما الشيوعي الحقيقي خروشتشوف أم ستالين ؟!
www.geocities.com/fuadnimri01