أميركا أسم ينطوي على اجحاف خطير بحق الشعوب والقبائل التي عاشت قبل وصول طلائع الاستكشاف الى تلك البلاد. لم يجد سكانها الأصليون ضرورة اطلاق اسم على قارة كانت هي الأرض كلها ومركز الكون بالنسبة إليهم، لكن السفن المغامرة بحثا عن الثروات وتصدير عقائدها رست على تلك السواحل وأفرغت بضائعها من الأسماء. حين تتحدثون عن اكتشاف أمريكا ndash; يقول أحد السكان الأصليين ndash; فانكم ترتكبون خطيئة بتجاهل سلالات من اسلافنا مقلدين أخطاء الرجل الأبيض بجعلنا موضوعا تابعا لمعرفته و(اكتشافاته). بلاد الهنود الحمر الذين أبيدو بقسوة تحت غطاء آيديولوجية التفوق العرقي والديني، تشهد الآن ولأول مرة في تاريخها تسنّم رجل أسمر مقاليد الرئاسة.

لم يأت الأبيض الى بلاد الهنود الحمر بالأسماء والبارود وفيروساته القاتلة فقط بل وشيّد مستعمرة لجرثومته الخبيثة (المركزية البيضاء). كانت بلاد الأساطير والآلهة المتواضعة ستتحول الى حقول ومصانع وقودها المستعبدين السمر المسروقين من ربوع أفريقيا. وهكذا كان quot;الاكتشافquot; المجيد- في واحد من وجوهه- طريقا الى تأسيس نظام استعباد محكم تحرسه الى جانب البنادق قوانين الأبيض الأرضية والسماوية. أو ليس من المؤسف حقا أن تكون هذه هي حقيقة التحول الخطير في تاريخ البشر وبداية التقدم الذي يشهده العالم الآن وندين بالجزء الأعظم منه الى أمريكا (الملتبسة)!

طريق وصول أوباما الى سدة رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية يمتد عميقا في تاريخ الافارقة الأمريكيين ونضالهم ضد سيادة الأبيض. ولعل فوزه يعطي الآن ndash; في واحد من وجوهه أيضا - معنى لتضحية أولئك الأحرار من بني جلدته ممن رفضوا الخضوع لسطوة الأبيض وحطموا أقوى نظام استعباد. إن قصة نضال الأفارقة من أجل الفوز بحقوقهم الانسانية ضمن نظام الرجل الأبيض على بلاد الحمر هي الأبرز في تاريخ الصراع اللوني على هذا الكوكب وما كان لها أن تثمر لولا وجود فرسان أحرار في صفوف البيض آمنوا بقيمة الانسان وحقه في المساواة.

مازال التاريخ الأسود للرجل الأبيض في استعباده لأخيه الأسمر يثقل ضمير الحاضر الأمريكي بل قل هو ذنب حي مازالت الأداب والفنون هناك تقلبه من كل الوجوه. إنه شبح الماضي المروع والمخجل أيضا الذي يحاصر تلك البلاد وابناءها. من جهة اخرى أفرزت حقبة العبودية السوداء تلك نقاشا هاما بدأ بتفكيك فلسفة المركزية البيضاء ومساءلة تفوق الأبيض المفترض على اخوانه من البشر. عانت الولايات المتحدة طويلا قبل أن تصل الى قبول السمر مواطنين سواسية مع البيض وتحرس حقوقهم بالقوانين لأن المجتمع لم يكن يقبل التغيير القادم إليه من القمة. الدعوة الى اجتثاث المركزية البيضاء والتي ظهرت في (أمريكا) في العقد الأخير من القرن العشرين كانت تستهدف تعديلا اخلاقيا في المجتمع الأمريكي يحسم صراع الألوان ويفند وهم التفوق لدى الأبيض ليس من خلال القوانين والمواد الدستورية حسب بل وبتعديل النظام التعليمي والمناهج لحذف المظالم من التاريخ الرسمي لتلك البلاد. كان ممثلوا الدعوة المذكورة يتحدثون عن عنصريتين تعملان بجد في المجتمع الأمريكي : الظاهرة والباطنة. للظاهرة طبعا تجليات بينة في الأحداث اليومية والأخبار اليومية التي تتحدث عن التمييز العنصري، أما الباطنة فهي تلك التي تنبض في قلب المعضلة والتي تضع أمام الأبيض سؤالا هاما:
هل يعني قبول الأبيض لأخيه الأسمر هو في حقيقته تبييض للأسود؟
من الثابت أن الأفارقة الأمريكيين الذين لعبوا دورا على الساحة السياسية مؤخرا كانوا يمثلون العقلية البيضاء التي سحقت بقسوتها أسلافهم وجردتهم لأجيال من كرامتهم كبشر. إنهم الآن - وكعادة كل الشعوب والأمم على هذه الأرض- يلعبون دورا آخر في مأساة أخرى ليس هم الضحية فيها هذه المرة. الدكتورة كونداليزا رايس نطقت بعد صمت كصمت جدار لتقول : quot;هناك شعوب غير قادرة على حكم نفسها مثل الشرق -أوسطيين والأمريكان السودquot;. مسكينة رايس إنها تقلد سيدا متكبرا داس رؤوس اسلافها في الماضي القريب.

لا يسعى كلامنا هنا الى النيل من بريق الفوز الساحق لأوباما ولكنه تساؤل يهدف الى ما وراء ذلك البريق. اشارة تهدف الى اثارة الانتباه كما في قصة الامبراطور العاري الموهوم بثوبه الجديد. هل سيكون أوباما أبيض في ادارته بلاده أم سيزوره أسلافه في الحلم ليهمسوا له بعذاباتهم علّه يكون رؤوفا بالآخرين أسمر كالسيد المسيح الذي سرقت سمرتَه أيقوناتُ الأبيض. ترى هل سيرود الطريق الى الاعتراف بالخطيئة الأكبر في سلب البلاد من سكانها الأصليين ويسعى الى التكفير عن ابادة الهنود الحمر، هل سيحاول أن يكسر عزلة الأحمر ويحرر الأسود من رواسب الماضي الأليم، أم سيكون أكثر بياضا من الأبيض نفسه؟

حسن ناصر