لنلج صلب الموضوع مباشرة دون لبس ولامقدمات، هل القيم ثابتة أبدية أصلية في المجتمع الأنساني؟ أم أنها متغيرة نسبية تتأصل فيه رويداً رويداً على شكل دفقات؟ وهل هي ثابتة وأبدية وأصلية لأن المجتمع البشري يجب بالضرورة أن يكون على هذه الشاكلة وبحكم طبيعته الميتافيزيقية أو حتى بحكم خصائصه الذاتية؟ أم أن كائن سام متعال زرع / غرس / أصلها فيه حسب إرادته هو ووفقاً لمشيئته الأولى الأزلية؟ أم أنها متغيرة نسبية وتأصلت فيه نتيجة الظروف الموضوعية السائدة في كل حضارة أو مجتمع؟ أم أنها تتسم بالقاسم المشترك ما بين كل المراكز المدنية؟ أم أنها تتغير وتتأصل حسب كل مرحلة من مراحل التاريخ الأساسية والجوهرية؟. على ضوء تشخيص هذه الأسئلة وما شابهها وكيلا نجحف بحق أحد ونغمط عليه قوة الأستنباط نسبر غور الموضوع في المجالات الفراغية المعنية لتستقر الأعمدة في بقعة التحليل الموائم لركائز الفكر الأساسية. المجال الأول : البعد البنيوي. يقول محمد قطب في مؤلفه ( جاهلية القرن العشرين ) إن الغرب بات يشكو من تفكك الأسرة و زيادة نسبة الأنتحار والأغتصاب والطلاق وأنتشار العنف والجريمة ومشكلة الأدمان وتفاقم البؤس نتيجة فقدانه للقيم الدينية ونزوعه نحو الجنس وفجور النفس ورذائل المادية الملحدة. وقريب من هذا المحتوى يجزم عباس محمود العقاد في مؤلفه ( الشيوعية والأنسانية ) دون أن يدرك مكامن الأختلاف ما بين المتناقض والمتعارض في المذهبين الأشتراكي والرأسمالي، وهو عين ما يقره الدكتور الصاوي أحمد الصاوي في مؤلفه ( القيم الدينية وثقافة العولمة ) إن الأنسان ndash; عانى بسبب بعده عن الدين الصحيح من القلق والأضطراب والتعاسة وفقدان مشاعر الأمن ndash; ثم يردف ndash; أنتشار الجريمة والعنف والإدمان والأمراض النفسية والعصبية وزيادة نسبة الأنتحار والطلاق والأغتصاب والقتل وسبطرة مشاعر الأغتراب والوحشة والبؤس والرعب الذي ساد معظم دول العالم المتقدم -. هذه الرؤيا واهية لاتصمد أمام قوة التحليل وبداءة نقول أن لنا مآخذ أكثر صرامة على النظام الرأسمالي بل إننا على الطرف النقيض منه، فهو لايشكو من تلك المشاكل لأنه أبتعد عن القيم الدينية بل لأنها صميمية في البنيوي الرأسمالي، وهو يفرز رغماً عنه أسبابها، فمن زاوية إن علاقات الأنتاج في النظام الرأسمالي تخلق السمة السائدة المناسبة لها بطبيعتها وهي لاتكف عن التحول والتطور. وفي صيرورة وميكانيزم تحولها وتطورها تهرس القديم وتسحق ما يعاكسها ويعرقلها وتفرز على أثر ذلك جملة معطيات نحن نراها سلبية وهي تراها إيجابية لأن لديها حصانة تاريخية ولأن الجديد في المتحول يفرض قوانينه في الأجتماع والأقتصاد خالقاً سمته المرتبطة به بنيوياً. ومن زاوية أخرى إن الفلسفة الفردية في التصور الرأسمالي هي الأساس الأخرق لهذا الأنفلات العارم للرأسمال المالي المتسرطن، وهاهو بولجاكوف على سبيل المثال يعتقد في مؤلفاته ( فلسفة الأقتصاد ) و ( الأشتراكية الرؤيوية ) إن الأستقلالية الفردية هي منبع ومصدر السعادة والرخاء والتطور، بل هي ترتقي إلى مستوى الكينونة التاريخية. ولن أجازف أن قلت إن الفلسفة الوجودية هي إحدى النتائج السقيمة لسطوة النظام الرأسمالي، وإنها من جانب آخر شخصت هذه السطوة إلى درجة الأنبهار لاسيما لدن كل من جان بول سارتر، كيركجارد، هيدجر، أميل زولا، مارسيل ياسبرز. المجال الثاني : البعد الأجتماعي. يزعم الدكتور الصاوي أحمد الصاوي أن القيم معايير ومقاييس من شأنها ضبط العدالة والمساواة بين البشر فلا يجب ترك أمورها للأهواء البشرية، حتى لاتكون محلاً للعبث والتلاعب والأنتقاص، فلايمكن أن يكون الأنسان نفسه محل الفعل والتقييم والمعايرة، وان يكون هو أيضاً المعيار والمقياس في الوقت نفسه... ثم يستطرد... وإلا فتح الباب للأهواء والرغبات الذاتية ومن ثم للفساد والأستبداد وفتح المجال لتسلط الأنسان على أخيه الأنسان بسبب فقدان المعيار الإلهي الذي هو أساس القيم ) ويردف مستطرداً ( إن القيم المادية الوضعية تنزل بصاحبها إلى درجة السقوط، وذلك يرجع إلى طبيعة مستواها المادي المحسوس ). هذا الكلام إنشائي نظري محض لايتعظ بالواقع في حده الأدنى ولو صدق لما هاجر الملايين من بلاد ndash; المعيار الإلهي ndash; إلى بلدان ndash; المعيار البشري ndash; ولكانت العملية بالتأكيد معكوسة أي لهجرت الملايين من الموطن الثاني إلى الأول. ولايخفى على أحد أن الغرب قاسى هو الآخر من سطوة وسلطة الكنيسة ومن صكوك الغفران والحق الإلهي إلا أن الإرادة الغربية حسمت القضايا وفصلت ما بين الدين والدولة وتخلت عن الحق الإلهي لصالح الحق الطبيعي وأتجهت إلى إنشاء الدولة المدنية الحديثة التي تتمتع الآن بقيم لاتوجد في الموطن الأول، الألتزام الكامل بالدستور والقانون، الدستور فوق الجميع، اليمقراطية وصناديق الأقتراع، حرية الرأي والتعبير، الضمان الأجتماعي، الضمان الصحي، تحديد الحد الأدنى للأجور، لاعقوبة إلا بنص، تأهيل مرتكبي الجرائم، رعاية الطفولة والشيخوخة والمعاقين. فهل هذه القيم ساقطة لأنها قيم مادية وضعية ولأن طبيعة مستواها المادي المحسوس تفرض عليها ذلك؟!!، وهل ( المعيار الإلهي ) الذي هو أساس القيم!! مطبق في المجتمعات ( المتروك أمرها ) للأهواء والرغبات أم في المجتمعات الأخرى؟!! أم للدكتور الصاوي رأي آخر!!! ثم ليقل لنا سعادته أين هو المعيار الإلهي في مجتمع يحضر الرئيس نجله لأستلام الرئاسة ( حسب الأهواء والرغبات الذاتية ) أم في مجتمع غربي أمريكي يستلم أفريقي أسود مقاليد الرئاسة ( بقوة القانون والديمقراطية )؟!! أما فيما يخص فكرة كيفية أن يكون الأنسان نفسه المعيار ومحل المعايرة، فثمت خطأ في القياس والأستدلال، إذ ليس الشخص الفرد هوالمعيار ndash; كما توهم الدكتور الصاوي ndash; إنما التجربة البشرية والتاريخ الأنساني هما المعيار، وما يتوجب على الفرد والجماعات إلا الألتزام، وهو الحاصل فعلياً في الغرب. المجال الثالث : البعد العقائدي. يقول الدكتور الصاوي إن القيم الدينية، هي من أهم القيم على الإطلاق وهي الأساس الذي تنطلق منه جميع القيم الحاوية لكل القيم النبيلة فهي تفوق جميع القيم، وترجع أهميتها إلى إن الدين هو أساس القيم والوعي بها والساعي دائماً إلى تدعيمها، وهي قيم روحية قادرة على هداية حقيقية لأنها من صنع الله الذي خلق النفوس وأوردها فجورها وتقواها. ولقد أرسلت الأديان جميعاً وعلى رأسها الأسلام قيماً منزهة عن كل منفعة شخصية ). بلاريب، حسب هذا الكلام، وحسب الشريعة الإسلامية، إن القيم كانت ناقصة قبل مجيء الرسالة المحمدية ثم أستكملت في عهد الدعوة ولابد أن تمكث على تلك الشاكلة إلى آبد الآبدين لأنها تجسد المشيئة الإلهية. لكن على ما يبدو للتاريخ البشري رأي آخر، رأي ينطلق من حيثيات الواقع وتفاعله وتطوره وذهنيته ومشاكله وإشكالياته ليستتب على قارعة رصيف إجتماعي يخدم الجميع، يسعى إلى تأهيل الكل. لنضرب مثلين بسيطين دون ثالثهما في هذا الخصوص : عقوبة القصاص والإعدام، وعقوبة السرقة. لقد أقرت الشريعة الإسلامية الغراء المبدأ الأزلي البات بصدد القصاص - ياأيها الذين آمنوا كتب ( فرض ووجب ) عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ndash; النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ndash; والحرمات قصاص فمن أعتدى عليكم فأعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم ndash; ( صدق الله العظيم ). بينما نجد إن الدساتير الحديثة الوضعية ترفض مبدأ القصاص والأعدام جملة وتفصيلاً، وهاهو الدستور الألماني الوضعي، على سبيل المثال، يقر في مادته الأولى ndash; حرمة الأنسان لاتمس ndash; ( بضم التاء ) وهو لايمايز ما بين الحر والعبد ولا مابين الأنثى والذكر. وتطابقاً مع رؤيته الفكرية الفقهية الفلسفية الأجتماعية لايرفض مبدأ القصاص والإعدام فقط إنما يتكفل بإعادة تأهيل وأصلاح ( المجرم ). أما فيما يخص عقوبة السرقة فإن العقيدة الإسلامية أمر بقطع يد السارق والسارقة وأعتبر ذلك كحد من حدود الشرع الإلهي ndash; نلك حدود الله فلاتعتدوها ومن يتعد حدود الله فأؤلئك هم الظالمون ndash; ( صدق الله العظيم) ولاندري لماذا أسقط سيدنا عمر بن الخطاب ( رض ) حد الله في السرقة عام المجاعة!! أم إن حدود الله تتبع مسوغاتها والظروف الموضوعية التي تحيط بها!! وإن صدق ذلك فإن لنا حديث آخر مع الدكتور الصاوي. حديث تصادق عليه الدساتير الوضعية في العلاقة ما بين الفعل المكون لمحل الجريمة والظرف المسبب الدافع لتنتفي فيها الرؤيا المثالية التأملية البحتة التي يتمتع بها الدكتور الصاوي والتي لاتبصر الواقع البته وتتغافل عنه. المجال الرابع : البعد التاريخي. إن العلاقة مابين الدالة والمدلول في المقولات الفلسفية الأكسيولوجية ( الحق، الخير، الجمال ) ليست جامدة ثابتة مطلقة أحادية الجانب، هي تتغير إلى درجة التحول في المنعطفات الأساسية للتطور البشري، كما أنها لاتتغير أو تتحول نتيجة الظروف الموضوعية فقط كما يتوهم البعض إنما هي تملك صيرورتها الخاصة في الإدراك والتطور. لإن القيم في المحصلة هي نتائج وضوابط للفهم والنشاط البشريين وليست حالة واحدة منها، وهذا هو التفارق ما بين وعينا للقيم ووعي الدكتور الصاوي لها. لنأخذ موضوعين متميزين في القرآن الكريم وثلاثة مقولات أساسية متعلقة بجوهر الموضوع. لقد أقر القرآن الكريم - و جمهور الفقهاء أيضاً ndash; مبدأ الناسخ والمنسوخ كما أكد مسألة التدرج في إقرار وتطبيق بعض الحدود الإلهية، فالله جل وعز ينسخ مايشاء ويبدل ويغير مايشاء أو يأتي بما هو أفضل وأحسن من السابق ndash; حسب التعبير القرآني ndash; فهل كان القديم المنسوخ لايملك ( حاشا لله ) القيم المحتواة فيها والضروري لمضمونه الشرعي؟! أم إن التطور الداخلي في ( الحق، والخير، والجمال ) كان له رأي مغاير!!. وكذلك الأمر بخصوص مسألة التدرج، خاصة فيما تعلق الأمر بالخمر ndash; إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ndash; ( صدق الله العظيم )، فألم يكن القيم في هذه المسائل هي نفسها قبل آية التحريم كما هي الحال فيما بعدها؟!! أم إن الإرادة الإلهية على دراية مطلقة ( وحاشا لله أن تكون القضايا بطريقة مغايرة ) بكنه ( الحق والخير والجمال ). أما فيما يخص المقولات الثلاثة الآخرى وهي ndash; مشكلة الأخلاق، مفهوم الجريمة، فلسفة القانون ndash; فإن المتمعن في صيرورة ومكانيزم تطورها يدرك بكل وضوح وبساطة المعنى الدقيق لمفهوم القيم وبالتالي جوهر ( الحق والخير والجمال )، فالجريمة لم تعد عملية حسابية ndash; واحد زائد واحد، قاتل ومقتول ndash;، ولا الأخلاق قضايا بسيطة متعلقة بحسن النية، ولا فلسفة القانون مسائل هيكلية مطروحة بصورة جافة، إنما هي الثلاثة جزء من ديالكتيك التفاعل وتعد من مكوناته الجوهرية، فالكل يخضع للتجربة ( جزء منها وإحدى نتائجها معاً ). أي بأقتضاب وجيز، القيم هي معطيات بشرية في تاريخه وتطوره، تأخذ أصولها وأبعادها تطابقاً مع كل مرحلة معينة، وتتغير منسجمة مع المعطيات الجديدة، وتتحول لتبرهن على التقدم والتطور الحاصل في الفكر البشري ومفهوم ( الحق والخير والجمال ). فالعبودية لها قيمها الخاصة، والأقطاعية كذلك، وكذلك الرأسمالية....

هيبت بافي حلبجة