يبدو أن بعض القراء قد ذهبت بهم الشكوك و سوء التفسير و التحليل بعيدا جدا و هم يفسرون المقالات التي أنشرها حول تاريخ القمع المنظم و الوحشي لدولة و نظام البعث العراقي الراحل، و تصوروا أن تركيز الأضواء و تسليطها على جرائم و إنتهاكات نظام البعث معناه الوحيد وهدفه الأساسي الدفاع عن النظام العراقي الحالي أو الوضعية السيئة و الشاذة التي قامت بعد الإحتلال الأمريكي!!، وفي ذلك قمة الوهم و التفسير الخاطيء، فالأوضاع الشاذة التي عاشها الشعب العراقي طيلة أكثر من خمسة عقود و تحديدا منذ سقوط النظام الملكي الدستوري في العراق عام 1958 كانت تسير من سيء إلى أسوأ، و لم تخل أي مرحلة أو عقد عراقي معاصر من مجازر بشرية و إنتهاكات واسعة وفظيعة لحقوق الإنسان، ومنذ أن تسلط العسكريون و أشباههم ثم الحزبيون العشائريون ووصولا للتيارات الطائفية المريضة السائدة اليوم لم يعرف الشعب العراقي الراحة، و نشأت أجيال عراقية كاملة مشوهة فكريا و سلوكيا بفعل سياسة الحروب العبثية الشاملة و هيمنة الأميين و المتخلفين و الطائفيين على سدة السلطة، سوء سمعة و تاريخ دولة البعث لا يعني أبدا [ان البديل الذي قام قد تخلص من الأمراض الفكرية و السلوكية التي أحاقت بالمجتمع العراقي و بقواه السياسية و التي معظمها حاليا و خصوصا القوى السياسية التي نشأت في العراق بعد الإحتلال ذات جذور بعثية أو تدور ضمن ذلك الإطار، فجبهات الحوار و التوافق و غيرها من الطرف السني و جماعة الفضيلة و غيرها من الطرف الشيعي لا تنكر أبدا بأن قياداتها الحالية كانت من العاملة بجد و نشاط في مؤسسات حزب البعث الراحل!!

و بعضهم ودون أن نضطر لكشف الأسماء كان من المدافعين من على شاشات الفضائيات عن نظام صدام حتى ساعات رحيله الأخيرة!!، و كل الإصطفافات و التجمعات و الهيئات التي تمت و نمت و دخلت البرلمان و شاركت في العملية السياسية إنما كانت إستجابة لنزعات و تجمعات طائفية و عشائرية لا علاقة لها أبدا بمفاهيم التنظيمات السياسية و الفكرية الحقيقية، فالبعثي السني قد تحول بجرة قلم لسلفي متطرف بعد أن تدروش و لجأ لخيمته الطائفية بسبب الفراغ الفكري و السياسي المروع في العراق، أما البعثي الشيعي فقد تحول هو أيضا لحالة طائفية متعصبة و مارس التكتيكات القتالية و القمعية التي تعلمها و أتقنها في الجيش الشعبي البعثي في الميليشيات الطائفية التي نشأت بعد إنهيار سلطة البعث لتسد الفراغ القمعي و تساهم في الحرب الأهلية الساخنة، و لتاريخ القمع في العراق المعاصر أساطير و روايات لا زالت مرتسمة على أجساد العديد من الأحياء من الذين قدر لهم حظهم العاثر أن يقعوا بين براثن آلة القمع المتوحشة تلك، فالتعذيب في النظام البعثي كان من الطقوس المقدسة منذ تجربة البعث الأولى في السلطة عام 1963 حيث كان أعضاء القيادة القطرية العراقية بقيادة الرفيق علي صالح السعدي تمارس بنفسها التعذيب في لجان التحقيق الخاصة ضد خصومها من الشيوعيين و الديمقراطيين و أهل اليسار العراقي عموما، و كانت عمليات الإعدام و التصفية الجسدية الشاملة يصدرها الرفاق القياديين من دون محاكمة و لا أي ضمانات قانونية أخرى، و كان إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم و رفاقه في مبنى الإذاعة في التاسع من فبراير 1963 عملية فوضوية لم تستغرق سوى دقائق معدودة، كما كان تصفية القيادة الشيوعية العراقية في مقرات اللجان التحقيقية عملية نمطية فبعض القادة الشيوعيين تعرض لعملية كسر الظهر و بعضهم قطع لسانه و ذبح!!

و بعضهم قطع بمنشار كما فعل الجلاد ناظم كزار الذي بنى شهرته الحزبية على ساديته الدموية و نزعته الإرهابية، و في عهد حكم البعث الثاني و الأخير إعتبارا من عام 1968 و حتى عام 2003 حيث النهاية تميز البعثيون بإحياء الموات من المعتقلات و باشروا في قصر النهاية و على يد القيادات البعثية الشابة و الجديدة و في طليعتهم صدام حسين ذاته عمليات التعذيب الفظيعة للضباط القوميين و للسياسيين المخالفين لهم مثل ما حصل مع مجموعة عبد الكريم فرحان و الضباط الناصريين و القوميين و السيد خير الدين حسيب و عبد الكريم هاني و أديب الجادر و غيرهم الذين تعرضوا لتعذيب وحشي يفوق التصور وفقا للروايات المنشورة و الموثقة و المعروفة، ثم كانت الحملات الإرهابية ضد الشيوعيين أيضا و ضد قوى الإسلام السياسي الناشيء وقتذاك و بأساليب يعجز الشيطان ذاته عن إبتكارها مثل الطلب من المعتقل فتح فمه ليبصق فيه مريض بالسل الرئوي!! لتنتقل العدوى بشكل مباشر ثم يطلق سراح المعتقل بعد أن تحول لجرثومة متنقلة!! فاشية غريبة و مريضة لا نظير لفرادتها!

كما كانت القيادة الحزبية بدلا من أن تقيم في الثغور مدافعة عن كرامة الأمة فإنها أقامت في المعتقلات و مراكز التعذيب كما كان الحال أيام المؤامرة المفبركة لأواخر يناير 1970 و التي تم خلالها إعدام أكثر من 60 شخصية عراقية في قصر النهاية بأوامر صريحة من المشنوق طه ياسين رمضان الجزراوي و بقية شلة الحكم البعثي المعروفة حيث كانت ولائم الشراب و الطعام تقام على شرف الجثث المنبطحة ظلما و عدوانا في حديقة قصر الرعب ذلك!، وبعد جولات الدم و الصراع بين البعثيين المتنافسين أنفسهم تم الإلتفات للحركة الدينية الجديدة في بداية الثمانينيات وحيث صدرت قوانين الإبادة البشرية الشاملة و الإعدام بالجملة عن طريق محاكم الثورة و المحاكم الخاصة و القرارات القراقوشية الأخرى التي تهدف لإبادة الخصوم عن بكرة أبيهم، فنظام البعث كان لا يعترف سوى بالإبادة الشاملة كحل أوحد و نهائي لكل المشاكل و المعارضين!!

وهو ما أنعكس بكل تأكيد على سلوكيات و تفكير أهل المعارضة السياسية الذين تم تشريدهم في دول الجوار بل أنهم عانوا مشاكل الغربة الحقيقية و مشاكل التعامل مع الأجهزة المخابراتية لدول اللجوء و الحماية و الدعم خصوصا و أن الإنشقاقات الداخلية قد أضحت من الظواهر المعاشة التي دمرت و أضعفت العمل المعارض و هشمته و لولا المبادرة الأميركية العملية و الإستعدادات الكبرى لشن الحرب و إسقاط النظام بالقوة المسلحة لما تمكنت المعارضة من أحداث و لو خدش واحد في رقبة النظام الذي رغم ضعفه الهائل و تحلله الكبير بعد الهزيمة في الكويت و حرب عاصفة الصحراء كان قادرا بالكامل على سحق شعبه بل و تفنن في سن القوانين الغريبة و العجفاء و المتوحشة كقطع الأذان ووشم الجباه و جدع الأنوف و قطع الأطراف و من ثم اللجوء صوب قوانين الأعراف العشائرية كغسل العار و جرائم قطع رؤوس النساء بحجة المحافظة على الشرف و الأخلاق، و ظلت الأحوال متدهورة حتى سقط النظام في الحرب المعروفة ليختتم فصل قاسي من فصول التاريخ العراقي و تبدأ مرحلة أخرى لا بد أن يكون ضمن مفرداتها الإنتقام و هو ما حصل فعلا خصوصا و أن هنالك عمليات كبيرة من تصفية للحسابات بين القوى الإقليمية كانت المعارضة العراقية خلالها أداة من أدوات الصراع الإقليمي، فالقوة الدينية العراقية و أحزابها و خصوصا حزب الدعوة تعرضت لإبادة شاملة فلا ننتظر بعد ذلك منهم أن يتحلوا بأخلاق ألأنبياء و يصفحون عمن قتلهم و تفنن في تعذيبهم لذلك تمت كل عمليات الإنتقام التي عرفناها و سمعنا عنها في سجن الجادرية أو أبو غريب أو أماكن الإعتقال الأخرى، لقد شاعت في العراق و لا زالت ثقافة الإنتقام و حوار الدم و عدم اللجوء لثقافة الإعتذار و بدء أو فتح صفحة جديدة من العلاقات ليس مقدرا لها أن تنمو أو تتطور في العراق، للأسف فإن العنف لا يقابله سوى العنف و هو ذو طبيعة تراكمية و سيادة ثقافة الحوار و التسامح هي أشد ما يحتاج له العراقيون اليوم لتقرير طريق المستقبل، فالأوطان لا تبنى بالدريل الثاقب أو بالحزام النشف أو بأحواض الأسيد... العراق بحاجة لثورة ثقافية حقيقية، و تلك عملية ليست سهلة و لكنها بالقطع ليست مستحيلة بالمرة.

داود البصري

[email protected]