وردت إشارات عديدة خلال الفترة المنصرمة وهي تؤكد وجود محاولات من قوى سياسية عراقية تهدف الى إضعاف الدور الكردي في مركز القرار السياسي في العراق، وسرت بشائر هذه المحاولات من داخل السلطة التشريعية المتمثلة بالبرلمان العراقي.


وهذه المساعي أو بالأحرى النوايا التي يضمرها بعض القوى السياسية العراقية للدور المتعاظم للقيادة الكردية في العراق الجديد، وهو دور لم يكن مسبوقا في مراكز القرار السياسي العراقي منذ تشكيل الدولة العراقية حتى أدى بالقيادة الكردية الى أن تغتر بنفسها وتمضي الى أشواط بعيدة في رفع سقف مطالبها في العراق الجديد مستغلة ضعف الحكومات العراقية التي توالت على الحكم منذ سقوط النظام السابق بسبب الصراع الطائفي والسياسي الذي عصف بالقوى السياسية العراقية خلال السنوات الأخيرة، خصوصا من السنة والشيعة،فقد أخذت العزة بتلك القيادة المنتشية بتعاظم دورها في العراق الضعيف، حتى أوغلت في لعبة سياسية تدرك مسبقا نتائجها السلبية من خلال التحالفات الهشة مع بعض القوى السياسية، وهي تحالفات كانت أشبه بزواج المصلحة منها بتحالفات إستراتيجية أو مصيرية، بدليل أن كل تحالفاتها مع تلك القوى قد سقطت في أول إمتحان لها عندما تم تمرير قانون إنتخابات مجالس المحافظات بذلك الشكل المسرحي داخل البرلمان..


فهذه كانت إشارة تنبيء ببدء معركة القوى العربية ضد الدور الكردي في العراق.سبقتها إشارات متعددة، منها إشارة صدرت عن وزارة النفط والحكومة العراقية برفض العقود النفطية التي وقعتها حكومة إقليم كردستان مع عدد من الشركات العالمية للبحث والتنقيب عن النفط في كردستان، وهي عقود يصر وزير النفط على رفضها الى حد التلويح بالإستقالة في بعض الإحيان، رغم أهمية تلك العقود بالنسبة لإحياء البنية التحتية للإقتصاد الكردستاني وهو جزء من الإقتصاد العراقي؟!.


وإشارة أخرى سبقت تلك، وهي محاولات بعض القوى السياسية العراقية لتقليل الحصة المقررة لإقليم كردستان من ميزانية الدولة من 17% الى 13%، ورغم ترحيل هذا الموضوع الى مصادمة لاحقة، ولكنه ما زال قيد الدرس والحشد السياسي له من قبل القوى العراقية.

وأبلغ إشارة لإضعاف الدور الكردي وصلتنا مؤخرا وتحديدا قبل يومين، وهي تتعلق بمشكلة تواجد قوات البيشمركة الكردية في مناطق خارج الإقليم،خصوصا في منطقة جلولاء، وهو ما أثار أزمة حقيقية كانت على وشك الإنفجار ليتلعلع إثرها الرصاص قبل أن يقدم القادة الكرد تنازلات لإحتوائها ونزع قتيل مواجهة دامية كانت لتصب بالتأكيد بإتجاه قيام حرب عنصرية بين العرب والأكراد؟!.

الضغط ( السياسي) الإنتخابي، والضغط ( الإقتصادي ) النفطي، والضغط ( العسكري ) ترحيل قوات البيشمركة، هي بمجملها إشارات تمهد لصراعات قادمة لا يستطيع أحد أن يتكهن بتداعياتها ونتائجها، خصوصا وأن القادة الكرد سبق وأن أشاروا في العديد من المناسبات الى أنهم شركاء في العراق الجديد، وأن لهم فيه حقوقا دستورية مقدسة يجب عدم المساس بها، ويعولون على هذا الدستور في المطالبة بحقوقهم ( السياسية والإقتصادية والعسكرية)، ولطالما هددوا باللجوء الى خيارات مرة في حال مصادرة تلك الحقوق الدستورية؟!..
فهل أخطات القيادة الكردية في التعامل مع الوضع السياسي في العراق الجديد، أم أنها إستهانت بظهوربوادر المد العنصري منذ فترة ضد الحقوق الكردية في العراق؟. والجواب على هذا السؤال هو بنعم؟!.

فالقيادة الكردية بإعتقادي تعاملت مع الأحداث والتطورات السياسية في العراق بعقلية الأحزاب المعارضة التي تحاول إنتزاع مكاسب لها من الحكومات التي تتفاوض معها، وليس بعقلية الشريك الفعلي بالحكم؟!.
ففي المناطق المحررة في جبال كردستان كانت هذه القيادة منفردة في حكمها من دون منازع، ورغم تعددية الأحزاب الكردستانية أثناء سنوات الثورة الكردية، ولكن الحزبان الكرديان الإتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني إنفردا بالساحة وبقيادة الثورة وبالقرار السياسي فيها، وبعد الإنتفاضة في كردستان عام 1991 إنفردا أيضا بإدارة شؤون الإقليم وتقاسم الحكومة الإقليمية والبرلمان مناصفة بينهما مع تهميش جميع الأحزاب الكردستانية الأخرى.

هذه العقلية، وهي عقلية التحكم بكل شيء في كردستان قادت القيادة الكردية الى دخول معترك العملية السياسية في العراق الجديد طامحا الى دور قيادي كبير في إدارة شؤون الدولة العراقية، وما ساعدها على ذلك، هو ظهور بوادر الصراع الطائفي في العراق. فقد إنطلقت الأحقاد الطائفية لدى السنة والشيعة لتتناثر الجثث في المدن ويصتبغ الشارع العراقي بالدم، وكان في الطرف الآخر التهديد الإرهابي متمثلا بتنظيم القاعدة الذي بات وجوده ونشاطه الإرهابي يهدد كيان الدولة الجديدة، فأصابت تلك التهديدات الطائفية والإرهابية الحكومة العراقية بالضعف الشديد، فإستغلت القيادة الكردية تلك الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة وتمكنت من إنتزاع حقوق دستورية غير مسبوقة للشعب الكردي، وقد لا ينكر الكثيرون هذه الحقوق الدستورية على الشعب الكردي الذي إختار طوعا الإنضمام الى العراق بعد كل تلك التضحيات التي قدمها في سبيل الديمقراطية والفدرالية في العراق لو كانت في ظروف طبيعية ومن خلال النضال الديمقراطي والسياسي، ولكن الكثير من الأحزاب العراقية رأت في تلك الحقوق إغتصابا وإستغلالا لأوضاع سياسية وأمنية كانت تهدد العراق كدولة، فرضخت حينها للضغوطات الكردية وأقرت على مضض تلك الحقوق الدستورية.


وأعتقد أن إنتزاع المكاسب حتى ولو كانت حقوقا مشروعة للشعوب، سيكون مصيره الى الفشل لأنها تنتزع في ظروف غير طبيعية، خصوصا وأن تلك الظروف قد تدفع بالجهة المانحة لتلك الحقوق الى التنازل عنها تحت الضغط أو الضعف والإكراه. فعلى سبيل المثال إضطر صدام حسين في منتصف السبعينات أن يقدم تنازلات مشينة الى شاه إيران في مياه وأراضي العراق إعتبرها الإيرانيون حقوقا مشروعة لهم بموجب معاهدة الجزائر، ولكن ما أن إسترد صدام قوته حتى مزق تلك المعاهدة الدولية وداسها تحت أقدامه ليدخل حربا مدمرة لأكثر من ثماني سنوات حصدت مليوني قتيل وجريح، وكبلت العراق بمليارات الدولارات من الديون ما زال العراقيون يئنون تحت وطأتها الى يومنا هذا.

إن إنتخاب الزعيم جلال طالباني كانت مفاجأة غير مسبوقة في التاريخ السياسي في العراق، ورغم أحقية الرجل في هذا المنصب لتراثه السياسي وعطاءاته الفكرية ونضاله الدائب ضد الأنظمة الدكتاتورية، أضف اليها قوة شخصيته وثقافته وزعامته لحركة المعارضة العراقية قد أهلته لهذا المنصب الذي يستحقها عن جدارة، ولكن تعاظم الدور الكردي الى الحد الذي يدفع لإنتخاب قيادي كردي لدولة العراق كان بحد ذاته عصيا على الهضم والقبول لدى الكثير من القوى السياسية في العراق الذي يعتبرونه بلدا عربيا منتميا الى الوطن العربي الكبير، وهناك من لا يزال يعزف على هذا الوتر القومجي؟! والسبب أن هناك عرف ساد في العراق، وهو أن يكون الدور الكردي في مركز القرار السياسي دورا ثانويا وهامشيا لا يقترب من تقرير السياسات العامة في البلد، فنيابة الرئيس أو الحكومة أوالبرلمان وحتى الوزارات الهامشية وغير الفعالة وفي مؤسسات الدولة كانت هي الحصة الدائمة للأكراد في الحكم بحسب العرف السائد،لذلك لم تستطع العديد من القوى السياسية العراقية ومعها بعض الأنظمة الإقليمية والعربية قبول قيادة الرئيس طالباني للدولة العراقية، مازال هناك من لا يقبل بذلك على الرغم من نجاح طالباني في مسؤولياته لإداة الدولة لحد الآن، وعليه فإنني أتوقع أن تحدث أزمة سياسية كبيرة في حال شغور منصب الرئيس في العراق في حال لا سمح الله رحيل السيد طالباني أو إستقالته بسبب المرض الذي بدأ يتعبه كثيرا في الفترة الأخيرة.. فلا أعتقد بأن هذا المنصب سوف يعود للأكراد مرة أخرى خصوصا وأن هناك تكالبا من بعض القوى العربية على المنصب، أضف إليه الضغوط العربية والإقليمية بتنصيب رئيس عربي للدولة العراقية، ولو أخذنا بنظر الإعتبار المحاولات الجادة للقوى السياسية العربية في العراق بتحجيم الدور الكردي في الحكم، فإن هذا التوقع يتحول من الشك الى الحقيقة، مما يتطلب من القيادة الكردية أن تجهز نفسها لهذه المعركة القادمة في كل الأحوال..

بإستثناء الوجود المؤثر للرئيس طالباني على رأس الدولة،وبإستثناء النشاط المتميز الذي يبذله نائب رئيس الوزراء الدكتور برهم صالح الذي يخلق من لا شيء شيئا، خصوصا وأن منصبه كنائب لرئيس الوزراء هو بدوره منصب لا يتمتع بصلاحيات كثيرة، ولكن ثقل الرجل وسمعته النظيفة من الفساد ونشاطه الدؤوب في عمله الحكومي يتيح له بالمجمل أن يؤدي دورا بارزا في إدارة بعض شؤون الدولة خصوصا قيادته الناجحة للملف الإقتصادي في العراق، فكما أن ثقل الرئيس طالباني السياسي هو الذي فرض نفسه على منصب الرئاسة، فإن نشاط الدكتور برهم هو الذي يفرض نفسه فرضا على منصبه الحالي، و من دون الرجلين فإن الدور الكردي المؤثر في بغداد قد يتحول الى التهميش كما تخطط له القوى السياسية في العراق، فاليوم هناك تحركات من قبل العديد من القوى السياسية العراقية داخل البرلمان لتشكيل تحالفات جديدة وهي بمجملها موجهة الى الدور الكردي ونفوذه في مراكز القرار،ولو نجحت هذه القوى في مساعيها كما نجحت لحد الان من خلال تمرير قانون الإنتخابات ومنع توقيع العقود النفطية وتأجيل تعديل الحصة الكردية من الميزانية وأخيرا طرد قوات البيشمركة من مناطق تواجدها الحالية خارج إقليم كردستان، فإن الدور الكردي يسير بكل تأكيد نحو الضعف والتهميش كما كان في السابق، مما يتطلب من القيادة الكردية أن تبحث هذه المرة بعقلانية عن تحالفات سياسية حقيقية وضامنة بعيدا عن زواج المصلحة الذي لم ينفعها، ولن ينفعها في بناء بيته الداخلي.

شيرزاد شيخاني

[email protected]