تمر هذه الأيام الذكرى الستون لإعلان قيام دولة إسرائيل فوق أرض فلسطين التاريخية. وقد جاء إعلان تأسيس دولة إسرائيل قبل يوم واحد من انتهاء الإنتداب البريطاني في فلسطين، وبعد نحو ستة أشهر من صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 الذي أقرته الجمعية العامة في نوفمبر من عام 1947 والذي قسم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. يعتبر الإسرائيليون يوم تأسيس إسرائيل في الرابع عشر من آيار/مايو يوماً تاريخياً سجل عودة الدولة اليهودية إلى الخارطة العالمية. ولكن العرب يعتبرون هذا التاريخ quot;نكبةquot; سياسية وعسكرية واجتماعية بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدوها بخسارة الأرض وتهجير مئات الألوف من السكان العرب. لم يقبل الفلسطينيون والعرب القرار الأممي على الرغم من أنه منح الفلسطينيين نحو 45% من أرض فلسطين التاريخية. وقد استغلت إسرائيل الرفض العربي في ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية في حرب 1948 التي اندلعت بعد يوم من إعلان تأسيسها قبل أن تقوم في حرب عام 1967 باحتلال ما تبقى من أراض للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
طوال الأعوام الستين الماضية لم يتوقف العرب عن النحيب والبكاء على quot;نكبةquot; تأسيس دولة إسرائيل وquot;نكسةquot; هزيمة عام 1967، وquot;وكسةquot; ضياع الحقوق في فلسطين. ورغم أن العرب مقتنعون بأن الظروف الدولية والإقليمية تحول دون عودة الأوضاع في فلسطين إلى ما كانت عليه قبل عام 1948، إلا أنهم لم يسعوا بصورة فعلية لضمان حتى ولو بعض من حقوقهم في أرض فلسطين التاريخية بشكل سلمي. بل أنهم شاركوا بشكل أو بأخر في وضع معوقات كثيرة أمام كل فرصة حانت لحل سلمي للصراع مع إسرائيل. لم يدرك العرب أن إتباع سياسة البكاء على اللبن المسكوب لن تفيد كثيراً أو قليلاً في حل الصراع في المنطقة أو في الحصول على حقوقهم التي ما فتئوا يهدرونها عبر السنين. وعلى الرغم من الاتقسام العربي والتفاوت الكبير في المواقف المنفردة من الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن الغالبية العظمى منهم انتهجت طريقاً واحداً يرفض السلام ويتبنى المواجهة. لم يحكم العرب العقل يوماً في موقفهم من الصراع مع الدولة العبرية، كما أنهم لم يحاولوا تفعيل المنطق وتطبيقه على الظروف الراهنة عالمياً وإقليمياً. فكان أن انكفأ معظم العرب على رفضهم القاطع للوجود الإسرائيلي الذي اعتبروه جزءاً من مؤامرة صهيونية إمبريالية ضدهم.
لم تعرف منطقة الشرق الأوسط طريق الإستقرار منذ تأسست إسرائيل بسبب المعوقات التي وضعت أمام الحلول السلمية للصراع. وبالطبع لا يمكن هنا إلقاء اللوم كاملاً على العرب فقط، فقد غابت الرغبة في السلام عن الطرفين، ورفض كل طرف الاعتراف بأحقية الطرف الأخر في التواجد فوق أرض فلسطين التاريخية. فنشبت حروب 1956، 1967، 1973، 1982 التي أعطت للكراهية والرفض المتبادلين زخماً قوياً. وفضلاً عن ذلك فقد وضعت الحروب الكثيرة دول الطوق العربية في وضع لا تحسد عليه من التخلف الإقتصادي بسبب الأعباء المالية التي تكبدتها خزاناتها لتسليح جيوشها بالعتاد اللازم لمواجهة الدولة العبرية. كان رفض العرب لإسرائيل مطلقاً وبخاصة في الحقبة التي قاد فيها الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر المواجهة والتي ظهرت خلالها اللاءات الثلاث وبالتحديد في القمة العربية التي التئمت في الخرطوم عام 1967. ولم تبد في الأفق بادرة تحول على الرغم من المحاولات العديدة التي بذلها المجتمع الدولي حينئذ ومن أهمها مشروع روجرز في آب/أغسطس من عام 1970.
جاءت مبادرة الرئيس المصري السابق أنور السادات بزيارة إسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 لتحيي أمل العقلاء في سلام عادل يقوم على الإقرار بالحقوق المشتركة للطرفين العربي والإسرائيلي فوق أرض فلسطين التاريخية. غير أن التصلب العربي الذي قاده زعماء كل من سوريا والعراق وليبيا عندئذ وأد فكرة السلام في مهدها. ولم يتغير موقف العرب المتشدد من فكرة السلام إلا عندما فقد العرب حليفهم الاستراتيجي المتمثل في الإتحاد السوفيتي المنهار والذي انفردت الولايات المتحدة من بعده بقيادة العالم من دون منافس. فنشطت تحركات السلام، وكان مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الأول/أكتوبر عام 1991، ثم كانت اتفاقات أوسلو التي أسست للسلطة الفلسطينية في آب/أغسطس عام 1993، ومحادثات كامب ديفيد، وأخيراً كانت المبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت عام 2002. ورغم كل هذه الجهود إلا أن الجبهات الفلسطينية والسورية واللبنانية لم تعرف السلام الحقيقي. وباستثناء مصر والأردن لم توقع أي من الدول العربية الكبرى اتقاقيات سلام مع إسرائيل.
بعيداً عن نظرية المؤامرة والعويل والانكفاء على الماضي، دعونا ننقد الذات بضمير مخلص وعقل منفتح ونفس صافية بغرض السعي للخروج من المأزق الذي تجد الشعوب العربية أنفسها تعيش فيه منذ ستين عاماً. لقد كانت ومازالت هناك معوقات كثيرة حالت وتحول دون نجاح جهود السلام في بين العرب وإسرائيل. ولا شك في أن العرب يتحملون مسئولية جزئية في هذا وجود هذه المعوقات. ومن دون النظر للمعوقات التي يضعها الطرف الإسرائيلي وهي كثيرة وخطيرة، دعونا نلقي النظر على بعض معوقات السلام التي نجدها على الجانب العربي. وهي معوقات سياسية وإقتصادية وإجتماعية ودينية.
وهي أيضاً معوقات نخبوية وسلطوية وجماهيرية. من أهم هذه المعوقات:
أولاً: عدم إيمان الكثيرين بالسلام كخيار استراتيجي أو حتى تكتكي بغرض إنهاء حالة الحرب، وإعادة الاستقرار للمنطقة، وحشد الإمكانات والموارد لإعادة بناء الإقتصادات المتهالكة.
ثانياً: عدم الاعتراف بحقوق الطرف الأخر في التواجد في المنطقة، حيث ينكر الكثيرون في العالم العربي كالإسلاميين والقوميين واليساريين حق إسرائيل في الوجود.
ثالثاً: استخدام العنف في التعاطي مع الأخر، حيث يتبنى المتشددون من الطرف الفلسطيني كحركة حماس في فلسطين حزب الله في لبنان العنف كوسيلة لتحقيق هدفهم النهائي وهو تدمير إسرائيل.
رابعاً: رفض بعض التظيمات والأنظمة العربية كحركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان ونظام بشار الأسد في سوريا الجلوس مع الطرف الإسرائيلي حول طاولة المفاوضات بغرض بدء عملية السلام.
خامساً: الصعود المتزايد للأيديولوجيات الدينية المتطرفة كجماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسوريا وحركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان، وهي الأيدلوجيات التي تقوم أساساتها على نصوص دينية وترفض رفضاً تاماً الوجود الإسرائيلي في المنطقة، بل وتقلل من شأن اليهود كقوم.
سادساً: انتشار الأمية والجهل بين الشعوب العربية، وغياب روح التسامح، وانعدام الفكر التعليمي والتوجيهي الداعي للاهتمام بقبول الأخر واحترام الإنسان وحقوقه.
سابعاً: انتشار الفقر، وغياب العدالة الإجتماعية، وعدم اهتمام الأنظمة السياسية غير الديمقراطية الحاكمة في الدول العربية ببرامج التنمية الإقتصادية التي تحقق الحد الأدنى من الحياة الأدمية للمواطنين.
ثامناً: التداخل الفج للدين في السياسة، وهي المعضلة التي تبرز بقوة في الصراع العربي الإسرائيلي وبخاصة حين يتمسك المسلمون بإضفاء الصبغة الإسلامية على كافة الوجوه الدينية والإجتماعية والسياسية في فلسطين بصفة عامة والقدس بصفة خاصة.
تاسعاً: تغليب نظرية المؤامرة، والادعاء باستهداف العالم الغربي للعرب والمسلمين، وهي النظرية التي تعرقل كل جهود السلام في المنطقة، وتقطع أواصر التعاون والصداقة مع العالم، وتغلق على العرب أبواب ونوافذ التقدم والحضاري والثقافي والتكنولوجي.
عاشراً: التصلب السياسي للأنظمة العربية فيما يتعلق بالسلام في الشرق الأوسط، وغياب الاعتدال وتنحية الوسطية في التفاوض مع الطرف الإسرائيلي.
لا يساورني الشك في عدالة المطالب العربية فيما يتعلق بالأراضي المحتلة من قبل إسرائيل، ولكن إيماني بالحقوق العربية لا يتعارض أبداً مع قناعتي بضرورة الإعتراف بحق إسرائيل في الوجود بسلام بين دول المنطقة كأساس لا بديل عنه لإحلال السلام في الشرق الأوسط. من المؤكد أن كلا من الطرفين العربي والإسرائيلي لن يحصلا على نسبة مائة بالمائة مما يطالبان به، ورغم ذلك فالسلام يستحق التفاوض والمثابرة والتضحية. لقد ساهم الجانبان العربي والإسرائيلي معاً في اغتيال كل فرص السلام التي لاحت في الأفق طوال السنوات الستين الماضية. ولأن نقد الذات والإعتراف بالأخطاء يعدان وسيلتان مهمتان وضروريتان لتحقيق التقدم والنجاح، فإنه لابد من الإعتراف هنا بأن العرب ساهموا بنصيب لا بأس به في معوقات السلام بمنطقة الشرق الأوسط. ولعل الإقرار هنا بالمسئولية الجزئية عن غياب السلام يساعد في علاج الموقف المتدهور في المنطقة. قد تقف الأن مرارة الواقع وقسوة الظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية الراهنة كعقبة كبيرة بيننا وبين السلام الحقيقي، ولكن دعونا نأمل في غد أفضل يحتضن جميع أبناء المنطقة من دون استثناء. فهلموا نطوي صفحات الستين سنة الماضية بأحزانها وآلامها، وهلموا نمنح السلام
العادل فرصة حقيقية.
جوزيف بشارة
[email protected]
التعليقات