فى يوم 2 آب/اغسطس تمرعلينا ذكرى اكتساح صدام التكريتي للكويت وتدميرها تدميرا يكاد يكون كليا، وشرد أهلها وأحرق آبارالنفط فيها مما سبب كارثة بيئية للمنطقة والعديد من الدول المحيطة والمجاورة. وأطلق صدام جنوده لينهبوا ويسلبوا، وعاد ضباطه (الأشاوس) الى بغداد محملين بالغنائم. أتذكر جيدا العقيد البريطاني الذى ظهر على شاشة التلفزيون وهو ينظر الى جثث الجنود العراقيين المتفحمة وآلياتهم المحترقة، ومن بينها لعب للأطفال وتلفزيونات وغيرها، على الطريق بين الكويت والبصرة (طريق الموت) وقال ما ترجمته بالحرف الواحد: لصوص وقتلة!!.
حقا لقد كانوا لصوصا وقتلة. والفضل كله يعود للقائد (الضرورة) الذى كان يقول كلمة: عفيه (مرحى) لكل من ارتكب جرما من أصحابه ومريديه. انه نفس القائد الذى ابتكر ما سماه ب(التمويل الذاتي)، فانه بعد ان استنفذ أموال الشعب العراقي فى حربه الجنونية مع ايران والمبالغ الباهظة التى أنفقها على التسليح والمفاعل النووي، والتجسس على شعبه وبناء القصورالتى يقصر عنها الوصف لعائلته واحبابه وغيرها من المشاريع التى لا نفع منها للبلد. وحول الأيدي العراقية العاملة فى الصناعة والزراعة الى أياد شريرة سخرها لقتل الجيران، وبدلا عنها استورد عمالا وفلاحين من مصر والسودان وتونس والمغرب وغيرها، الذين كانوا يحولون كل شهر ملايين الدولارات الى بلدانهم، بينما أمرالشرطة وموظفى الدولة باستيفاء (أتعابهم) عن طريق التمويل الذاتي الذى يعنى بوضوح: خذوا الرشاوى من الناس ولا تعتمدوا على خزينة الدولة الخاوية. فاضطر الكثيرون منهم الى امتهان السرقة واغتصاب حقوق الغير. وعند انتهاء حكمه الدموي كان ما لا يقل عن ثلاثة ملايين عراقي قد غادروا العراق، ولو استطاع الباقون لغادروا جميعا ليبقى صدام وعشيرته يرفلون بخيرات العراق لوحدهم وبدون منازع.
يقدر الخبراء أن من تسبب صدام فى قتلهم أيام تسلطه لا يقل عن مليونين، وثمانية ملايين من الجرحى والمعوقين، وأعدادا لا تحصى من اليتامى والأرامل والمشردين والمصابين بالأمراض العقلية والنفسية. ولكن القائد (حارس البوابة الشرقية) خرج من كل تلك المعارك (منتصرا) لأنه نجى بجلده وهرب لا يلوى على شيء ولا تهمه الا سلامته، حتى عثر عليه فى الحفرة كالفأر المذعور وبهيئة المعتوه، زائغ البصر، كثيف اللحية للتخفى عن الأبصار، ولم ينقطع دجله وشعوذته الا باخماد أنفاسه بحبل المشنقة، ليتنفس الناس بعدها الصعداء من كابوس جثم على صدورهم 40 عاما، من شباط عام 1963 الى نيسان عام 2003، وخلف وراءه تركة ثقيلة من الديون التى كبل بها العراق نتيجة لطيشه ورعونته.
تنازل الكثير من الدول الغربية والشرقية والعربية عن تلك الديون أو جزء كبير منها، عدا الكويت التى تصر على استيفائها لحد الفلس الواحد، دون أن تعبأ بمصائب الشعب العراقي الذى تسميه (الشعب الشقيق) الذى أصابه الكثير من المصائب على يد الطاغية والتى فاقت كثيرا تلك التى أصابت الكويت. الكويت قد استردت عافيتها، ولكن الشعب العراقي ما زال يعانى بشدة، ويحتاج الى مساعدة شقيقه شعب الكويت، فهل من الحكمة الاصرار على استيفاء الديون والتعويضات؟
نشبت الحرب العالمية الأولى ودمرت الجيوش الألمانية الدول المحيطة بها، وفى النهاية خسرت الحرب، وفرض عليها المنتصرون دفع التعويضات الباهظة التى أرهقت الشعب الألماني وأصبح مهيئا لتقبل زعامة النائب عريف هتلرالمجنون الذى وعد شعبه بالانتقام. فقامت الحرب العالمية الثانية وانتهت مخلفة دمارا مريعا. ولكن هذه المرة لم يفرض المنتصرون التعويضات على ألمانيا بل اتعظوا بما سبق فساعدوها على اعادة اعمارماحل بها من خراب وزودوها بالمال والخبراء وأقاموا فيها مشاريع جبارة عادت بالخير العميم على ألمانيا وعلى أعدائها السابقين، الذين أصبحوا شركاء لها فى الاتحاد الاوروبي، ونسوا ما كان بينهم وبينها من عداوات وسفك للدماء.
لم يعد العالم يعيش عيشة البداوة التى عشناها وعانينا منها بسب الاصرار على الثأر والانتقام، بل أخذ الحكام ينظرون الى ما هو أبعد من ذلك وأهم، فان الحروب تجلب الحروب والخصومات تجلب الخصومات، وفى تأريخنا العربي أمثلة كثيرة على ذلك، ويعرف أكثرنا عن الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان بسبب سباق الفرسين داحس والغبراء التى امتدت أكثر40 عاما وحصدت مئات الأرواح.
يجب ان لا ينسى اخوتنا فى الكويت ان مجالات الاستثمارات هائلة فى العراق، وان العراق سيحتاج الى الشركات الكويتية الخبيرة فى مجالات الاعمار (وقد بدأ بعضها فعلا بالعمل فى العراق) فعدا الثروة النفطية فى العراق هناك ثروات كثيرة اخرى ما زالت فى بداية استثمارها أو لم تطرق بعد، وعلى الكويت ان لا تضيع سوقا كبيرة على حدودها الشمالية.
وأقول للأخوة المعارضين فى اعفاء العراق من الديون والتعويضات فى مجلس النواب الكويتي أن يعيدوا النظر فى موقفهم، وأذكرهم بوصية الامام علي لابنه الحسن عليهما السلام: ولا تكونن على الاساءة أقوى منك على الاحسان.
عاطف العزي
التعليقات