يدّعي البعض أن الانتخابات التي تجري في الدول العربية لا علاقة لها بالديموقراطية الحقيقية، وبأنها تعبّر أفضل تعبير عن ديموقراطية quot;منقوصةquot;، كون المشرفين عليها ومنظّمّيها هم حكومات تريد فراق الديموقراطية اليوم قبل غد. ويؤكد أصحاب هذا الإدعاء كيف أن مواقف أنصار التيار الديني من الديموقراطية الحقيقية لا تختلف عن مواقف الأنظمة والحكومات العربية إنْ لم تكن أسوأ، وكيف تجلت بعض تلك المواقف بانقلاب التنظيمات الإسلامية على الديموقراطية (المنقوصة وليس الحقيقية) بمجرد فوز أنصارها بالانتخابات وحصولهم على العدد الأكبر من مقاعد البرلمان، وكيف تم إلغاء الآخر غير الإسلامي بمجرد استيلائهم على السلطة أو البرلمان. والتجربة الإيرانية والسودانية والجزائرية ليست ببعيدة عن الذاكرة، فجميعها أثبتت أن الديموقراطية بالنسبة إليهم ليست سوى وسيلة للتسلق إلى القمة، وبمجرد الوصول تبدأ عملية إقصاء الآخرين ويتم إعادة رسم صورة جديدة للحياة السياسية والاجتماعية، صورة ظاهرها وباطنها الاستبداد المستند إلى التفسير الديني، أما الديموقراطية فيتم تشكيلها وفق قياسات دينية بحتة، قياسات دائما ما تناهض التعددية والتنوّع واحترام حقوق الإنسان.
إن الإسلاميين غير تواقين بأي حال من الأحوال للديموقراطية الحقيقية، وإنما هم تواقون فحسب لآلية انتخابية توصلهم إلى السلطة أو البرلمان من أجل تفعيل غاياتهم البعيدة عن أسس الديموقراطية. وتجربة الإسلاميين في الكويت مع العمل النيابي البرلماني، وهم الذين مالبثوا أن اتهموا جميع الديموقراطيات العربية بالناقصة، تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنهم في الضد من الديموقراطية الحقيقية، وبالذات حينما يفرز النقاش البرلماني قوانين تتعارض مع التفسير الديني الموجّه في خانة المطلق، كالموقف من حقوق الإنسان ومن المرأة ومن الترفيه. فالمطلق الديني هو الذي يدغدغ مشاعرهم ويحرك مشاريعهم القانونية، وهو بالنسبة إليهم يفرز خطوطا حمراء مستبدة لا يمكن تجاوزها، بل إن متجاوزها يستحق العقاب الدنيوي والأخروي.
إن الاستبداد الديني يستند إلى الثوابت الدينية، لذلك تجده يفرز الأقوى الذي يهدف إلى فرض رأيه مستندا إلى ثقافة المطلق. فخطاب الاستبداد يتضمن مسلمات ينبغي الإذعان لها. وإقصاء المختلف هو الرهان لتثبيت أفكار التيار الديني في المجتمع.
إنني وغيري، لكي نقتنع بأن أنصار التيار الديني غير مناهضين للديموقراطية، نشترط عليهم تغيير أدبياتهم المستندة إلى رفض الخوض في تفسير يغربل النص الديني المطلق ويحوله إلى تفسير نسبي قابل للنقد، لا تفسير يعكس المقدس ويمثل السماء. عليهم الاعتراف بالتنوع الفكري قبل السياسي. عليهم احترام حقوق الإنسان الفرد والإقرار بنسبية الحقيقة ورفض إشراك المقدس الديني في الحياة العامة. إن ثقافة المطلق الديني، إضافة إلى عدم توافقها مع الحياة الحديثة، تسعى إلى القفز على أطر الحداثة بالإدعاء بأنها تمتلك نظاما متكاملا للحياة صالحا لكل زمان ومكان. فهي تتشدّد في ادعاءاتها رغم إنها غير منتجة لمفاهيم الحياة الحديثة ووسائلها.
إن غالبية التجمعات السياسية الدينية في الساحة العربية، ومنها الكويتية، تعتبر تجمعات طائفية ولا يمكن لها أن تؤمن بالديمقراطية. فرغم إنها أطلقت شعارات تعبّر عن نبذها للطائفية في ثقافتها وفي عملها، وتؤكد على الالتزام بالديموقراطية، كآلية ومحتوى، والالتزام بمواد وروح الدستور الوطني والقومي، وكذلك الالتزام بالأسس التي يقوم عليها المجتمع المدني، كالإيمان بالحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، لكنها في الواقع العملي لا تستطيع أن تتجرد من ثقافتها الدينية المطلقة المعادية لأغلب ما تم ذكره، تلك الثقافة القائمة على أسس طائفية، والنابذة للحرية بمعناها الحديث، كما لا ترضى بانتشار التعددية وفق إطارها الموسّع، ولا تقبل بأن يتم احترام الإنسان وفق معيار الأنسنة الحديث بل وفق فهمها وتفسيرها الديني القديم.
إن الأحداث على أرض الواقع والرؤى الفكرية وردود الأفعال السياسية والقضايا المتبناة من قبل تلك التجمعات تدل بأن معظمها تناهض الحداثة. وما رفعها لشعار الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان إلا أحد شيئين: إما جهل بحقيقة تلك الرؤى والمفاهيم، وإما ضحك على الذقون من أجل تمرير مشاريعها للسيطرة على الهوية الوطنية وتحويلها في وقت لاحق إلى هوية أصولية. فالحركات أو التجمعات الدينية في الكويت تشدد على التزامها بالديموقراطية quot;كآليةquot; لتنظيم عملها السياسي وغير السياسي، رغم وجود البعض منها الذي يرفض أن quot;يدمقرطquot; عمله أو حتى أن يعترف بآلية الديموقراطية. لكنها في المحصلة تتجه لرفض الاعتراف بالديموقراطية كروح ومحتوى، وتنزع إلى مواجهة المفاهيم الحداثية التي تتأسس عليها. أي أنها تضع نفسها في منطقة تبرز خلالها الآلية لتنفصل عن المحتوى الحداثي. فالآلية ليست سوى وسيلة يستحيل أن تنفصل عن محتواها، وإذا ما انفصلت فستصبح هي الهدف ويتم تجاهل المحتوى، بالتالي سيتم التفريط بالكثير من القضايا المرتبطة بالمحتوى، كقضايا حقوق الإنسان، على حساب الزعم بأن آلية الديموقراطية هي التي تعبّر عن قيمة الديموقراطية.
إن وسيلة الديموقراطية عند أنصار التيار الديني هي مجرد آلية لتثبيت موقف ديني شرعي، أي هي آلية تحدد quot;جوازquot; أو quot;عدم جوازquot; موقف من المواقف. فالاعتراف بحرية الاعتقاد لدى الإنسان، انطلاقا من حقه كإنسان وليس انطلاقا من الفهم الديني والجواز الشرعي، هو موقف يدلل على مركزية الحداثة ومفاهيمها في هذا الإطار بوصفها هي الحَكَم لقبول أو رفض تلك الحرية. في حين أن الاعتراف بذلك انطلاقا من التفسير الديني الفقهي، يدلل على أن الخطاب الديني والحكم الفقهي هو البوصلة في تأييد أو رفض حرية الاعتقاد أو مجمل الحريات الإنسانية الأخرى.
إن المفكرين عادة ما يسألون السؤال التالي: هل يمكن للدين الإسلامي، وفق مدارسه التفسيرية الفقهية المتعددة والمتباينة، أن يتوافق مع الديموقراطية، خاصة وأن الدين يعتبر من نتاج الماضي والحياة القديمة، بمعنى أنه ظهر قبل الحداثة وتغيراتها المادية والمفاهيمية، أي قبل العصر الجديد، في حين أن الديموقراطية حسب صورتها الحالية وتجربتها الراهنة وآلياتها هي نتاج الحداثة؟
لو تمعنا في نتاجات الحداثة سوف نجد أنها تختلف مع النتاجات التي أسسها مفسرو الدين عن الإسلام عبر التاريخ. ففي حين أن من نتاجات الحداثة تأسيس إنسان quot;ناقدquot;، فقد كان من نتاجات الدين الفقهي ومفسريه تهيئة إنسان غير ناقد، بل quot;منقادquot; وquot;مطيعquot; للأوامر في جميع مناحي الحياة، خاصة وأن الإسلام يُطرح بوصفه دينا ودنيا. فلا صلة للنقد بسلوك المسلم صاحب التديّن التقليدي، حيث لا يتماشى ذلك مع المبدأ الذي تأسس وتربى في ظله وهو الطاعة والتسليم. في حين لا يمكن للإنسان الحديث أن يكون منقادا مستسلما مطيعا، لأن ذلك يتعارض مع أطر الحياة الجديدة المستندة في أحد أسسها إلى النقد والسؤال، وإلى عدم التسليم إلا بعد الحصول على أدلة وبراهين عقلية.
نتساءل: هل يستطيع النقد والسؤال أن ينفذا إلى جسم التاريخ الإسلامي؟ وهل باستطاعة أي باحث في التاريخ وفي الدين أن يواجه حياة نبي الإسلام والصحابة والأئمة بأسئلة ناقدة دون أن يثير ذلك غضب الإسلاميين وتكفيرهم له؟
كما أن من نتاجات الحداثة ولادة مفهوم quot;الاختيارquot; وتوسّعه، حتى أصبح أحد أسس الحياة الجديدة. في المقابل فإن الجبر أو اللااختيار كان ولا يزال أصلا من أصول الحياة الدينية وأساسا من أسس التديّن حسب التفسير الفقهي التاريخي التقليدي. فالمسلم مكلف وغير حر في اختياراته، وبالذات الدينية. في حين أن الاختيار يتعلق بجميع مناحي الحياة الحديثة، ومن جملتها الحياة الدينية والتجارب الإيمانية المعنوية. فالإنسان الحديث بات حرا في اختيار دينه، وأيضا في تغييره إذا اقتضت قناعاته الفكرية والإيمانية، وكذلك أصبح حرا في عدم انتمائه إلى أي دين. كما أن منظمات حقوق الإنسان، التي تعتبر شريان الحداثة، مستعدة للدفاع عن مطالبه تلك بكل ما تملك من قوة ونفوذ. في المقابل لا يزال التفسير الديني الفقهي التاريخي يعتبر مفهوم الاختيار شرا من الشرور، خاصة في جانبه الديني، إذ لا يزال يعتبر تغيير الإنسان المسلم لدينه واختياره دينا آخر يوجب عليه أقسى العقوبات في الدنيا والآخرة. أما في الجانب غير الديني فإن تمسك التفسير بمفهوم اللااختيار ساهم في انتشار الاستبداد السياسي والاجتماعي والفكري وغيرها. فلا اختيار للمسلم أمام أوامر وأحكام وقرارات وتكاليف الولي أو المرشد أو الإمام الممثل للسلطة الإلهية، وكذلك أمام أوامر ما يسمى بالمؤسسات التي تنبثق من تحت إبطيه، فلا يحق له الاعتراض عليها أو أن يرفض تنفيذ أوامرها وإلا واجه عقوبات دنيوية وتهديد بعقوبات أخروية.
فاخر السلطان
كاتب كويتي
[email protected]
التعليقات