يعتصر الألم قلبي وتغتم نفسي كلما اطلعت على الأوضاع في قطاع غزة التي تنقل لنا وسائل الإعلام أخبارها ومستجداتها. تقول الإحصاءات أن العشرات من المدنيين الأبرياء العزل يتساقطون يومياً في حرب تكسير العظام التي تخوضها إسرائيل ضد حركة حماس، وأن نحو مائة من إجمالي عدد القتلى البالغ عددهم نحو ثمانيمائة هم من الأطفال الأطهار الذين انتزعت عنهم ابتساماتهم العذبة وأرواحهم الطاهرة إلى الأبد بسبب حالة اللا مبالاة المستفحلة التي تسيطر على quot;لورداتquot; الحرب والتطرف والإرهاب الحمساويين. لم تفزع أعداد الضحايا قادة حركة حماس الفاشيين، كما لم تحرك دموع الأطفال وآهات الأباء وصرخات الأمهات مشاعرهم المتحجرة فصرحوا بأن حركتهم المعادية للسلام والاستقرار والتنمية ستستمر في تحديها للسلام والتهدئة والهدنة وعصيانها لروح التفاهم والحوار حتى تزهق النفس الفلسطينية الأخيرة في غزة.
يشهد الموقف الحمساوي من الحرب الدائرة في قطاع غزة، كما شهدت مواقف حمساوية أخرى كثيرة، على الغياب الكامل للحس الوطني عن الحركة وقادتها ورجالها. فحركة حماس تسعى لتنفيذ دورها الذي تمليه عليها الأجندة الإسلاموية المتطرفة بغض النظر عن المصلحة الوطنية الفلسطينية. ويتشابه الموقف الحمساوي هنا مع موقف حزب الله في لبنان حين غامر قبل سنتين ونصف بمهاجمة إسرائيل، من دون أن يكون مؤهلاً للدخول في حرب تقليدية مع طرف قوي كإسرائيل، لتنفيذ دوره هو الأخر الذي فرضته عليه، حينذاك، الأجندة الإسلاموية المتطرفة. وكانت النتيجة عندئذ أن دمرت الآلة العسكرية الإسرائيلية البنية الأساسية اللبنانية من دون رحمة. ولعل التشابه في الموقفين يطرح سؤالاً عن الخطط الإسلاموية المتطرفة، وعن المدى الذي يمكن أن تبلغه المغامرات غير المحسوبة التي يشنها متشددون ومتطرفون وإرهابيون معروفون بولائهم لقوى إقليمية مخربة ومعادية للاستقرار والسلام باسم القضية الفلسطينية.
لم يدهشني موقف حماس الأحمق الرافض للمبادرة المصرية الحميدة التي تهدف إلى إنهاء الحالة غير الإنسانية التي يعيشها المتعطشون للتهدئة من الجوعى والظمآى والجرحى والمنكوبين في قطاع غزة، كما لم يدهشني قرار حماس الأرعن بعدم قبول قرار مجلس الأمن الحكيم الداعي لوقف إطلاق النار الفوري في قطاع غزة، إذ من المؤكد أن عناترة الحركة قد وضعوا نصب أعينهم تنفيذ مخططاتهم التي تهدف إلى إنشاء إمارة إسلامية في فلسطين آو إلى تكريس الانقسام الفلسطيني وإقامة إمارة إسلامية في قطاع غزة على أقل تقدير حتى ولو تكلف هذا دماء وأرواح عشرات أو مئات الألاف من الغزاويين. وقد برهن رفض حماس لكل محاولات التهدئة على متاجرة قادة الحركة بالقضية الفلسطينية لتحقيق أغراضهم وأهدافهم غير الوطنية التي تعد جزءاً حيوياً من المشروع الإسلاموي الكبير الذي تتبناه قوى متطرفة كبيرة، والذي يهدف بالأساس إلى الإطاحة بأنظمة الحكم القائمة في عدد من الدول العربية واستبدالها بنظم حكم إسلاموية.
تحفل الأجندة الإسلاموية الذي تتبناها القوى المتطرفة بالعديد من الخطط الرامية إلى تحويل الدول العربية إلى إمارات إسلامية تقودها جماعات متطرفة تسير على النمط الإيراني أو على النمط الطالباني. وتؤكد الخطط الإسلاموية على ضرورة تحفيز المسلمين في الدول العربية على الانخراط في مواجهات تمتع بثقل شعبي مع الحكومات القائمة لزعزعة أسس الأنظمة الحاكمة. يدرك المتطرفون أن للأنظمة الحاكمة في الدول العربية حساباتها المختلفة، الواقعية أو لنقل تجاوزاً المعتدلة، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ومن ثم يستخدم المتطرفون القضية الفلسطينية كوسيلة لحشد أكبر قدر من الجماهير ضد الأنظمة الحاكمة. يأتي استخدام المتطرفين للقضية الفلسطينية بالطبع بسبب أهميتها الدينية لكل مسلم، إذ يعلم المتطرفون المتطلعون لقلب أنظمة الحكم في البلدان العربية أنه يكفي ذكر اسم quot;فلسطين العربيةquot; أو quot;القدس المحتلةquot; أو quot;المسجد الأقصى ثالث الحرمينquot; لشحذ همة المسلمين. ويقيني هنا أن القضية الفلسطينية ما هي إلا الأداة التي يستخدمونها لتحقيق الأغراض التي يحلمون بتحقيقها. وربما كانت المظاهرات الغاضبة التي خرجت بها الحشود المسلمة في كل البلدان العربية والإسلامية في الأسبوعين الأخيرين دليلاً على نجاح المتطرفين في استخدام القضية الفلسطينية في تحقيق الالتفاف الجماهيري حولهم.
المتاجرة بالقضية الفلسطينية ليست وليدة اليوم وهي ليست مقتصرة على حركة حماس. فالمتاجرون بالقضية الفلسطينية كثر والمتاجرة بها لها تاريخ طويل لا يقل عمراً عن عمر القضية ذاتها. تتباين الأساليب المستخدمة في المتاجرة بالقضية الفلسطينية، ولكن خطين واضحين كانا الأبرز في السنوات الستين الماضية التي هي عمر القضية.. الخط الأول هو خط قومي مثلته أنظمة عربية حكمت أو تظل تحكم في عدد من الدول العربية كنظام حزب البعث في سوريا وشقيقه السابق في العراق ونظام الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ونظام عقيد ليبيا معمر القذافي. أما الخط الثاني فهو خط إسلاموي ديني مثلته مجموعات إسلاموية متطرفة مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإرهابية المنبثقة عنها، تنظيم القاعدة البن لادني، وجماعة حزب الله، وحركة حماس.
مع أفول شمس التيار القومي الثورجي في العقدين الماضيين وبالتحديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي كان الداعم الرئيسي للقوميين الثورجيين برز التيار الإسلاموي الديني بقوة على الساحة العربية. ورغم تباعد مواقف القوميين والإسلامويين وتناقضها فيما يتعلق بالكثير من القضايا والأمور الوطنية، إلا أن القوميين كثيراً ما أظهروا تضامناً مع موقف الإسلاميين من القضية الفلسطينية ومن المتاجرة بها. وربما يعد احتضان نظام حزب البعث السوري لحركة حماس وجماعة حزب الله من أهم الأمثلة على التحالف القومي/الإسلاموي غير الشريف في الوقت الراهن. ولعله من المهم التأكيد هنا على أن الأجندة الإسلاموية المتطرفة تستخدم حالياً النظام السوري المعزول إقليمياً ودولياً كغطاء لها ولمشروعاتها ولأعمالها. ولكن التعاون هذا لا يعني رضاء الإسلامويين عن النظام السوري ولا يعني أن نظام بشار الأسد سيبقى بمنآى عن الطموح الإسلاموي طويلاً، إذ ستطوله الأيادي المتطرفة يوماً أو لنقل بعد أن ينال المتطرفون ما يريدونه منه.
إن ما يحدث في غزة اليوم وما حدث من قبل في لبنان يحذرنا بقوة من الأجندة الإسلاموية التي تأتي بها قوى متطرفة ترفض السلام وتجنح إلى العنف وتوظف الإرهاب وتستبيح الأوطان والآعراض وتستخدم المدنيين كوقود لمغامراتها. لقد غامر حزب الله في حرب تموز من العام ٢٠٠٦ باستقرار لبنان ووحدته حتى يفرض أجندته المشبوهة، واليوم تغامر حركة حماس بمستقبل قطاع غزة وحياة مواطنيه حتى تفرض أجندتها المشبوهة أيضاً. سيناريو حزب الله وحركة حماس من الممكن أن النواة لسلسلة من المغامرات التي يمكن أن تشهدها دول أخرى مهمة مثل مصر والأردن وتونس حيث تتواجد حركة الإخوان المسلمين الفاعل الأشهر في الحركة الإسلاموية. ومن المهم هنا القول بأنه لا يجب أبداً أن يكون الإسلامويون بديلاً للأنظمة الحاكمة في الدول العربية. ودعونا نؤكد أن مساويء الحكم الإسلاموي الذي من الممكن أن تجيء به الجماعات المتطرفة مثل الإخوان المسلمين وحزب الله وحركة حماس تشكل أضعاف مساويء الأنظمة الفاسدة أو الشمولية أو غير الديمقراطية التي يشكوها الكثيرون.
من المؤسف أن تتم المتاجرة بقضية مهمة كالقضية الفلسطينية بمثل هذه الصورة المعيبة من قبل الإسلامويين في العالمين العربي والإسلامي ومن قبل ذيولهم في غزة المنتمين لحركة حماس. ومن المؤسف أيضاً أن ينخدع ملايين المسلمين حول العالم في الأجندة المتطرفة للإسلامويين فيحتشدون خلفه وخلف أصحابها ذوي النوايا السيئة. وليعلم الإسلامويون ومؤيدوهم أن القضية الفلسطينية ليست ولن تكون أبداً للمتاجرة، وأن أجندتهم لن تفيد أبداً في إعطاء الفلسطينيين حقوقهم لأن أية أجندة لا تقوم على احترام الإنسان وتقدير حقوقه وحماية حياته لن تكتسب الشرعية ولن يكتب لها النجاح. لقد اكتسبت الأنظمة السياسية المتحضرة شرعيتها من التزامها بحقوق الإنسان، بينما فقدت أنظمة أخرى متخلفة شرعيتها بسبب عدم التزامها بحقوق الإنسان. وإذا كانت الأجندة الإسلاموية التي ينفذها الإسلامويون مثل حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة تقوم على عدم احترام حقوق المدنيين والأطفال وإزهاق أرواح الألاف منهم فإن أجندتهم وكل مخططاتهم ومشاريعهم ستبقى منبوذة وغير شرعية ويتوجب معارضة ومقاومتها.
جوزيف بشارة
[email protected]
التعليقات