لم تكن quot;قفلةquot; رحيل بوش لتختلف كثيراً عن سيرة حقبته الطويلة المليئة بالموت والدماء والمرارات والفظائع والويلات. فهناك عنوان واحد لولايتي الرجل المتتاليتين ألا وهو فصل دموي دائم. إذ تبدو مناظر الخراب والدمار الفظيع التي خلفتها آلة الحرب الهمجية الصهيونية كخير دليل واختصار واختزال ووداع لحقبة جورج بوش التي خلفت أكواماً لا تحصى من الخرائب والأنقاض السياسية في غير مكان من العالم، وتعطي انعكاساً حقيقياً للحقبة والفترة التي شغلها كسيد أوحد لعصابة البيت الأبيض الحربجية.

ولعله من المفيد التذكير بأن ذاك الدمار والخراب ومشاهد الموت المروعة التي طحنت غزة، أخيراً، كانت غاية في الدقة من حيث توقيتها السياسي. إذ جاءت في الوقت الضائع، تماماً، بين أفول وقدوم، أو بالأحرى عملية تبديل الإدارات في الملعب الأمريكي. وارتبط تأجيجها، كما إخمادها، باعتبارات رحيل، ودخول سيد جديد للبيت الأبيض. ولم يكن توقيفها، البتة، كرمى لعيني هذا الزعيم العربي أو ذاك ، كما حاول البعض الزعم والإيحاء والتباهي والإيهام. فشرذمة الحرب الصهيونية الغاشمة لم تتعود، يوماً، أن تأخذ اعتباراً وكرامة واحترام لأي كان من العرب، ودأبت على التعامل معهم، بمنطق السادية والفوقية البادية، وإملاءات السادة والعبيد، فقط. ولم يكن إحراج أوباما، ووصم بداية عهده، بمذبحة في غزة أو في غيرها، بوارد مخططي الاستراتيجيات وصانعي القرار في البيت الأبيض، لاسيما وأن الرجل قادم على أنقاض المشروع البوشي ورافعاً لراية التغيير. غير أن إضافة، مذبحة أو مجزرة جديدة، من جهة أخرى، لسجل جورج بوش لن يغير من واقع الأمر شيئاً، لا بل قل يضفي جواً من البهجة والسرور على قلب بوش، الذي أوغلت يداه في دماء العرب والمسلمين تحديداً.

وبالأمس كان العالم كله مع حدث جلل فاقع في دلالاته الرمزية تجلى في تبوء رجل أسود، ولأول مرة في التاريخ، سدة البيت الأبيض. ورغم عدم براءة الحدث السياسية، ومن وجهة نظرنا الشخصية على الأقل، التي تراه كمحاولة لتوريط أوباما، ومن خلفه السود، في كوارث بوش، وإعطاء انطباع عام بمسؤوليتهم عن ذلك، ومن ثم إظهاره بمظهر العاجز عن القيام بأي شيء، وبالتالي التقليل من طموح وأحلام السود بأية مطالبات مستقبلية بحكم أمريكا. هذا أولاً، أما ثانياً، يبدو الأمر كتوطئة لفتح باب الترشيح والرئاسة على مصراعيه أمام الجميع. وذلك للسماح، لاحقاً، بدخول رئيس يهودي للبيت الأبيض وهو الخطوة التالية على الأرجح (الذي يعتبر حتى اللحظة مع الكاثوليك من المحرمات السياسية برغم ضغوطات اللوبي الصهيوني المعروفة وتأثيرها الكبير، ورغم كاثوليكية كينيدي التي يرجح البعض أنها كانت وراء مصرعه). نعم، فالرئيس القادم لأمريكا يهودي. إذ ستصبح المعادلة، أو المفاضلة، على النحوالتالي، طالما أن أسوداً قد أصبح رئيساً لأمريكاً، فما المانع في أن يكون، أي أمريكي آخر رئيساً، حتى لو كان يهودياً؟ وثالثاً، وهو الأهم، استمرار الرجل الأسود بمهمته التاريخية في التنظيف وراء الرجل الأبيض.

فلقد بدا الرئيس أوباما بالأمس فاقد الحيلة، ورجلاً بدون أي مشروع سياسي أو استراتيجي كبير، ولم يظهر كصاحب مشروع تغييري حقيقي إحلالي، وتكاد تنحصر وتتلخص مهمته الرئاسية، ، وبعيداً عن أية مضامين عنصرية، كرئيس أسود، هي في quot;كنسquot;، وترحيل، وتنظيف أمريكا ، وربما العالم وراء رئيس quot;أبيضquot;، وإزالة ما خلفه عهده هنا وهناك، وتبدو معه مهمة فريقة الحكومي كـquot;شركة تنظيفاتquot; وليس كإدارة تكنوقراطية مكلفة بإدارة وإنجاز أية مهام جديدة أو مستقبلية، أو تنفيذ خطط إستراتيجية. ويدلل حديثه المستفيض وتركيزه على العراق وأفغانستان وغوانتانامو ومآزق وأزمات بوش على ذلك.

نعم، يعود هنا الرجل الأسود، حتى ولو على مستوى عمله كرئيس، لممارسة دوره الطبيعي الذي من أجله تمت قرصنته من الأدغال الإفريقية كما ذكر ذلك وبكثير من التفاصيل الملحمية ألكس هيلي في رائعته الجذور، ألا وهي القيام بخدمة وعملية التنظيف وراء الرجل الأبيض ليضاف إليها هذه المرة التنظيف السياسي ولم لا؟ فـquot;كله تنظيف بتنظيفquot;. فالملفات التي تفوح منها الروائح الكريهة والفضائح والكوارث، كثيرة وتعج بها ردهات ودهاليز وكواليس البيت الأبيض، ومن الصعب جداً على الرئيس المنتخب أوباما إكمال ولايته وقد أنتهى من عملية تنظيفها وغسلها وكنسها.

كم هي مهمة أوباما صعبة؟ فلا تغيير في أمريكا اليوم كما رفع أوباما الشعار، بل تنظيف لحقبة مليئة بالنفايات والأوساخ. والواقع لا يدعو للتفاؤل كثيراً ، وهو قد لا يفسح المجال كثيراً، ولا يترك كبير فرصة لأوباما للقيام بأي شيء حقيقي، ولاسيما لجهة تحقيق شعار التغيير الموعود. فعملية إزالة أنقاض، وأتربة، وخرائب بوش تتطلب بالتأكيد، جهداً كبيراً، وأكثر من ولاية رئاسية، وغير فريق عمل، ومن ثم قد يتم الشروع بعدها في أي مشروع تغييري جديد. هذا بافتراض أن عملية التنظيف قد تنتهي على خير، أو قد يكتب لها النجاح، من الأساس.

نضال نعيسة
[email protected]