فجأة انقلب فرسان الطائفية والمذهبية والعنصرية القومية إلى متحدثين فصحاء طلقاء بالوطنية العراقية! قبل فترة غير بعيدة ، لم تسقطها الذاكرة بعد، كان هؤلاء يتحدثون عن البيت الشيعي، والبيت السني، والبيت العربي، والبيت الكردي، والبيت التركماني، فقط المسيحيون والمندائيون والأزيديون لم يتحدثوا عن بيوت، طووا خيامهم ورحلوا إلى بلاد نائية، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا!
ماذا جرى؟ هل مست نفحات إلهية هؤلاء الفرسان الفقهاء في الدين والطائفة والقومية فانقلبوا إلى وطنيين،بل موزعين لصكوك الوطنية ؟ هل كان غيرهم منشغلين بالحرب الطائفية، بينما هم كانوا منشغلين بقراءة كتب الفلسفة والفكر ويعانون ويكابدون في دروب العلم والروحانيات فوصلوا اليوم إلى الحكمة القائلة أن التخندق الطائفي والقومي وبال على الشعب والبلاد، فقرروا نبذه والتوجه إلى الوطنية العراقية لتكون كالسماء الزرقاء خيمة للجميع؟
لا، طبعاً ! من السذاجة تصور أن ذاك الذي كان يبح صوته على منبر مسجد أو حسينية أو شاشة فضائية ويمزق أذان الناس بالشحن الطائفي، قد صار بين ليلة وضحاها وطنياً روحانياً يؤمن بالمقولة الشهيرة : الدين لله والوطن للجميع!
ما جعل هؤلاء يتغيرون هو ليس إدراكهم مع الشعب العراقي ضرورة نبذ الطائفية والتعصب القومي ،ونشدان وطن حر ديمقراطي ، يستطيع أن يعيش فيه جميع مواطنيه بفرص متكافئة دون تمييز على أساس مذهبي أو قومي أو حزبي، ولا معيار فيه لنيل الوظيفة أو الموقع القيادي غير الكفاءة والاستحقاق القانوني والجدارة العلمية والأخلاقية والاستعداد للبذل والعطاء لا للأخذ والاستغلال!
ولا إدراكهم أن العصر لم يعد عصر الانزواء أو العزلة الطائفية والقومية بل هو عصر الكتل الاقتصادية والحضارية الكبيرة ،ومشاهدتهم الاتحاد الأوربي، والتنسيق بين دول الأمريكيتين وحتى التقارب الإفريقي ،تقدم نماذج الكتل البشرية المتعاونة والمتحابة والمتعايشة بسلام وطمأنينة!
إنه وبكل بساطة إدراكهم أن خطابهم الطائفي والعنصري العلني السافر لم يعد ممكناً ومجدياً، لذلك قرروا الانحناء للعاصفة ومسايرتها ظاهرياً وشكلياً كاتمين نزعاتهم الطائفية والقومية ،مع الإبقاء عليها محور اهتمامهم وهدفهم الأساسي!
فمصالح هؤلاء الخالي أكثرهم من الكفاءات والجدارة القيادية تستند على الشحن والفرقة الطائفية والقومية، وهم لا يستطيعون الوصول إلى السلطة إلا على أكتاف جماهير معدمة مغيبة عن وعيها تفجر في داخلها الانفعالات الحادة بأوامر ترتبط بالقداسة أو بالدم العنصري!
ركوب الموجة الشعبية تلك ليست أول خيانة في التاريخ ، وهناك خبرات كثيرة متراكمة لمن يريد المروق من وراء ظهر الحقيقة والقانون، هذا إن وجد!
ليس فقط ظهروا اليوم بخلاف ما يبطنون ، بل قرروا المزايدة بنبرة الصوت والصورة والمال الحرام والحلال ، وكل شيء جائز باسم المصلحة العامة وتم الإكثار الفايروسي لشعار: الغاية تبرر الوسيلة!
لذلك تراهم يتسابقون أمام وسائل الإعلام في شجب التمزق الديني والطائفي والقومي، وحين يلتقون في كواليس البرلمان أو الحكومة تكون كل مشاريعهم دينية وطائفية وقومية متعصبة!
وهنا الخطر!! اختلاط الماء النقي بالماء المسمم، حتى ليبدو الماء المسمم أكثر صفاءً وشفافية بينما صار الماء الذي كان صافياً وهو قليل ضائعاً مشتبهاً بتسممه!
صاروا : يتحدثون عن الوطنية وهم يصوتون لقوانين تكرس مصالح ضيقة، وتنسف وحدة الشعب والأرض والمصير، ويتسترون على جرائم دول في الجوار كل من مصلحته وانتمائه الطائفي والقومي!ويعرقلون صدور قوانين الإعمار والتنمية والإصلاح!
ويتحدثون عن ضرورة القائمة المفتوحة ويوجهون أتباعهم للضغط من أجل القائمة المغلقة ،والدائرة الانتخابية المغلقة ،التي يمكن أن تحمل الكثيرين ممن هم يعملون لأنفسهم أو طوائفهم أو قبائلهم،ولا يمتلكون جدارة يمكن أن تفيد الشعب!
يتحدثون عن ضرورة سلامة العملية الانتخابية ويعرقلون صدور قانون انتخابات جديد بل يعملون بطرق ملتوية وخبيثة لعدم صدوره نهائياً وتأجيل الانتخابات وإبقاء نفس الوجوه تغرد كالبلابل في التلفزيونات، وتنعق كالغربان من حجرات ومقاعد البرلمان!
في السنوات السابقة حين كانوا يظهرون عراة طائفياً وقومياً كان التعامل معهم أوضح وأسهل ، وكان من الممكن اتقاء شرهم بسهولة ووضوح، أما اليوم وبعد ارتدائهم مختلف الأزياء صار التعامل معهم صعباً ومستعصياً خاصة وإن دعاياتهم كبيرة وقوية، فبعضهم صار اليوم يمتلك فضائيات وصحفاً وكتاباً محترفين مأجورين بسخاء يدافعون عن منطقهم المقلوب والشرير بكل استماتة وشراسة!
ماذا يفعل الناس؟هل هناك صبغة كاشفة تلقى على هذا أو ذاك من النواب أو الوزراء أو زعماء الأحزاب والكتل لتكشف عن طويته ونواياه القاتلة؟ ذلك يحدث في المختبرات،ليس لدى الناس سوى الفطرة أو السليقة ، هما اللتان ترشدهم لمن يتحدث صادقاً عن مشروعه الوطني أو لأغراض انتخابية فقط ! وهما اللتان تجعلهم يفتحون أو يغلقون صناديق الاقتراع بوجوههم! ولكن من قال أن السليقة والفطرة تعملان بكامل طاقتها لدى الفقراء والمعدمين ؟ لذلك صار الفرسان المتظاهرون بالتوبة يغدقون في الوعود ويحضرون لحملاتهم الانتخابية مالاً وفيراً ،مغادرة خطاب وشعارات الطائفة والقومية باهظ التكاليف أيضاً،والمتهالكون على السلطة يحتاجون الكثير من المال لتدارك هذه الخسارة الفادحة التي لم يستطيعوا تلافيها باللعب السري والإيحاء العلني، مال كثير يكفي للإغراء ولشراء الأصوات،مال وفير لا مانع من الحصول عليه من هذه الدولة أو تلك،أو من غزوات داخلية لمصارف أو محلات تجارية أو بيوت الناس، لا يهم!المال الحرام اليوم، والسلطة الحلال غداً!
التعليقات