دولة النقيق التي أنتجها ميشيل عفلق منذ أكثر من أربعين عاماً في سوريا والعراق، كانت خير ما يمثل الفلكلور السياسي قبل ظهور الإسلام وبعد سقوط حكم الراشدين، وامتدادا متقزماً لإمبراطوريات القبائل التي أعقبت إسقاط المشروع الحضاري الإسلامي باغتيال الأمام علي بن أبي طالب وإنهاء ما أتفق على تسميته بحقبة الخلفاء الراشدين وقيام إمبراطوريات ألعشائر، الأموية والعباسية ومن داخلها دويلات السلاجقة والاتابكة وال بويه ومن ثم إمبراطورية بني عثمان ومن سبقهم من قبائل المغول والتتر. حتى انتهى الحال بالعشائر الصغيرة في مطلع القرن الماضي وأواسطه لتأسيس دولها وأنظمتها على أنقاض ذلك الفلكلور السياسي.


في العراق كان الوضع يختلف نسبيا ً مع بداية تأسيسه الهش، ولولا المشروع البريطاني الذي تم بموجبه استيراد ملكاً من الجزيرة العربية وتنصيبه في بغداد لكانت الأمور ستأخذ منحاً أخر ربما يختلف عما حدث طيلة حكم ( آل هاشم ) وربما كان العراقيون سينجحون في اختراق ذلك الفلكلور أو تجاوزه إلى حد ما، وإن ما حدث في تموز عام 1958م كان ربما رفضا لتسلط قبيلة أو عشيرة على الحكم، بدليل إن عبد الكريم قاسم لم يمثل إلى حد كبير هذا الفلكلور، وحتى الذين أعقبوه قبل قيام دولة النقيق لم يكونوا مؤهلين بالتفسير السياسي لهذا الفلكلور أن يحكموا بموجب فلسفته.


مع مطلع الستينات نجح ميشيل عفلق بتقديم ذلك الفلكلور بصيغة مطورة لجمهور متهالك ومحبط وحالم بإمبراطوريات مترامية من الخليج إلى المحيط ينشد معاً نشيدا واحدا و يرفع رايات الثورة العربية من أقصى المشرق العربي إلى أقصى مغربه، دون أن يفقه ما وراء ذلك النقيق من شعارات براقة تدغدغ العواطف والغرائز وتسحق أمامها قيم الحضارة والتقدم الإنساني.


فجاءت تجربتهم في العراق عام 1963م على أنقاض الجمهورية الأولى التي حاولت إنشاء دولة عراقية بعيدة عن ذلك الفلكلور السياسي، هذه التجربة التي أبدعت في إنشاء مدارس العنف والتفنن في عمليات الاغتيال والتصفيات وإنشاء العصابات الإيديولوجية التي ستحرر الأمة وتوحدها، وتقضي على العملاء والمتآمرين على مستقبلها من الشيوعيين والأكراد والشعوبيين الشيعة الذين يعيقون تطور وتقدم الثورة العربية وحزبها الطليعي!.


وهكذا وخلال أقل من عام واحد نجح ميشيل عفلق في ترجمة وتطوير فكرة الغزو التي كانت سائدة بين القبائل العربية في الفلكلور السياسي والاجتماعي المنتشر في الجزيرة العربية وأطرافها، وتحويلها إلى مجموعة من القوانين والنظريات الإيديولوجية والشعارات من قبيل ( البعث طريقنا ) و( امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) و( وحدة حرية اشتراكية) وإلى آخر ما أبدعته قريحة القائد الضرورة الذي أنتجه ميشيل عفلق وأرسلته السماء لينقذ هذه الأمة؟.


ولم تمض فترة طويلة إلا وعاد فرسان دولة النقيق ثانية ليكملوا المشوار بعد إسقاطهم الأبيض جدا لحكم آل عارف المتواضع في تمثيله لذلك الفلكلور القديم الجديد. وتنطلق دولة البعث في العراق بغزواتها الكبيرة هذه المرة لتؤسس قاعدة الانطلاق نحو بناء مجتمع إيديولوجي يذيب ويصهر كل الأفكار والمعتقدات والقوميات والأديان والألوان في بودقة فلسفة البعث والعروبة العفلقية التي لا فرق فيها بين بعثي وآخر إلا بمدى تطبيقه لأفكار القائد الضرورة والإبداع في تصفية وسحق أعداء الحزب والثورة!.


ولأن القاعدة الفكرية لدولة النقيق قائمة على أساس الغرائز والعواطف الجياشة وفصل العقل عن الفعل، فقد تدافع الفرسان في نقيقهم ليل نهار من أجل تنفيذ أفكار وأحلام وطموحات الرئيس القائد والقائد المؤسس لإنشاء دولة الغزوات، فلم يروا أفضل من كوردستان ( بعد غزوتهم المباركة على الشيوعيين أعداء العروبة والإسلام وعلى الشعوبيين العملاء من الشيعة! ) فتضفدعوا مع الجارة إيران في اتفاقية الجزائر عام 1975م وقاموا بغزوتهم العروبية التاريخية وبطولاتهم النادرة بين الأطفال والنساء والأشجار والبساتين فأحرقوا الأخضر واليابس وحرروا كوردستان من أعداء فلكلورهم السياسي العتيد.


وتستمر عملية التطوير لفكرة الغزو بعد نجاحها قطرياً فيتضفدعون مع الحلفاء الاقربون ليشنوا غزوتهم القومية الكبيرة ضد عشائر الفرس المجوس في ( قادسية صدام ) شيخ العشيرة العظيم الذي لولا غزوته لأطفأ (عبدة النار) نور الإسلام والمسلمين(!) وليدافعوا عن بوابة الأعراب الشرقية (!) التي تنادى لها فرسان النقيق في كل مكان من أرض العرب والأعراب بالسيف والقلم والنفط وغدت دولة النقيق في العراق صاحبة ما أطلق عليه بالجيش الخامس في العالم حتى ظن صاحبنا بأنه إمبراطور المشارق والمغارب وإنه ظل الله على الأرض والعباد، فتعالى النقيق لدى الرفاق والأنصار والأصحاب بغزوة جديدة للفارس المغوار وهذا الجيش الجرار، فقصدوا ثانية ارض كوردستان كقطيع من الهمج والغيلان فعاثوا في الأرض فساداً في سابقة لم يذكر التاريخ مثيلاً لها، ففعلوا كما كان يفعل أجدادهم في الجاهلية حينما يغزون بعضهم، يقتلون الرجال ويسبون النساء والأطفال ويحرقون الأخضر واليابس ويسرقون الأغنام والبعران، بل زادوا على ذلك فاستخدموا آيات القرآن عناويناً وتعاويذاً لغزواتهم فكانت الأنفال المتعددة الألوان والأشكال فقتلوا مئات الآلاف من النساء والشيوخ والأطفال وأحرقوا آلاف القرى والبساتين ودمروا ينابيع المياه في كل كوردستان.


الغريب في كل هذه الغزوات كانت الأعراب صامتة مستكينة، ربما لأن شيخ العشيرة هذا يمارس جزأ من فلكلورها الجميل أو ربما كانت وجلة منه أو طامعة بغنائمه أو باحثة عن فارس من فرسان أحلامها، المهم إنه يمثل حلماً باطنياً أو نزعة سايكولوجية في العقل الباطني لدى الكثير ممن أغلقوا عيونهم عن مشاهدة حلبجة وهي تحترق أو سدوا منافذ آذانهم لكي لا يسمعوا الأنين والعويل في سيمفونية الأنفال، وهكذا تتوج الضفادع فارسها ملكاً لمشارق الأرض ومغاربها وشيخاً لكل الغزاة الباحثين عن أمجاد هولاكو، فيندفع هذه المرة في غزوة عارمة كاسحة بجيشه الخامس ليبتلع الكويت أرضاً ودكاكيناً ونساءً وينتشر الرفاق في أحياء الكويت ملوكا وأمراء يستبيحون الأموال والنساء حسبما جاء في دستور الغزو وتعليمات الفلكلور والتاريخ السياسي والاجتماعي لدولة النقيق، وهكذا تستمر بانوراما دولة الضفادع في غزواتها وبطولاتها حتى تنكفئ في حدود دولتها فتصب جام غضبها على مواطنيها بعد عودتها من غزوة ( أم المعارك ) فتعوث في الجنوب فساداً وتدميراً وتقتيلا.


دولة النقيق هذه أنتجت خلال أربعين عاماً أكثر من مليون قبر وما يقارب النصف مليون معاق جسدياً ونفسياً ومئات الآلاف من السراق والمنحرفين والانتهازيين والمتملقين والمختلسين الذين يحرقون العراق اليوم تحت شعارات المقاومة والتحرير كما كان يفعل قادتهم طيلة ما يقرب من اربعين عاما عجافا، وملايين من البشر تحت سقف الفقر المالي والعلمي والثقافي والآلاف الآلاف من المستكينين ومثلهم ممن أدمنوا النقيق والجريمة والدعارة السياسية والارتشاء والسادية.


إن ما أنتجته دولة النقيق من الأرامل واليتامى ( ولا زالت تنتجه بعد سقوطها ) في العراق وأطرافه لا يساويه رقم مماثل في كل المعمورة.
والاهم من كل ذلك إنها قتلت وبسبق الإصرار والترصد شيئاً اسمه المواطنة واغتالت إحساساً اسمه ألانتماء لوطن، لأنها وبجدارة فائقة أنتجت انتماءاً لشيخ العشيرة يفوق الإحساس بالوطن والمواطنة فالعشيرة وشيخها فوق كل شيء.


وحتى يتوقف النقيق يستمر هذا الفلكلور السياسي الجاهلي بأقنعة وعباءات متعددة يمثلُ بجدارة متناهية أفكار ذلك القائد المؤسس وأجداده العظماء في الجاهلية وإمبراطوريات القبائل.