إعتقد الكرد في غفلة منهم، و بسبب عقود، من المظالم التي تعرضوا لها على يد الأتراك، أن سنين الحرمان و الأنكار، ممكن أن تصبح من الماضي، في ظل حكومة تركية، إعترفت، لأول مرة، بظلم لحق بالشعب الكردي، و أنها بصدد رفع الحيف عنه، من خلال إجراءات و خطوات، تمنح الكرد في تركيا حقوق ثقافية، و فرص عيش أكثر إنسانية، عبر ضخ أموال، وتنفيذ مشاريع إقتصادية و إجتماعية في مناطق الكرد .

و مع أن تلك الخطوات لم تثمر سوى عن بعض التغييرات الطفيفة، من قبيل إنشاء قناة فضائية باللغة الكردية، و فرع في جامعة ماردين، تعني بتدريس اللغة و الأدب الكردي، إلا أن الأجواء العامة في البلاد، كانت تشجع التفكير، و تدعو المرء الى قدر من الأيجابية في النظر الى المستقبل . بيد أن ما قامت بها السلطات التركية في الأيام القريبة الماضية، و على أكثر من مستوى، تشير الى عجز الحكومة التركية عن إيفاء وعودها، و ربما إلى تراجعها عن ما صرحت بها في السابق، فيما يخص نيتها في الإنفتاح على القضية الكردية، بهدف وضع حد للصراع الدموي بين الجيش التركي و حزب العمال الكردستاني .

فالأجراءات الإزعاجية و التضيقية التي طالت زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في الآونة الأخيرة، في سجنه في جزيرة إيمرالي، و من ثم قرار المحكمة الدستورية العليا، بحظر حزب المجتمع الديمقراطي، و منع قادته من ممارسة السياسة لمدة خمس سنوات، أرجعت، القضية الأولى في تركيا، الى المربع الأول، و إمكانية حدوث مواجهات عسكرية واسعة بين الجيش و قوات الكريلا الكردية، و تراجع الإهتمام بالحل السلمي للقضية الكردية، جراء الكوارث التي ستتمخض عنها، هكذا وضع .

هذا الوضع الخطير، المترتب عن قرار الحظر بحق حزب المجتمع الديمقراطي، يشير الى مأزق عميق تعيشها تركيا . الإجراءات الأخيرة بحق الكرد، أثبتت بالدليل القاطع، عدم جدية الحكومة التركية برئاسة أردوغان في إيجاد حل سلمي و ديمقراطي للقضية الكردية، و ما قامت به من خطوات، و ما أعلن من إجراءات، لم تخرج عن نطاق حسابات حزبية للإسلاميين الأتراك، خاصة بعد االهزيمة النكراء التي مني بها أردوغان و حزبه في إنتخابات البلدية في آذار، و التي إستطاع فيها حزب المجتمع الديمقراطي من تحقيق فوز حاسم في معاقل مهمة، و مضاعفة عدد البلديات التي كانت بحوزته . و ما أزعج و أحرج أردوغان هو الإحتفاء المهيب لوفود السلام من قنديل و مخيم مخمور من قبل الشعب الكردي في جميع قصبات و مدن شمالي كردستان . أدركت الحكومة أن إنفتاحها المزعوم، يستثمر بالجملة من قبل حزب المجتمع الديمقراطي، لصالح الحل السلمي، وفق صيغة، غير الصيغة التي عنتها الحكومة و هدفت إليها . الحكومة أرادت من إنفتاحها، القيام بخطوات شكلية، فارغة المضمون، و لا تقارب جوهر المشكلة، بهدف إستعادة المواقع التي خسرتها في الإنتخابات السابقة، في شمالي كردستان، و لما توصلت الى قناعة بأن إنتصار كردي أكبر في أقرب إنتخابات مقبلة، ليست إلا مجرد مسألة وقت، تنصلت من الوعود، و سلمت ملف حزب المجتمع الديمقراطي الى المحكمة الدستورية، لإصدار قرار يقضي بحظره، و منع قادته من القيام بأية أنشطة سياسية وفق قوانين الدولة .

إذا، الوضع الناشئ عن تطور القضية الكردية في تركيا، و المكاسب التي تحقق لها، في داخل و خارج تركيا، جراء الممارسة الصائبة من حزب المجتمع الديمقراطي، و من خلفه الإسناد السياسي و العسكري من قبل حزب العمال الكردستاني، خلق حالة سياسية جديدة في تركيا، خاصة بعد التطورات الأخيرة، لعل أهم ما فيها، هي إظهار الوجه الحقيقي للإسلاميين الأتراك، و المدى الذي يمكن أن يذهبوا إليه، و الأهداف و الخلفيات التي تحكم خياراتهم في شأن التعامل مع الملف الكردي، و لعل أبرز ما يمكن ملاحظته في الوقت الراهن هو، إلتقاء المصالح بين الإسلاميين الإتراك و القوميين المتطرفين و الجمهوريين الكماليين . فالحركة القومية و الحزب الجمهوري وقفتا في وجه أي حديث أو نقاش عن الحل السلمي، لأنهما يفتقدان لأي موقع و حصة من الأصوات في شمالي كردستان في كافة الأحوال . و عندما توصل حزب أردوغان الى قناعة تفيد بتقلص فرص حزبه في تسجيل نتيجة جيدة في شمالي كردستاني في ظل الإلتفاف الجماهيري الكردي حول حركته و ساسته، إلتقت مصالح الأطراف الثلاثة من القضية برمتها، و هو ما يفسر تراجع أردوغان عن مشروعه المزعوم، و ترحيب رئيس المجهورية الضمني بقرار حظر حزب الإتحاد الديمقراطي .

و مع ذلك، فإن أردوغان أحسن إلينا مع كل ذلك، عندما أخرجنا من وهم المراهنة على laquo;الإنفتاح الديمقراطيraquo; التركي على الشعب الكردي، و مطالبه العادلة و المشروعة . فإذا كان مشروع أردوغان يرمي الى تصفية الحركة التحرر الكردستانية، و أسس و أهدافه العادلة و المشروعة، فإنه مشروع يستحق منا، الوقوف في وجهه، بكل الإمكانات، و تعريتها، و فضحها، لصالح المقاربة الحقيقية للقضية الكردية في تركيا، و وفاءا ً لتضحيات أبناء الشعب الكردي الأبرار