لم تفاجئني مظاهرة أعداء العولمة quot;الرأسماليةquot; أو أنصار quot;العولمة البديلةquot; احتجاجاً على مؤتمر العشرين في لندن قبل أيام. رافقتهم إحدى القنوات الفضائية وظهروا بحدود بضع مئات من الأشخاص الوافدين من أقطار شتى، بعضهم ظهر يحمل أعلام الحبشة وبعض بلدان غرب أفريقيا والبعض الآخر حمل أعلام النروج وسويسرا وآخرون حملوا علم حزب العمال الكردستاني ورطن جميعهم بألسنة مختلفة. كل هذا لم يفاجئني ؛ ما شدّ انتباهي أكثر من غيره هو أن الرايات التي رفعها المتظاهرون لتعبّر عن أهدافهم تحدثت في الغالب عن أمور قومية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بأية عولمة أو بما يسمى بالعولمة البديلة أو العولمة المؤنسنة. فالحبشي طالب بإنهاء السلطة الدكتاتورية في أثيوبيا والكردي طالب بالتحرر القومي والنرويجي طالب بالحفاظ على البيئة وما إلى ذلك من الهموم القومية. لكن لماذا كل هذا التشتت ؟ وهل هذه هي العولمة البديلة ؟
نشط عدد من الشيوعيين المفلسين من الذين عجزوا فكرياً عن استيعاب انهيار المعسكر الإشتراكي ولم يدركوا أسبابه الحقيقية، نشطوا في تشكيل تيار عالمي بديل للأحزاب الشيوعية في الأممية الثالثة حيث ظلوا يشعرون بالحاجة إلى تغيير العالم حتى وقبل أن يتفقوا على شكل العالم المنوي بناءه. هؤلاء الذين عجزوا عن إدراك تداعيات الصراع الطبقي داخل المجتمع السوفياتي خلال عبوره فترة الاشتراكية القصيرة إلى المجتمع الشيوعي تهيأ لهم أن انهيار الإتحاد السوفياتي وما رافقه من حركة اقتصادية رأسمالية تمثلت بقيام الشركات عديمة الجنسية، إنما هو انبعاث للنظام الرأسمالي، يتجدد ويستعيد حيويته خلافاً لما كان متوقعاً له من انهيار تام. أخطئوا في فهم انهيار الاتحاد السوفياتي وقادهم ذلك إلى خطأ فادح آخر تمثل في سوء فهم العولمة الرأسمالية وإدراك أسبابها، وهذا بدوره قادهم إلى الضياع الكلّي فدعوا إلى ما يسمى بالعولمة البديلة وهي ضلالة لا تعني شيئاً محسوساً واضح المعالم. لذلك كانت مظاهرة أنصار العولمة البديلة في احتجاجهم على قمة العشرين أشبه ما تكون بأسطورة بناة برج بابل التوراتية وقد تحققت ؛ كلٌ يتكلم في موضوع لا علاقة له بما يتكلم به من يقف إلى جواره.
لن أتهيّب نقد بعض الأصدقاء وسأكرر نفسي مرة بعد مرة علّني أفلح يوماً في نزع الغشاوة عن أبصار البعض من الشيوعيين الضالين أو المضللين بشكل خاص، فأقول في محاور رئيسية التالي..
1.ليس أسخف من أن يقال أن عبور البروليتاريا السوفياتية لفترة الإشتراكية قد تعطل بسبب أعداء الاشتراكية من البروليتاريا نفسها. بل إن مثل هذا القول لا يستحضر إلا الضحك الساخر، إذ كيف يكون المرء ضد نفسه !! بل ويزيد بعضهم في وقاحته فيدعي أن أقساماً من البروليتاريا تعلقت بإنسانيتها فعملت على الرجوع عن عبور الاشتراكية إلى الشيوعية وقد أدركت quot;وحشيةquot; العبور !! ما يفضح هؤلاء المتآمرين الكذبة هو أن ما وصفوه كذباً بالوحشية حدث فيما وصف بسنوات quot;التطهيرquot; 1936 ـ 1938، لكن الرجوع عن الإشتراكية بدأ في أواسط الخمسينيات بعد رحيل ستالين وقدوم خروشتشوف الذي وصفته الدوائر الغربية الرأسمالية بالمرهف بالحس الإنساني !! كيف يمكن اعتبار خروشتشوف وعصابته من طبقة البروليتاريا بل من طليعييها وهم قد أصروا بوقاحة الخونة المفضوحين على طرح دكتاتورية البروليتاريا وراءهم في العام 1959 أثناء انعقاد المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي ؟ لا يجوز مخالفة المادية التاريخية لماركس لنعتبر أن التاريخ قد تحرك ـ إلى الخلف باعتبار الشيوعيين وإلى الأمام باعتبار البورجوازيين ـ بغير محرك التاريخ الوحيد وهو الصراع الطبقي. سيء الذكر والصيت الفلاح الأوكراني الغبي نيكيتا خروشتشوف الذي نادى بإلغاء الصراع الطبقي من المجتمع السوفياتي قاد الطبقة الوسطى، العسكر والفلاحين والمهنيين، إلى الإنتصار الساحق على البروليتاريا. الحقيقة الهامة جداً ولا يجوز العبور عنها في هذا السياق ـ وقد اعتاد الشيوعيون من أنصاف الماركسيين العبور عنها ـ هي أن الطبقة الوسطى، العدو المصيري للبروليتاريا هي أيضاً عدو تاريخي للرأسماليين. لذلك فإن الطبقة الوسطى السوفياتية ستبلى في مكانها ولن يعود النظام في الجمهوريات السوفياتية سابقاً إلى النظام الرأسمالي. التنمية الإقتصادية الإشتراكية السوفياتية كانت قد نمت بقوى مختلفة نوعياً عن قوى التنمية الرأسمالية وهي لذلك غير مؤهلة على الإطلاق لإنتاج البضائع للسوق كما تنتج الرأسمالية. أولئك الذين يقولون بالتحول الرأسمالي في روسيا تنقصهم المعارف الأولية في علم الإقتصاد. الرجوع إلى النظام الرأسمالي يلزمه قبل كل شيء اجتثاث القاعدة الاقتصادية الهائلة التي بنتها الشعوب السوفياتية بقيادة دولة دكتاتورية البروليتاريا وعلى رأسها ستالين ما بين 1922 و 1953 من جذورها والعودة إلى نقطة الصفر. وهذا ما تعهد القيام به عدو الشعب بوريس يلتسن وعصابته المارقة وما رافق ذلك من نهب همجي للثروات السوفياتية الضخمة تجاوز أبشع ما عرفته حروب الإمبراطوريات القديمة، ومن انحطاط في قوى الإنتاج وتفشي الجوع الحقيقي الفظيع بين مختلف شرائح الشعوب السوفياتية وانهيار كل القيم الإنسانية إلى أن تبدّى جلياً أخيراً وبصورة قاطعة أن العودة إلى نقطة الصفر أمر لا يقع داخل حدود التاريخ.
2.لا أدري بحـال من الأحـوال كيف يُجْمع المحللون والدارسون للإقتصاد السياسي تقريباً على القول بأن العـولمة (Globalization)إنما هي إحياء للنظام الرأسمالي، علما بأن الحركة الظاهرة للعولمة الرأسمالية تتمثل قبل كل شيء آخر بتحطيم المركز الرأسمالي (Metropolis) نفسه، حيث ترحل منه المصانع ومؤسسات الإنتاج الحقيقي لتقيم في الأطراف، وفيما يصفه السياسي الأميركي البارز رالف نادر بتصدير ملايين الوظائف الصناعية إلى ما وراء البحار. تهاجر الشركات الصناعية الكبيرة ولا تعود تنتمي لقومية معينة وتغدو عابرة للقوميات. ما يجهله أو يتجاهله القائلون بالعولمة كإحياء للرأسمالية هو أن نظام الإنتاج الرأسمالي كان قد نما تاريخياً نموّاً طبيعياً بمثل ما هي عليه الخلية البيولوجية الحية. بدأ بالتشكل من خلال الرأسمالية التجارية (Mercantilism) حتى استوفت الخلية الرأسمالية أول شروط بنائها وهو تراكم رأس المال ؛ وتلا ذلك بناء نواة الخلية(Nucleus) التي هي quot;الرأسمالية القوميةquot; أي إنطلاق الإنتاج الرأسمالي في حدود الفضاء القومي (National Capitalism). وفي المرحلة الثالثة وقد غمر فائض الإنتاج السوق المحلية من خلال فائض القيمة التي يحققها الرأسماليون في البلد المركز فاقتضى ذلك تصدير فائض القيمة إلى الأسواق الخارجية من خلال الإمبريالية (Imperialism) والهيمنة على شعوب الدول الأخرى كيلا يختنق النظام الرأسمالي في مركزه وعقر داره. النظام الرأسمالي هو بالضرورة نظام عالمي خلوي له نواة (Nucleus) وهي المركز الرأسمالي أو المتروبول (Metropolis)، وله سيتوبلازم (Cytoplasm) وهو المحيط ويتمثل بالدول التابعة أو المستعمَرة (Peripheral)، وله أيضاً إكتوبلازم (Ectoplasm) وهو جدار حماية الخلية ويتمثل بالقوى المسلحة للمركز من شرطة تتكفل بتطويع الطبقة العاملة في المركز نفسه وجيش بمختلف قواه الحربية والذي يتكفل بتطويع شعوب البلدان التابعة وحماية حدود المجال الحيوي للخلية الرأسمالية. في أوج عصر الرأسمالية الإمبريالية مع بداية القرن العشرين غطت العالم عدة خلايا رأسمالية إمبريالية مستقلة بحالها وهي بريطانيا، روسيا، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة، اليابان، هولندا وبلجيكا. ثمانية خلايا رأسمالية كانت تغطي معظم مساحة العالم ولكل منها نواة ومحيط وقوى مسلحة للحماية. كافة النشاطات الحيوية في الخلية البيولوجية تخضع تماماً، كما هو معروف، لأوامر تصدر عن النواة وكذلك هو الحال في الخلية الرأسمالية حيث تخضع العمليات الإقتصادية وغير الإقتصادية لمتطلبات وشروط المركز. كما أن تحطيم النواة في الخلية البيولوجية يعني مباشرة موت الخلية فإن تحطيم المركز في الخلية الرأسمالية لا يعني إلا موت الخلية الرأسمالية وبالتالي موت الرأسمالية كنظام للإنتاج وهو ما تفعله العولمة الرأسمالية بالنظام الرأسمالي الخلوي. والسؤال الهام والمفصلي هنا هو.. هل يمكن للنظام الرأسمالي أن يقوم بهيكل غير خلوي ؟ لا يستقيم ذلك مع أي تصور لميكانزمات النظام الرأسمالي. فروح الرأسمالية هي الربح المتحقق من استغلال العمال الذي لا يتم إلاّ بوساطة القمع وأداته القوى المسلحة المأجورة فقط. فلماذا تستأجر الولايات المتحدة مثلاً قوىً مسلحة بكلفة باهظة كي تحمي مصالح شركات عديمة القومية مقرها في ماليزيا أو سنغافورة حتى ولو امتلك أميركيون معظم أسهمها ؟ القول بالعولمة الرأسمالية ينفي ذاته بذاته ولا يصح إلا إذا كانت هذه العولمة تتجسد بتحطيم النظام الرأسمالي وانهياره، وما هو ماثل فعلاً منذ ما بعد إعلان رامبوييه في العام 1975.
3.أما وقد ضلّ أنصار العولمة البديلة في فهم طبيعة العولمة الرأسمالية فلا يمكن والحالة هذه أن يفلحوا في تشكيل ما يسمونه بالعولمة البديلة (Alternative Globalization)، فلكي يصنع المرء بديلاً عن شيء لا بد له من أن يعرف مسبقاً كل عناصر وتفاصيل تكوين الشيء المستبدل ؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن معظم قيادات حركات ما يسمى بالعولمة البديلة هالتهم الانهيارات المدمرة التي دمرت العوالم الثلاث التي آلت إليها نتائج الحرب العالمية الثانية مما أصابهم بالإحباط الكلي والعجز التام فلم يكن أمامهم من مفر سوى تناول الأفيون من خلال استبدال المنهج المادي الواقعي بالمنهج المثالي وهو ما من شأنه أن يدخل الرضا الوهمي إلى أنفسهم تماماً مثل من يتعاطى الأفيون. يرسمون العالم على الورق بالألوان الزاهية التي يرغبون ويصرخون.. quot; هكذا يجب أن يكون العالم ! quot;. ببله شديد يعلنون.. quot; أن الحاجة قد تزايدت لقيام عولمة شعبية على مبادئ ومؤسسات جديدة تجسد قيم العدالة والديموقراطية والإعتماد على الذات quot;. هكذا هم وتابعوهم يتعاطون الأفيون ويبتهجون بهجة كاذبة ولا يقولون متى وكيف ولماذا تزايدت الحاجة ومن هي القوى القادرة على إقامة مثل هذه المبادئ والمؤسسات المجسدة للعدالة والديموقراطية والاكتفاء الذاتي (sustainability) وما هي طبيعتها. يطلبون من إنسان بترت ساقاه أن يجري بسرعة 100 متراً في الدقيقة !! ما فات هؤلاء الذين أضحوا من فرائس الفكر المثالي هو حقيقة نمط أدوات الإنتاج الحديثة التي تعمل فقط في الإنتاج الكثيف (Mass Production) وعليه فقد ترتب أن يكون نظام الإنتاج بوساطة مثل هذه الأدوات هو نظام إنتاج عالمي. لن تستطيع البشرية بعد أن اعتمدت على مثل هذه الأدوات في معاشها أن تعود إلى ما قبل الإنتاج الرأسمالي وتستغني عن أدوات مكنتها من أن تطور أنماط حياتها لآفاق عليا. كان كارل ماركس قد أشار إلى أن النظام الرأسمالي هو أول نظام عالمي تعرفه البشرية ولن يخلفه إلا نظام عالمي كذلك.
الخضر في بريطانيا وهم من الفصائل الرئيسة بين جماعات ما يسمى بالعولمة البديلة ينادون ب.. quot; تأهيل التجمعات السكانية للسيطرة على زمام إقتصادهم المحليّ بحيث يلبي جميع احتياجات السكان quot;. من ينادي بهذا لا يمتلك أدنى معرفة بالتاريخ أو بالعلوم الإقتصادية والسياسية والاجتماعية. الخضر الإنجليز يسوقون صكوك الغفران لكن الرب الذي يمسك بمفاتيح الفردوس لا يقرأ مثل هذه الصكوك. كيف للشعوب الفقيرة، بل وحتى الغنية، أن تمسك بزمام التنمية في بلادها ؟ أية طبقة وأي تحالف طبقي يقوى على الإمساك بزمام المبادرة ؟ ولمصلحة من ستكون التنمية ؟ ألمصلحة الرأسماليين وإذّاك ستقضي الضرورة الحيوية إلى تصدير فائض الإنتاج إلى خارج الحدود وسيعود العالم إلى منتصف القرن التاسع عشر وإلى الحروب الاستعمارية، أم لمصلحة البروليتاريا ويعود العالم مرة أخرى إلى نيسان 1917 حين استوجب استيلاء الشيوعيين على السلطة في روسيا. يتحدثون عن نظام اجتماعي وعالمي بديل بتجاهل تام للصراع الطبقي وهم مثل من يخطط للسفر من مكان إلى مكان آخر بدون أي واسطة للسفر.
وهناك جماعات أخرى أكثر هوساً واستغراقاً بالمثالية إذ تعلن أنه على الشعوب أن تناضل في سبيل الديموقراطية والتقدم الإجتماعي حتى إقامة ما سمّوه ابتساراً quot; الأممية الشعبية quot; (Peoplesrsquo; Internationalism) لا أدري حقاً ما الذي يقترحه هؤلاء المهووسون بالمثالية على الشعوب !! هل يقترحون على الشعب الهندي مثلاً مصالحة طبقية فبتصالح الإقطاعيون مع العمال الزراعيين والعمال مع الرأسماليين فتأخذ كل طبقة حقها ؟ لكن حق العمال يتحقق فقط عندما لا تتحقق حقوق الرأسماليين وكذلك العمال الزراعيين مع الإقطاعيين فكيف سيتدبر الأمميون الشعبيون مثل هذا الأمر ؟ الحقيقة الأرضية التي لا يراها هؤلاء من أعالي سمواتهم هي أن التنمية كما الديموقراطية لا يتحققان بغير هوية طبقية. ثمة ديموقراطية بورجوازية تحكم بأن يتعايش العمال والرأسماليون جنباً إلى جنب بحكم الضرورة الحيوية إذ لا رأسماليين بدون عمال ولا عمال بدون رأسماليين وهناك بالمقابل ديموقراطية اشتراكية التي توفر كل الحقوق للمنتجين وتحرم غير المنتجين من كل الحقوق. أما التنمية فلا تتحقق إلا من خلال إحدى هاتين الديموقراطيتين. إرتفعت حديثاً، خلال الربع الأخير من القرن المنصرم، صيحة quot; الطريق الثالث quot; (Third Road) والتي تزعم أن ثمة تنمية لا هي رأسمالية ولا هي اشتراكية. وهذه هي الصيحة النشاز التي تطلقها الطبقة الوسطى التي تفترس قوى الإنتاج في عالم اليوم. هنا أشير بقوة إلى المؤتمر الذي عقده رؤساء الدول الإشتراكيون الأوروبيون مع الرئيس كلنتون في خريف العام الأخير من الألفية الثانية في لندن لمدة ثلاثة أيام ـ كلنتون/الولايات المتحدة، طوني بلير/بريطانيا، جوسبان/فرنسا وشرودر/ألمانيا ـ استمرت المحادثات لثلاثة أيام وراء أبواب مغلقة وخرج بعدها وليم كلنتون يقول أن الرؤساء الأربعة انهمكوا طيلة المباحثات في البحث عم معالم الطريق الثالث غير أنهم لم ينجحوا في إيجاد أية معالم. ولنا أن نتساءل هنا.. لماذا يلف النسيان أهم وأطول مؤتمر لرؤساء الدول الكبرى في العالم خاصة وأنه توصل إلى أهم المقررات فيما يخص المرحلة التاريخية الراهنة !؟ أو الأحرى، لماذا هذا التناسي، ومن عمل عليه !؟؟
وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، فلنا أن ننبه إلى الإختلاف النوعي بين الديموقراطية والتقدم الإجتماعي اللذين يدعو إليهما أنصار quot; العولمة البديلة quot; و quot; أممية الشعوب quot; وبين quot; الديموقراطية الشعبية quot; التي عرفتها بلدان شرق أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. لقد بذلت الجيوش السوفياتية تضحيات كبرى وتحملت خسائر جسيمة في تحرير شرق أوروبا من الإحتلال النازي البغيض. في مؤتمر يالطا في فبراير شباط 1945 راودت تشرتشل آمال إعادة عملائه إلى السلطة في بولونيا وغيرها من بلدان شرق أوروبا إلا أن ستالين أخرسه بالقول نحن لم نحرر شرق أوروبا لتحكمه عصابات معادية لنا !! وقلائل يعلمون أن تحرير وارسو وحدها كلف الجيش الأحمر حياة خمسمائة ألف عسكرياً. فيما بعد الحرب وجد ستالين أن بلدان شرق أوروبا في حالة تخلف صناعي باستثناء تشيكوسلوفاكيا فاقترح على الأحزاب الشيوعية فيها أن تأخذ بنظام الديموقراطية الشعبية التي تقوم على تحالف بين العمال والفلاحين والرأسماليين وهو ما يمكّن من القيام بتنمية شاملة تصل بعدها الطبقة العاملة إلى إقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا. طبيعة مثل هذا التحالف الطبقي هي مؤقتة وتنتهي بصورة آلية وليست مثل العولمة الشعبية البديلة التي ينادي بها أنصارها كونها بذاتها هدفهم النهائي.
معظم قادة المنظمات من أنصار العولمة البديلة هم من الشيوعيين سابقاً المنحدرين من أصول بورجوازية وضيعة. لم يدرك هؤلاء حقيقة ماركسية كبرى وهي أن الشيوعيين هم من يمثّل نمطاً معيناً من الإنتاج وهو النمط الجمعي البروليتاري (Associated Production) والقول بأنهم يمثلون العمال بصورة عامة ليس قولاً دقيقاً حيث هناك الكثير من العمال الذين يعملون بالإنتاج الفردي (Individual Production) مثل عمال الخدمات بشتى أنواعها. الإنتاج الذي يتم بصورة فردية لا يفقد طابعه البورجوازي في جميع الحالات ولذلك لا يمثل الشيوعيون مثل هؤلاء العمال الذين في حالات كثيرة سيقاومون الإنتقال إلى نمط الإنتاج الجمعي الشيوعي. الشيوعيون يمثلون البروليتاريا من العمال وليس العمال بصورة عامة، وهم بالطبع لا يمثلون الشعب أو الجماهير ومثل هذه المسميات الجوفاء المفتقدة لكل دلالة التي درجت على ألسنة الشيوعيين. الشيوعيون يمثلون النمط الجمعي من الإنتاج لأن مثل هذا النمط وحده يجلب الوفرة المادية للمجتمع وبه فقط تتحقق الشيوعية حيث ينال الفرد كل ما يحتاجه دون مقابل. اليوم وقد تراجع نمط الإنتاج الجمعي البروليتاري تراجعاً هائلاً وحلت محله quot; المشاريع الصغيرة quot; وهي النداء اليومي للبنك والصندوق الدوليين فيما بعد مؤتمر الخمسة الأغنياء في رامبوييه 1975، كونها السلاح الأمضى في مقاومة الشيوعية، فذلك يعني بالضرورة أن الشيوعيين قد فقدوا قاعدتهم المادية. الهزيمة التي لحقت بالبروليتاريا السوفياتية في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي ساعدت الرأسماليين في أن يخلوا إدارة دفة النظام العالمي لصالح الطبقة الوسطى المنتصرة حتى في الإتحاد السوفياتي وليس لصالح البروليتاريا المهزومة، لصالح الطبقة الوسطى بحكم نمط إنتاجها الفردي البورجوازي. الإنقلاب الرجعي العالمي، الرجوع من الإنتاج الجمعي البروليتاري الوفير إلى الإنتاج الفردي البورجوازي الوضيع، هو ما أفقد شيوعيي الأممية الثالثة قاعدتهم المادية التي كانت تؤهلهم إلى الإنتقال إلى الشيوعية كما في تكتيك وإستراتيجية الأممية الثالثة. الطبقة الوسطى لا تعوّض وضاعة إنتاجها إلاّ بافتراس طبقة البروليتاريا بصورة وحشية وهو ما تسبب بالأزمة المالية الراهنة وسيؤدي استمراره إلى فناء العالم إذا لم يتدبر الشيوعيون الأمر ويعيدوا العالم إلى سكة تطوره التاريخية. الطريق إلى الشيوعية التي رسمتها الأممية الثالثة استجابة لمشروع لينين وصلت إلى طريق مسدودة نهائياً. الإنتظار عند نهاية السد إنما هو خيانة مفضوحة لتراث ماركس ولينين. لذلك يترتب على كافة الشيوعيين المخلصين لنداء ماركس quot; يا عمال العالم اتحدوا ! quot; أن يبادروا في الحال إلى أن يخوضوا غمار البحث المضني والجاد عن سبل إنقاذ العالم المتدهور سريعاً إلى الفناء. هل بإمكان الشيوعيين تحديداً إنقاذ العالم وإيجاد السبل الكفيلة بإحياء المسيرة نحو الشيوعية ؟ كان المجرى العام لتكتيكات الشيوعيين يتمثل بتأجيج الصراع ضد الرأسماليين، أما اليوم وقد أضحت دفة النظام العالمي بأيدي الطبقة الوسطى فلا بدّ أن يتوقف الصراع الطبقي المعهود ريثما يتعيّن تحديداً العدو الطبقي المواجه للشيوعيين بتشكيلاته المختلفة وأسلحته المتنوعة ليصار عندئذٍ إلى تحديد وسائل الصراع والأخذ بها. كانت تكتيكات الأممية الثالثة قد اقتضت تشكيل أحزاب شيوعية بالشكل المعهود، أما اليوم وقد أضحى الشيوعيون في مفازة بلا آفاق فيقتضى تشكيل تنظيمات مختلفة تستجيب للمهمات المطروحة ؛ ولعل تشكيلات الأممية الأولى التي شكلها ماركس عام 1964 هي الأكثر فعالية نظراً لتناظر المهمات المطروحة.
فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات