خلال الزيارة التي قام بها إلى تركيا، ومن على منبر البرلمان التركي، أهاب الرئيس الأميركي وبإسلوب دبلوماسي بارع، بدور تركيا الشرق أوسطي، وبمفصلية وأهمية هذا الدور في المرحلة القائمة. ولقد أسهب الرئيس أوباما طويلا في كلامه عن نموذجية وفرادة تركيا وتميزها، كونها بلد إسلامي وعلماني في الوقت ذاته.وأكد من ناحية أخرى على رغبته في تمتين وتنمية الشراكة التاريخية القائمة بين البلدين،مستبعداً قيام أي توترات بينهما من نوع صدام الحضارات، والذي من الممكن أن يستجد بين امة مسيحية، وأخرى تضم غالبية مسلمة، أو بين أمة غربية وأخرى تتمتع بحكم موقعها الجغرافي بالحضارتين الغربية والشرقية. كما أثنى على الديمقراطية الممارسة في تركيا، وعلى تمسك الشعب بسيادة القانون، وبكل أنواع الحريات، وأعتبر بأن تركيا اليوم،يمكن أن تكون مثالاً ُيحتذي به ليس فقط على المستوى الشرق أوسطي، ولكن على النطاق العالمي أيضاً.
أوصاف سامية ورفيعة تقبلها الجانب التركي بكل طيبة خاطر. وعلى ما يبدو تقبل معها أيضاً رزمة من الملفات العالقة والمهمات الشائكة والفائقة التعقيد، سلمها الرئيس أوباما للشريك التركي ليرعاها ويحلحلها على طريقته. منها وعلى سبيل المثال لا الحصر، أزمة أفغانستان، ومنها أيضاً ملفي العراق وكردستان، يليهما بالتسلسل الزمني الملف النووي الإيراني، وصولاً إلى ملف السلام في الشرق الأوسط المستعصي حتى الساعة على مساعي الساسة العرب، وعلى المحادثات والحوارات الإقليمية والدولية، ناهيك عن الحروب التي شنت بسبب البحث عن السلام واستتبعت بقمم، وعن القمم التي استتبعتها حروب، من دون أي نتائج تذكر. ومما لا شك فيه أن إدارة أوباما الجديدة تريد تحاشي الخوض بغمار هذه البحار ألهائجة، وتؤثر عدم الانزلاق إلى خضم الوحول المائجة، والتي أودت بسياسة إدارة الرئيس بوش إلى المراوحة والتخبط. فكان لا بد من تحيل الوسيط التركي لتسليمه هذه الملفات لإزاحتها من درب الإدارة الأميركية الجديدة الطامحة لتلميع صورة الولايات المتحدة الأميركية. مما يعني أن الرئيس أوباما لم يختر منبر البرلمان التركي لمخاطبة العالم المسلم المتشنج تجاه بلاد العم سام، عن عبث، ولم يفضله على أي منبر إسلامي آخر عبثاً عن طريق الصدفة، بل فعل ذلك ضمن استراتيجيه معينة وخدمة لأهداف محددة وانسجاماً مع تطلعات الإدارة الجديدة أولاً.
وبغض النظر عن التظاهرات المنددة بزيارة الرئيس الأميركي، في مناطق أخرى في تركيا، يمكن اعتبار هذه الزيارة ناجحة. ومن المنتظر أن تأخذ هذه الاستراتيجية المشتركة طريقها إلى التنفيذ خلال المرحلة المقبلة. فتركيا تحتاج إلى دعم ومساندة واشنطن من أجل الضغط على دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا، والتي ما زالت تمانع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة من ناحيتها تنظر بعين الرضا لنجاحات الوساطة التركية والتي بانت بوادرها في نهاية عهد الإدارة السابقة. فتركيا كان لها حضور مميز في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية، وشاركت في أكثر من مؤتمر يخص الملفات الشرق أوسطية، وكان لرئيس الدولة ولرئيس مجلس الوزراء التركي زيارات مكثفة لكافة الأقطار العربية. ولقد تميز الدور التركي بالوساطة التي قام بها رئيس الوزراء التركي ومساعده علي باباجان بين سوريا وإسرائيل، في سياق المفاوضات الغير مباشرة بين الطرفين،كما كان لمداخلة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان،لمصلحة الطرف الفلسطيني في دارفور، وقع إيجابي على المستوى العربي عامة.
وتتطلع واشنطن إلى إقناع تركيا بتكثيف ضغوطها الاقتصادية على طهران، خصوصاً وأن الأخيرة تعتبر المصدر الثاني الأكبر للغاز الطبيعي لتركيا بعد روسيا وإلى تفعيل مساعيها في موضوع السلام السوري الإسرائيلي وصولاً إلى عزل طهران، بهدف تقليم أظافرها والحد من طموحاتها التوسعية الإقليمية. ولا بد من الإشارة أيضاً لامتلاك تركيا لثاني أكبر جيش في حلف الناتو، مما يؤهلها للعب دور مهم في أفغانستان، في حال طلب منها إرسال المزيد من الجنود إلى هناك حيث مرتعي حركتي طالبان والقاعدة. أما في حال تم سحب القوات القتالية الأميركية من العراق بعد ستة عشر شهرا كما وعد الرئيس أوباما، فبحكم الجوار قد يكون الدعم اللوجستي الذي يمكن أن تقدمه أنقره، مهم جداً لنجاح عملية الانسحاب.
ولكن هناك مثل شعبي انكليزي يقول:quot;wait and seequot;.أو انتظر وراقب. وقولنا هذه ليس نابع من خلفية التشكيك أو من باب التشاؤم من سياسة الإدارة الأميركية الجديدة، ومن قدرة تركيا على القيام بكل الأدوار التي من المفترض أن تلعبها في السنين المقبلة ولكن علمتنا مراقبة التطورات وسير الأحداث في منطقة الشرق الأوسط الدائم الغليان، بأن دروب جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة، كما أن البرامج الإستراتيجية المسبقة لا تأخذ مجرى التنفيذ بالضرورة، مثلما يخطط ويرسم لها خلف المكاتب وداخل الدوائر المغلقة. وقد لا يكون التصعيد الأمني الذي انفجر فجأة وبشكل عنيف في العراق كما الصاروخ الكوري الذي أطلق في الفضاء والمؤهل لحمل رأس نووي، تزامناً مع زيارات أوباما الشرق أوسطية، من باب الصدفة ومن دون خلفية. أما السؤال فهو إلى أي مدى يمكن لتركيا أن تماشي سياسة الولايات المتحدة دون الوقوع في مطبات نابعة من ارتباطاتها الداخلية، إن من ناحية هويتها تارة كدولة علمانية، وتارة كدولة إسلامية، وتارة أخرى كحليفة لإسرائيل. إذ من الوارد أن تظهر إيران ممانعة للحوار مع الطرف التركي بحجة أنها حليفة لإسرائيل، وأن يرفض طالبان التنسيق مع قواتها في أفغانستان، على أساس أنها تابعة لحلف الناتو الغربي والغير إسلامي. فالحجج التي من المكن أن تختلقها أو تخترعها المنظمات والدول quot;الممانعةquot; لعدم التنسيق، قد تكون عير منتظرة وقادرة عل إحباط كل مساعي الانفتاح والحوار. في كل الأحوال يظل دخول تركيا كوسيط إلى منطقة الشرق الأوسط تهيمن عليه تحفظات عائدة إلى الذاكرة الجماعية المثقلة بسلبيات الإمبراطورية العثمانية.
زد على ذلك كون تركيا ليست الحليف الأول للولايات المتحدة في الشرق الأوسط الذي ُتبدي بالرغم من كل المظاهر اليوم، مصالح إسرائيل على سواها. وتركيا هي الحليف الثاني للولايات المتحدة،وقد يكون مطلوب منها أميركيا في المرحلة المقبلة، وإن بشكل غير معلن أيضاً، مجاراة مصالح الحليف الأول عندما تدق ساعة الحسم. فهل تستطع تركيا القيام بدور الوسيط المحايد بكل هذه الملفات ودون الانجرار إلى مراعاة مصالح الولايات المتحدة أولاً وإسرائيل ثانيا. لأنه في هذه الحال فقط، أي في عدم اعتماد مكيالين ومعيارين يمكنها النجاح في دورها الشرق أوسطي، وإلا ذهبت كل النوايا الحسنة والاستعدادات، وعبارات التبجيل المتبادلة بين القطبين الأطلنطي والشرق أوسطي أدراج الرياح.
مهى عون
كاتبة لبنانية
e.mail:[email protected].
التعليقات