لعقود طويلة ارتبط النشاط الفكري والسياسي ـ ومازال ـ في المنطقة العربية من خلال تيارت الفكر العربي بمقولات وأفكار التبست فيها الآيدلوجيا على نحو عميق وبصورة لم يكن الفرز فيها ممكنا بين الآيدلوجيا والمعرفة في محمولات تلك الأفكار، إلا بعد أن حدثت تحولات بنيوية تداعت معها الكثير من تلك الأفكار، وتبين فيما بعد أن تلك الأفكار لم تكن تنطوي على مفاهيم معرفية متماسكة ؛ بقدرما التبست بآيدلوجيا كثيفة ؛ كانت السبب في النهاية إلى انهيار الدعاية الفكرية لتلك المقولات العتيدة.
وإذا كانت الآيدلوجيا في إحدى تعريفاتها تعني (الوعي الزائف) فإن هذا التعريف هو تحديدا الذي تغلغل في بنية الخطاب الفكري العربي، لاسيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وطوال سنوات الحرب الباردة.
وبالرغم من أن الرافعة الحزبية كانت ضمن الآليات التي أدت إلى انتشار الآيدلوجيات في الأحزاب العربية المختلفة ابتداء من القوميين العرب، ومرورا باليساريين، وانتهاء بالإسلاميين، إلا أن مفاعيل هذه الآيدلوجيا لم تضر فقط بالدعاية الذاتية لتلك الأحزاب والتيارات فحسب ؛ بل أدت إلى تشويه المعنى المعرفي الدقيق والممكن للأصول النظرية لتلك الأفكار أيضا ومن أسف أن الذي تكشف اليوم بعد سقوط المعسكر الاشتراكي وانتشار ثورة المعلوماتية والاتصالات، هو إمكانية أن تتواصل تلك الآيدلوجيا في خطاب التيارات العربية لعقود لاحقة ربما ؛ لكن الحقائق التي تتابعت في الكشف عن جذور الآيدلوجيا كانت أقوى، وكانت حقائق واقعية صلبة بحيث لا ينفع معها المكابرة الزائفة.
ورغم بقايا الخطاب الآيدلوجي العربي التي تنشط هنا وهناك في بعض الفضائيات لتوهم الناس بجدوى شعاراتها.إلا أن من أهم أسباب غلبة الآيدلوجيا على الشعارات الفكرية والحزبية كانت في عدم القدرة على الانفكاك عن مناخ الاستقطاب في الحرب الباردة، وكانت الاستجابة لتيارات الفكر التي توزعت بين المعسكرين الشرقي والغربي أقوى من القدرة على التحديق في الشروط والتحديات الذاتية للتخلف العربي ولهذا بدا المناخ العام للاستقطاب السياسي العالمي وما رافقه من امتدادات الدعم المادي والسياسي للبلدان العربية من طرف كل من القطبين ؛ أشبه بحال دائمة من الثبات، فيما لم تكن كذلك في الواقع ـ كما تكشف لاحقا بسقوط المعسكر الإشتراكي ـ وكان ذلك الثبات الممثل في شكل الدولة الوطنية واستقرار العيش النسبي للمجتمعات العربي، يوهم بالكثير من الاستحقاقات التي ظن كثيرون أنها كانت ناجزه كالطبقة الوسطى، والثورة والاستقلال وغيرها، لكن تأكد فيما بعد أن كل تلك الشعارات لم تتحقق على نحو حقيقي وواقعي. الأمر الذي دل على خواء الآيدلوجيا في المقولات الفكرية للأحزاب العربية بكل تياراتها.
واليوم بعد أن تجلى تماما كيف أن العرب لم يستطيعوا إنجاز تحدياتهم الذاتية إزاء الكثير من الاستحقاقات كالتنمية والتعليم والصناعة والوحدة والديمقراطية، تبدو أن الكارثة أكبر من ذلك بكثير.
فليس التحدي الذي يواجه العرب اليوم هو المزيد من التقدم في التحديث والديمقراطية والوحدة، بل هو: كيف يمكن الحفاظ على الحد الأدنى من الحياة السوية التي تصلح أن تكون شرطا للانطلاق نحو تلك الأهداف؟
فما يلوح اليوم في البلاد العربية من شبح الحروب الأهلية والتفكك، والانهيار كان من أكبر التحديات التي عجزت الايدلوجيا العربية في العقود السابقة عن استكشافها والتحذير من خطورتها.
كما أن تلك الاستحقاقات لم تكن موضعا للخلاف الآيدلوجي بطبيعتها، بل تحديات حقيقية كان ينبغي للعرب وضع استراتيجيات لتحقيقها بكل تياراتهم الفكرية والحزبية. أي كان ينبغي أن تكون تلك التحديات موضع إجماع من جميع تياراتهم، فالجميع كان يعرف التخلف الذي يخيم على حياة الأمة العربية، والجميع كان يعرف الموقع والطاقات والقدرات الإستراتيجية للعرب، والجميع كان يعرف أن المنطقة العربية منطقة خاضعة للكثير من الطموحات الإقليمية والعالمية. بل أن وجود إسرائيل في قلب الأمة العربية كان بنفسه كاف للفت الأنظار إلى التحديات التي ينبغي أن يجمع العرب جميعا على وضع خطط مشتركة للخروج من التخلف.
لكن وبما أن طبيعة الايدولوجيا طبيعة نسقية ولا يمكن أن تمنح صاحبها رؤية قائمة على التجريد والمعرفة الموضوعية ؛ فقد كانت كل التيارات العربية في دعاياتها الفكرية وخطابها تظن أنها الوحيدة القادرة على الاستجابة لتحديات التخلف واستحقاقات النهضة، دون غيرها، بل أكثر من ذلك: كانت ترى أن مشروعها لابد أن يقوم على أنقاض التيارات الأخرى. وهكذا نظر اليساريون في الإسلاميين بحسبانهم تيارا رجعيا يريد أن يعود بالأمة إلى القرون الوسطى، فيما كان الإسلاميون يرون في اليساريين عملاء للغرب وأعداء للأمة وهكذا كان القوميون أيضا.
أما التحدي الذي كان أمام الجميع فلم ينظر إليه أحد.
فلم تكن لتلك الرؤى الآيدلوجية المغلقة للتيارات والأحزاب العربية القدرة على استشراف عمل مشترك بين الجميع تفرضه تحديات الواقع أو ما فيه من الجهل والتخلف وخلافه من عناصر الضعف التي أدت إلى بقاء الكيانات العربية كهوامش تابعة للاستقطاب الدولي في الحرب الباردة.
وهكذا ضاعت الكثير من إمكانات العمل المشترك بين مختلف القوى العربية من أجل تقديم رؤى مشتركة من واقع التحديات الموضوعية وليست الآيدلوجية. وكانت النتيجة هي الخراب الذي طال جميع جوانب الحياة في المنطقة العربية وما ارتبط به من كوارث وهزائم على يد تلك الأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية أخيرا، عندما استلمت زمام الأمور في الكثير من بلدان المنطقة.
ولا تزال التحديات المشتركة للعرب تفرض التقاء موضوعي بعيد عن الآيدلوجيا بين جميع التيارات العربية.
فما كشفت عنه نهاية الحرب الباردة، وثورة المعلومات والاتصالات هو أن التحديات العربية هي تحديات ذات طبيعة موضوعية لا يمكن أن يستجاب لها إلا بعمل مشترك بعيدا عن الآيدلوجيا ؛ عمل يحتاج إلى التأمل المعرفي العميق في شروط التخلف التي يعيش فيها العرب.
إن ما يجمع العرب إزاء تحدياتهم أكبر بكثير مما يفرق تياراتهم وأحزابهم فالتحديات هي ذات طبيعة بنيوية وتاريخية. أي أن انجازها يندرج في تحقيق الشروط الأساسية التي تؤمن الحد الأدنى لوجود دول ومجتمعات قادرة على الحياة وفق شروط العالم الحديث.
محمد جميل أحمد
كاتب سوداني
[email protected]
التعليقات