ماقاله الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل على قناة الجزيرة من ان مصر لم تمتلك يوما جاسوسا ذا قيمة في إسرائيل يثير أكثر من علامة استفهام.

فهذا الكلام يتعارض مع كل الروايات الرسمية المصرية التي اكدت قيام مصر بعمليات تجسس بارعة في إسرائيل. كما يمثل نوعا من الغمز واللمز بكفاءة أجهزة مصرية سيادية عليها ألا تكتفي بالصمت وأن تعرض ما لديها من حقائق. صحيح ان الأستاذ هيكل لم يقدم دليلا واحدا على صحة اتهاماته التي بدت وكأنها محاولة لالقاء مسئولية هزيمة 67 على عاتق الأجهزة الأمنية وليس الرئيس عبد الناصر. لكنه أثار غضب النواب في البرلمان المصري الذين طالبوا بالتحقيق في محاولته التشكيك في قدرات مصر الامنية. كما دفع الصحافة المصرية للهجوم العنيف عليه باعتبار ان كلامه يصب في مصلحة اسرائيل، وعلى الجانب الآخر قال اصدقاء هيكل في مصر إن اتهاماته في قناة الجزيرة تستند إلى قاعدة معلومات شديدة الدقة.

فعلاقته الحميمة بالرئيس عبد الناصر وإطلاعه في تلك الفترة على وثائق الدولة الرسمية يجعل شهادته غير قابلة للتشكيك. والسؤال المطروح: هل كانت اتهامات هيكل متعلقة فقط بفترة حكم عبد الناصر التي شهدت ثلاث هزائم عسكرية أم أنها اتهامات عامة ومطلقة؟! من الصعب الإجابة بدقة على هذا السؤال فاتهامات هيكل في الجزيرة جاءت في إطار حديثه عن هزيمة 5 يونيو 1967. وبالتالي فمن الممكن اعتبارها توصيفا لأحد أسباب الهزيمة التي وصفها هو شخصيا بquot;النكسةquot; قبل 42 عاما.

وهي اتهامات لا يمكن تجاهلها باعتبارها صادرة عن رجل كان من أقرب المقربين لعبد الناصر وكان مطلعا بالفعل على بواطن الأمور. لكن اتهامات هيكل جاءت في الوقت نفسه عامة ومطلقة فقد قال إن مصر لم تمتلك يوما جاسوسا ذا قيمة في إسرائيل وان كل من تم الاعلان عنهم لم يكن لهم شأن يذكر. والسؤال الآن هل بوسع اي كاتب او محلل سياسي او مؤرخ إصدار اتهامات متعلقة بأنشطة الأمن القومي في أي دولة دون الإطلاع على الوثائق الرسمية السرية؟!

وإذا جاءت هذه الاتهامات من رجل أصبح بعيدا أو مبعدا عن دائرة صنع القرار فهل يمكننا التعامل معها باعتبارها حقائق مسلمة أم مجرد آراء شخصية؟! المعروف أن الأستاذ هيكل أصبح بعيدا عن دائرة صنع القرار في مصر منذ خروجه من الأهرام في عام 1975. كما ان علاقته بنظامي السادات ومبارك اتسمت بخلافات حادة انعكست على تعليقاته وكتاباته وأحاديثه، وباعترافه هو شخصيا فإن تحليله لمرحلة ما بعد عبد الناصر اعتمد على قراءاته لما ينشر في الصحافة المصرية والعربية والعالمية والكتب الصادرة هنا وهناك إضافة إلى ما يسمعه من تعليقات من مسئولين مصريين وأجانب، بصراحة كنا نتوقع من الأستاذ هيكل اعترافا صريحا بمسئولية الرئيس عبد الناصر شخصيا عن هزيمة 5 يونيو 67.

وكنا ننتظر اعترافا شجاعا بمسئوليته حين كان رئيسا لتحرير الأهرام ووزيرا للإعلام عن خداع الإعلام المصري للرأي العام المصري والعربي خلال تلك الفترة. وإذا كان عبد الناصر هو المسئول الاول عن هزيمة 67 فمن المؤكد ان هيكل شريك اساسي في المسئولية. ولو امكننا قبول شهادة الأستاذ هيكل عن مرحلة عبد الناصر حين كان شريكا في المسئولية فمن الصعب قبولها بشأن مرحلتي السادات ومبارك لأنها ببساطة صادرة عن رجل بعيد منذ 34 عاما عن دائرة صنع القرار.