كتب السيد ولد أباه مقالة عن كتابي quot;الحكمة المصلوبة: مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفةquot;، وفي هذه المقالة يبشر السيد ولد أباه بولادة معرفة جديدة بابن تيمية، معرفة وحيدة وصحيحة ومتخصصة.
لكن القارئ المتفحص لمقالة ولد أباه يكتشف أنه لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب ولا عناء قراءة ودراسة ابن تيمية، فأصبح حاله كما حُكي عن النظام أنه سأل رجلاً: هل تعرف فلاناً اليهودي؟ قال الرجل: نعم؛ ذاك الذي يحلق وسط رأسه كالمجوس. فقال له النظام: لا يهودياً عرفت ولا مجوسياً وصفت.
أما عدم قراءته للكتاب فيدل عليها ما ذكره ولد أباه من أنني أتهم ابن تيمية بأنه لا يعرف الفلسفة ولا علم المعقول، وأن معلوماته الفلسفية ضحلة ومغلوطة ومأخوذة من مصادر ثانوية أو غير دقيقة.
وهذا الكلام فيه تجنٍ واضح، وليسمح لي القارئ الكريم بتوضيح مكمن الخلل عند ولد أباه: ففي كتابي قسمت موقف ابن تيمية من الفلسفة إلى موقفه من أربع طوائف بالإضافة إلى موقفه من المنطق، هذه الطوائف هي الفلاسفة القدماء -ما قبل أرسطو-، والفلاسفة المشاؤون -أرسطو وأتباعه-، وفلاسفة الصوفية، والباطنية.
وكل ما في الأمر أني نقدت مصادر ابن تيمية في دراسة الفلاسفة القدماء فقط وليس كل الفلاسفة كما يقول ولد أباه، وأوضحت أن كثيراً من معلوماته عنهم غير صحيحة مع ذكر أمثلة على ذلك (الحكمة ص 43-47)، ومع ذلك فقد تركت الباب موارباً لاحتمال آخر وهو أن ابن تيمية إنما أراد تمجيد هؤلاء الفلاسفة القدماء لغرض الحط من فلسفة أرسطو وأتباعه.
وكيف أقول إن معرفة ابن تيمية بالفلسفة كل الفلسفة ضحلة، وقد كتبت في كتابي (ص 34) بأن ابن تيمية عوّض: quot;تأخر قراءته للفلسفة وعدم أخذه لها عن طريق دراستها على علمائها؛ بالاطلاع على بعض تراث الإسلاميين في الفلسفة سواء كانوا مشائين أو إشراقيين أو صوفية، أو من أتباع المدارس الفلسفية المختلفة، بل نجده قد اطلع على تراث غير المسلمين.. وكذلك ما كتبه المتكلمون في الفلسفة ونقدها أو في شرح كتبها، وهذا الاطلاع الواسع عوض تأخر ابن تيمية في دراستها؛ إلا أنه سبب لمعلوماته بعض الارتباكquot;.
وأمر آخر يوضح أن ولد أباه لم يقرأ كتابي فهو لم يتعرض لنقد المقولات الأساسية للكتاب، وإن مرّ بها فهو مرور الكرام الذين يقدمون الرأي النهائي دون بذل أدنى جهد للتدليل على صحة كلامهم. فلماذا اهتم ابن تيمية بالفلسفة متأخراً؟ ومدى quot;أصالتهquot; في النتائج الفلسفية التي يصفها ولد أباه بالطريفة، وهل كان باحثاً موضوعياً أم تلفيقياً، وعن مدى تأثير الفلسفة عليه. كل هذه لم تلق اهتمام الأستاذ الذي اهتم أكثر ما اهتم بتقديم رؤيته الخاصة بابن تيمية والتي اكتشفها (كما يقول) من خلال كتابات أبي يعرب المرزوقي، بالإضافة إلى قراءته لعنوان أحد كتب ابن تيمية. فما مدى علمية هذه الرؤية؟
لا أجد في وصف هذه الرؤية أصدق مما وصف به الجاحظ شيخه النظام بأنه quot;كان يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره كان ظناً. فإذا أتقن ذلك وأيقن؛ جزم عليه وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه... وكان كلامه إذ خرج مخرج الشهادة القاطعة؛ لم يشك السامع أنه إنما حكى ذلك عن سماع قد امتحنه أو عن معاينة قد بهرتهquot;.
فمن هو ابن تيمية الذي يدعي ولد أباه اكتشافه؟ إنه ابن تيمية ذو الحقيقة المزدوجة. حقيقة العوام وهي حقيقة التخييل والوهم؛ فيقدم لهم خطاب التجسيم والتشبيه البدائي، بينما ابن تيمية في حقيقة الأمر لا يؤمن بهذا الخطاب، بل يؤمن بخطاب التجريد والعقل. ويقول ولد أباه إن هذه هي طريقة الفلاسفة الكبار.
لقد أغفل ولد أباه أن ابن تيمية انتقد هذه الطريقة في كثير من كتبه، وذكر أن من يتبعها تنتفي الثقة بما يخبر به وما يأمر به؛ وحينئذٍ ينتقض عليه جميع ما خاطب به الناس، فإنه ما من خطاب يخاطبهم به إلا ويحتمل أنه أراد منه خلاف ما أظهره لهم (رسالة في علم الباطن والظاهر).
كما انتقد ابن تيمية الفلاسفة الكبار السالكين لهذا المنهج وسماهم أهل الوهم والتخييل، وجعل منهم ابن سينا وأصحاب رسائل إخوان الصفا والفارابي والسهروردي وابن رشد وابن عربي وابن طفيل وابن سبعين (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول). ولما نقل عن بعض هؤلاء الفلاسفة أن هذه الطريقة اتبعها الأنبياء في خطابهم؛ ذكر ابن تيمية أن هذا من كلام الكذابين المفترين، بل الملاحدة المنافقين، وأنه من أكفر الأقوال وأعظم الجهل (رسالة في علم الباطن والظاهر). ثم يريدنا ولد أباه أن نقتنع بأن ابن تيمية يسلك هذه المسلك وينتهج هذا المنهج؟ لا لشيء إلا لأن ولد أباه أراد له أن يكون كذلك.
وفي سبيل محاولة عقلنة ابن تيمية التي يسعى إليها بعض الكتّاب ويحاول ولد أباه أخيراً اللحاق بهم؛ يتم تصوير هجوم ابن تيمية على الفلسفة وعلم الكلام؛ على أنه دفاع عن العقل ضد وضع قيود وأطر تقيد التفكير العقلي.
وهذا الكلام مع أنه يخطئ كثيراً في حق ابن تيمية؛ فإنه يكشف عن عداء منطلقه الجهل لعلم الكلام الإسلامي الأشعري والمعتزلي على حد سواء.
فقبل أن أوضح موقف ابن تيمية من quot;القيود التي تحكم الفكر والعقلquot;؛ أجد لزاماً علي الوقوف عند اتهام ولد أباه لعلم الكلام بأنه تحول إلى مذاهب مغلقة ومسلمات محنطة وأنه بغير حق يبني سلطة تأويلية تكون بذرة أرثوذكسية مفروضة على غرار المؤسسة الكنسية. فهذا كلام من لا يعرف عظمة التراث الكلامي الإسلامي في العصر الإسلامي الوسيط؛ فعلم الكلام لم يكن أسير مسلمات محنطة؛ بل كان المتكلمون يكتبون بديناميكية وشجاعة لا تقف عند حدود. فالانتماء لمذهب لم يكن يمنع متكلميه من تتبع نقاط الضعف فيه ونقدها واقتراح بدائل فكرية لها. وهل خرجت كتابات الرازي والآمدي والأرموي من رحم مسلمات محنطة؟ ألم يفتح الفخر الرازي علم الكلام على آفاق جديدة، وأتى الآمدي وأعاد النظر في حجج المتكلمين ونقدها بذكاء وعمق استفاد منه ابن تيمية في ردوده عليهم؟ ففي مسألة (حلول الحوادث في ذات الله) وهي المسألة الطريفة التي يزعم ولد أباه أن تيمية لم يسبق إليها؛ اعتمد ابن تيمية بشكل كامل على حجج الرازي والآمدي في نقد أدلة الأشاعرة والمعتزلة بمنع قيام الحوادث بالله.
ومع أهمية البحث العقلي عند المتكلمين؛ إلا أنهم لم يجعلوه السلطة الوحيدة التي تحكم الفكر والعقل. فقد فتحوا الباب أمام التفسيرات المختلفة للإسلام، وقالوا: quot;طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكمquot;، وهي المقولة التي نقدها ابن تيمية رافضاً الخروج عن طريقة السلف قيد أنملة. مقرراً أن سلطة quot;فهم السلفquot; هي الحاكمة على العقل وعلى الفهم (انظر الحموية على سبيل المثال). وعندما تمت محاكمة ابن تيمية كان المطلوب منه أن يعترف أن عقيدته هي فهمٌ للإسلام، ولكنه كان يرفض إلا أن تكون هي الإسلام كله.
وهذا يوضح لنا من الذي حول علم الكلام إلى مذاهب مغلقة ومسلمات محنطة وأنه بغير حق يبني سلطة تأويلية تكون بذرة أرثوذكسية مفروضة على غرار المؤسسة الكنيسة.
أما ما نسبه الأستاذ إلى ابن تيمية من مذاهب طريفة غير مسبوقة؛ فهي تعيد سؤال الأصالة عند ابن تيمية، فكثير من هذه المذاهب إنما هي إعادة انتاج لمذاهب ابن عربي، وابن سينا (كما أوضح ذلك يحيى ميتشوت وجون هوفر)، وابن ملكا، والآمدي وغيرهم. لكن لماذا تبنى ابن تيمية مقولات من يراهم كفاراً ومبتدعة؟ سأدع جواب هذا السؤال إلى مناسبة أخرى.
إن الإبداع الحقيقي لابن تيمية هو في نظريته السياسية، حيث أعاد تفسير النظرية السنية السياسية لتتوافق مع المتغيرات السياسية والاجتماعية في دولة quot;المماليكquot;، ولكن لهذا أيضاً حديث آخر.
وفي الختام، فلا أجد سبباً منطقياً دعا ولد أباه إلى كتابة هذا المقال المليء بالمغالطات؛ إلا سبباً واحداً، وهو مشكلة كثير من الكتاب والمفكرين اليوم، وهو الاستهانة بتراث الأمة الكلامي، والاستهانة بالقراء أن يقدم لهم ظنونه على أنها علوم محققة، ولسان حاله يقول:
فلا تحقق ولا تدقق وانسبْ شآماً إلى عراقِ
فأيُّ شيءٍ كأيّ شيءٍ بلا اجتماعٍ ولا افتراقِ
سعود السرحان
[email protected]
التعليقات