على مستوى الخطاب يبدو خطاب أوباما كما لو كان طرحاً جديداً، أشاع أجواء من التفاعل بين أولئك الذين ضاقت صدورهم بخطاب سلفه بوش الذي كان عدائياً وتوتراً ومحرضاً مستفزاً على الممانعة والمقاومة العنيفة.

إلا أن الخطاب وقع على أذن المتشائمين الذين دفعتهم الممارسات السياسية للإدارات الأمريكية السابقة، كما دفعت أصحاب السقف الأعلى من المطالب العربية والإسلامية إلى التحذير من نعومة الخطاب الأوبامي، وإشاراته الإسلامية الإيجابية، ورأى بعض هؤلاء المتشائمون أن مابين السطور الناعمة، وأن مابين الإشارات الإيجابية الكثير من السم والزيف والوعود الكاذبة.

وبعيداً عن التشاؤم والتفاؤل، فات هؤلاء وأولئك عدة حقائق يجب أن توضع في حساباتهم لتقييم أول خطاب لرئيس أمريكي يكرس لمخاطبة العالم العربي والإسلامي في منصة في المنطقة خصصت لهذا الخطاب وبغياب رئيس الدولة المضيفة، في دلالة لاتخطئها العين، بأن هذا خطاب أمريكي غير مقيد بالبروتوكولات الرسمية في البلد المضيف، وكأنه منبر أمريكي في أرض عربية، وأولى هذه الحقائق: أن خطاباً بهذه المثابة إنما هو عرض عام لبرنامج عمل للسياسة الأمريكية وعرض للمبادئ التي وضعتها هذه الإدارة لسياساتها الخارجية في هذه المنطقة، وهو ليس مجرد كلام للاستهلاك quot; اللحظي quot;، فهو ملزم أخلاقياً بما يجئ فيه.

ثانياً: إن السياسات في الإدارات الأمريكية إنما تستند على موجهات استراتيجية تأتي نتيجة دراسات معمقة تشارك فيها مراكز أبحاث متخصصة واستشارات متفحصة تملك المعلومات اللازمة والمعرفة بالتفاصيل، ولا تخضع هذه الإستراتيجيات للأهواء والأمزجة الخاصة بكل رئيس تأتي به الإنتخابات، لذا فإننا يجب أن نقرأ خطب الرؤساء مقترنة بالإستراتيجية العليا لسياسات الدولة، التي تتميز بالإستمرارية والثبات.

فليس هناك quot;انقلابquot; في السياسات، وإنما هناك quot;اختلاف على مستوى التكتيك الذي تختاره كل إدارة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية، وعلى سقف توقعات كل طرف له علاقة بالولايات المتحدة أن يبني توقعاته وسياساته على هذا الأساس.

ففي صراع الشرق الأوسط كمثال، فإن ضمان أمن إسرائيل وضمان تفوقها المطلق على كافة دول المنطقة هو من ثوابت الإستراتيجية الأمريكية في هذه المنطقة، فإذا كان خطاب بوش العدواني يقسم دول المنطقة وقواها السياسية إلى أشرار وأخيار معتمداً الصراع الديني معياراً في هذه التقسيم، ليجعلها حرباً على الإسلام، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، فإن إدارة أوباما اتخذت تكتيكاً مغايراً.
ولكن يظل الهدف الإستراتيجي ثابتاً، ليس لأسباب دينياً كما توهم البعض، تحت تأثير منطلقات الخطاب البوشي الديني المتشنج، ولكن لأسباب سياسية بحتة، فالدين في حالة بوش كان quot; وسيلة quot; لاغير، لتحقيق هدف إدارته الإستراتيجي حتى ولو كان بوش لا يختلف كثيراً عن أوسامة بن لادن في تطرفه الديني الأعمى والمتصلب.
بوضع هذين المفتاحين ينبغي أن نقرأ خطاب أوباما في قاعة جامعة القاهرة.

فإذا فعلنا ذلك بدقة وذكاء، سنجد أنفسنا وقد ابتعدنا عن الخط الفاصل بين التشاؤم والتفاؤل لننهمك بعد ذلك في وضع استراتيجية عربية، أو إسلامية أوسع، تجيد التعامل مع هذا المتغير التكتيكي في إدارة أوباما بما يحقق مصالح أمتنا ويضمن حقوقها الشرعية في الأمن والسلام.
وهذا حديث يحتاج إلى تفصيل وتفصيل.

د.صالح بن سبعان

أكاديمي وكاتب سعودي
[email protected]