اللغة المتحوّل الأبرز في صراع الحضارات:تاريخ العراق اللغوي نموذجاً

شهد تاريخ البشرية الطويل، ولا يزال يشهد، صراعات عديدة بين الحضارات المختلفة التي رأت النور على وجه هذا الكوكب الصغير ونمت وقويت شوكتها فانبرت تتصارع فيما بينها ليغلب القوي منها الضعيف، فيفرض منطقه ومبادئه ومنظومته الأخلاقية والأهم من هذا وذاك يفرض لغته على الطرف الآخر.

ويمكن تلمس هذه القضية بشكل واضح من خلال قراءة تاريخ أي أمة من الأمم. وهنا سأسلط الضوء على تاريخ العراق كنموذج تتجلى فيه هذه الحقيقة بأوضح صورها. فقد شهدت أرض الرافدين أو ميسوبوتاميا (أرض مابين النهرين) قيام العديد من الحضارات منذ فجر التاريخ. بل يؤكد الدارسون أن أولى الحضارات البشرية انبثقت على صعيد هذا البلد وفي أهواره الجنوبية حيث اخترعت الكتابة للمرة الأولى. فمن الحضارة السومرية مروراً بالأكدية فالبابلية فالآشورية وانتهاءً بالحضارة العربية الإسلامية توالت اللغات الواحدة تلو الأخرى ناسخاً اللاحق منها السابق كسنّة ثابتة من سنن التاريخ البشري، وكأبرز مؤشر على أن المكون الحضاري أياً كان جنسه هو عبارة عن لغة قبل أن يكون أي شيء آخر.

فقد تكلم سكان أرض ما بين النهرين عدة لغات وهي تمثل لغات الحضارات التي نمت وتطورت وازدهرت هناك أو لهجات متفرعة منها، وكانت كالآتي:

تكلّم العراقيون اللغة السومرية، وهي أول لغة مكتوبة في التاريخ، لغة السومريين الأوائل منذ أن مارسوا الزراعة واسسوا المستوطنات وسوَّروا المدن في اريدو وكيش ولارسا وأور.

ويرى الباحثون أن اللغة السومرية نسيج وحدها، تختلف عن لغات الأقوام الذين جاوروا أرض ما بين النهرين، ولم يهتدوا إلى قواسم مشتركة بينها وبين اللغات السامية الأمر الذي دعاهم إلى إفرادها بالدراسة وتصنيفها كلغة مستقلة قائمة بذاتها.

إعتمدت اللغة السومرية الكتابة المسمارية وهي أول أنواع الكتابة التي عرفتها البشرية، حيث يتم نقشها بواسطة القصب على ألواح من الطين والشمع على شكل رموز ذات أشكال تشبه المسامير. ويقول الباحثون أنها سبقت ظهور الأبجدية وبقيت سائدة حتى القرن الأول لميلاد السيد المسيح.

وقد دوَّن السومريون بها سجلاتهم الإدارية وتواريخ ملوكهم ومعاملاتهم التجارية وآدابهم وشؤونهم الأخرى، وبقيت رموز هذه الكتابة غامضة ومستغلقة على الباحثين إلى أن تم فك تلك الرموز في القرن التاسع عشرالميلادي.

وما أن بان الضعف في أركان حضارة سومر حتى زحف عليهم بدو رحل من الجزيرة العربية يقال لهم الأكديون، وهم اقوام سامية جاءت إلى أرض ما بين النهرين من شبه الجزيرة العربية على شكل موجات من بدو رحل حوالي 3500 ق.م، وعاشوا جنباً إلى جنب مع السومريين ولكنهم ما لبثوا أن اكتسحوا السومريين وسيطروا على أرضهم بقيادة زعيمهم سرجون الأكدي (2335 ق.م ndash; 2279 ق.م) الذي نجح في توحيد مدن أرض ما بين النهرين في مملكة واحدة واتخاذ مدينة أكد عاصمة له.

ويرى المؤرخون أن أرض ما بين النهرين شهدت في عصرالأكديين ازدهاراً كبيراً على الصعد الثقافية والإقتصادية والعمرانية. وبتمكًن الأكديين وعلو نجمهم حلت اللغة الأكدية محل اللغة السومرية، واللغة الأكدية لغة يصنفها الباحثون على أنها من اللغات السامية. ووجد الأكديون أن الكتابة المسمارية التي اخترعها السومريون من قبلهم ملائمة لكتابة لغتهم فتبنوها.

وانقسم هؤلاء الأكديون إلى قسمين قسم استقر في بابل واقام الحضارة البابلية، بينما استقر القسم الثاني في الشمال ليقيم الحضارة الآشورية.

تحدث البابليون اللغة البابلية، ويرى الباحثون أنها لهجة من اللغة الأكدية، ونشأت اللغة البابلية في ربوع حضارة بابل العظيمة التي اشتهرت بفنونها وآدابها وعلومها والتي بلغت أوجها في عصر ملكها حمورابي، وهو الملك الذي سن أول القوانين التي تنظم حياة الناس في تاريخ البشرية. وبهذه اللغة دون البابليون معارفهم مستعينين بالكتابة المسمارية التي تم تبنيها ليس من قبلهم فحسب بل من قبل لغات أخرى مجاورة مثل اللغة الفارسية.

وتحدث الآشوريون في الشمال اللغة الآشورية، وهي الأخرى يعدها الباحثون لهجة من اللغة الأكدية. وقد استمر وجود الإمبراطورية الآشورية مايقارب الألف عام. حلت في غضونها اللغة الآرامية محل اللغة الأكدية بفرعيها البابلية والآشورية. واللغة الآرامية من اللغات السامية التي ظهرت في سورية في منتصف الألف الثاني قبل ميلاد السيد المسيح، ويرى الباحثون أن سهولة أبجدية هذه اللغة جعل الإمبراطورية الآشورية تتبناها كلغة رسمية. كما وتبنتها الدولة البابلية كلغة رسمية أيضاً. بل وتبنتها دول أخرى آنذاك فأصبحت اللغة الرسمية في بلاد فارس، وانتشرت شرقا وغربا لتصل الى الجزيرة العربية وأرض الصين.

واللغة الآرامية هي لغة الطقوس الدينية المسيحية المستعملة في الكنائس، وهي ما زالت تستعمل لحد الآن في العراق وخاصة عند الكلدانيين والصابئة.

كما وانتشرت في بلاد الرافدين اللغة السريانية (وتسمى أحياناً الكلدانية)، ويرى الباحثون أنها لهجة من اللغة الآرامية، وأن الأبجدية السريانية - حسب رأيهم - هي أصل الكتابة العربية قبل أن يضاف إلى حروفها التنقيط. ويقول العلماء أن اللغة السريانية هي التي تحدث بها السيد المسيح. وكانت لغة المسيحيين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ويتحدث بها لحد الآن أناس في سوريا والعراق وإيران وتركيا وأرمينيا. وقد صارت اللغة السريانية لغة رسمية في العراق وسوريا وجزيرة العرب، ويذكر أن المسلمين كانوا يتعلمونها لفوائدها الكثيرة. ومنها نقلت العلوم المختلفة إلى اللغة العربية إبان عصر الترجمة الذهبي أيام المأمون الخليفة العباسي.

يقول جرجي زيدان في كتابه الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية (ص 27ـ32):

quot;الآرامية وفرعاها السريانية والكلدانية. فالآرامية هي لغة بابل القديمة الباقية آثارها مكتوبة نقشاً على بقايا بابل وآشور بالأحرف الأسفينية والأنبارية. والكلدانيــة هي هذه بعد ان لعبت بها ايدي الزمن فغيرت بعض ألفاظها. وقد كتب بها بعض أسفار العهد القديم كسفر دانيال وغيره، وقد دعيت هناك بالآرامية تساهلاً ـ على ما أرى ـ لأن بينها وبين الآرامية الأصلية فرقاً واضحاً لفظاً ومعنى. ولغة آشور أبعد عن هذه من لغة بابل. أما ما يدعى بين السريانيين في هذه الأيام باللغة الكلدانية ليس إلا السريانية نفسها مع بعض التغيير في الحركات. والسريانية هي الكلدانية المشار اليها مع تغيير بعض الفاظها ودلالاتها تبعاً لما اقتضته الأحوال، فكأن اللغة البابلية القديمة دعيت في أول أمرها آرامية ثم تغيرت قليلاً فدعيت كلدانية ثم وقع عليها تغيير آخر فدعيت سريانية وحصل في هذه بعض التنوع في حركاتها، فحسبت لغتين : سريانية غربية وسريانية شرقيةquot;.

كما وانتشرت في بلاد الرافدين اللغة المندائية، وهي إحدى اللغات الآرامية، واللغة الدينية للديانة المندائية حيت كُتبت فيها الكتب الدينية للصابئة المندائيين. ولازالت هذه اللغة متداولة حتى الآن في جنوب العراق ومناطق الأحواز في إيران.

وما أن وصل الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي إلى بلاد الرافدين حتى تقلص نفوذ اللغة الآرامية ولهجاتها تدريجيا وتراجعت أمام سطوة اللغة العربية. واللغة العربية من اللغات السامية التي كانت متداولة حصراً في شبه الجزيرة العربية إلى أن جاء الإسلام فانتشرت مع فتوحات المسلمين شرقاً وغرباً لتكتسح جميع اللغات التي كانت سائدة في البلدان الإسلامية قبل فتحها.

وواضح مما سبق أن اللغة ما هي إلا كائن حي شأنها شأن أي كائن حي آخر. تولد وتعيش طفولتها وصباها وشبابها وكهولتها وشيخوختها وتموت. وموت اللغات أعظم بكثير من موت الكائنات الحية لأن موت لغة ما يعني انقراض حضارة ما، فهوية أي حضارة هي لغتها، وما تفوقت حضارة على أخرى إلا وفرضت عليها - قبل أي شيء آخر- لغتها. وهنا أصل إلى طرح سؤالي المرير: هل ستصمد لغتنا العربية أمام التحديات الجمة التي تواجهها جراء اجتياح الحضارة الغربية الحديثة المدججة بالفتوحات العلمية الهائلة؟

الدكتور علي يونس الدهش
الجامعة الوطنية الأسترالية
كانبيرا ndash; أستراليا