إذا أردنا إجراء دراسة شاملة للمخلوقات التي كانت تعيش قبل الإنسان نجد أنها تتشابه معه من حيث التركيب الذي لم يطرأ عليه التنظيم المصحوب بالإرادة، وقد تحمل هذه المخلوقات بعض النسب التي تكون خاضعة للفطرة التي تشترك فيها مع الإنسان، إلا أنها غير قابلة للتحول أو التغيير الذي أحدثه الإنسان وتميز به على سائر المخلوقات.


وأنت خبير بأن العقل النسبي لايمكن أن يجعل تلك الكائنات قادرة على اختزال التجربة وإن كان بعضها قابل للإمتياز الذي يرقى بها إلى درجات تفوق ما ينسب للإنسان إذا ما جرد من المهمة التي خلق من أجلها، ولذلك قال تعالى حاكياً عن الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) البقرة 30. وهذا الاستنتاج الذي ظهر على لسان الملائكة لابد أن يكون معلوماً لهم بتفاصيل أكثر يمكن التوصل إليها من خلال الإشارات الضمنية والقرائن العقلية التي تضمنتها الآيات التي تحدثت عن مرحلة خلق الإنسان الأول.


وهذا ظاهر في الدورات التي أشار لها تعالى في متفرقات القرآن الكريم والتي لم يأت فيها على أي ذكر للإنسان ومثالاً على ذلك قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) الإنسان 1. ولذلك فإن القصة التي حملت العقل مسؤولية العقوبة لا يمكن تصديقها من حيث الورود الفعلي لها وإن كانت تعليمية بحد ذاتها، ومع هذا ممكن حملها على رسم الواقع المعاش الذي يكون تحت سيادة العقل المتفرع على وصول الإنسان إلى ما هو عليه مروراً بالزخرف الموعود الذي يصل به إلى يوم الوقت المعلوم الذي يسبق نهايته.


وهذه الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم لابد أن تكون حجة على الإنسان الذي حصل على نتائج وثمرة استعماله للعقل دون معرفة طريق الحق الذي أراده الله تعالى إلا ما رحم، ومن هنا جاء قوله: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام 149. وعند تأمل آيات الكتاب المجيد نجد أن هذه الحجة قد شفعت بشهادات ودلائل ابتداءً من وضع الكتاب وانتهاءً بشهادة الجوارح، كما قال جل شأنه: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً) الكهف 49. وقوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) النور 24. وهناك آيات كثيرة أخرى قد تحدثت عن هذا النوع من الشهادة التي تكون حجة لله على الإنسان من خلال ما اكتسب في مسيرته الحاضرة.


وبالإضافة إلى وضع الكتاب وشهادة الجوارح لابد أن نتعرف على شهادة هذه الأمة التي ذكرها تعالى في قوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) البقرة 143. فإن قيل: كيف يمكن لهذه الأمة أن تشهد على سائر الأمم وفيها الطغاة وأصحاب الكبائر فضلاً عن الآخرين الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه؟ أقول: هذا عام يراد به الخصوص، وقد يعلم بالضرورة أن المنزلة التي وصف بها تعالى الأشهاد لابد أن تكون للمصطفين الأخيار من هذه الأمة، وهؤلاء هم الذين يحق لهم الشهادة على أعمال من هم أقل درجة منهم وصولاً إلى أدنى الدرجات التي يمكن النظر إليها من الجهة المقابلة، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم) الأعراف 46. وبطبيعة الحال فإن هذا الخاص الذي أخرجته القرائن العقلية من العموم لابد أن يكون لأصحاب المنزلة الرفيعة من الأمة، والآية نظير قوله تعالى في بني إسرائيل: (وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) المائدة 20. وأنت خبير بأن الملك لم يتحقق لهم جميعاً وإنما حصل في بعضهم.


من هنا يظهر أن الأشهاد هم النخبة التي اصطفاها الله تعالى وجعل الرسول (ص) شهيداً عليهم، وقد شفعت شهادة هذه النخبة مع شهادة الأنبياء على أقوامهم، وقد جعل تعالى شهادة الرسول (ص) بمثابة المرحلة الأخيرة التي ستكون خلاصة تلك المراحل، كما ورد ذلك في قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) النساء 41. وفي الآية مباحث:


المبحث الأول: [كيف].. تستعمل لكل أمر جلل وقد تفيد التعجب، كما في قوله: (انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً) النساء 50. وكذا قوله: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم......الآية) البقرة 28. من هنا نعلم أن الآية المبحوث عنها تثير مسألة غاية في التعجب المصحوب بالتوبيخ، أي كيف سيكون حالكم عند مجيئنا بالشهداء الذين سيشهدون على أممهم، وهم الأنبياء ومن سار على خطاهم، حيث أن الشهيد لا يشترط به أن يكون من الأنبياء وإنما يشترط فيه أداء رسالة التبليغ المتضمنة للإنذار، كما في قوله تعالى: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) فاطر 24. وممكن أن نستدل على ذلك أكثر من قوله تعالى حكاية عن الجن: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولو إلى قومهم منذرين***قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) الأحقاق 29-30. فإن قيل: كيف قالوا من بعد موسى؟ أقول: قال الحسن البصري: إنهم كانوا على اليهودية، وقال ابن عباس: إن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى، وقال الطباطبائي في الميزان: في الكلام إشعار بل دلالة على كونهم مؤمنين بموسى (عليه السلام) وكتابه، والمراد بتصديق القرآن لما بين يديه تصديقه التوراة أو جميع الكتب السماوية السابقة.


المبحث الثاني: قال في المجمع: لما ذكر اليوم الآخر وصف حال المنكرين له فقال: [فكيف] أي فكيف حال الأمم وكيف يصنعون [إذا جئنا من كل أمة] من الأمم [بشهيد] وجئنا بك يا محمد [على هؤلاء] يعني قومه [شهيداً] ثم يضيف الطبرسي: ومعنى الآية أن الله يشهد يوم القيامة كل نبي على أمته فيشهد لهم وعليهم، وفي الآية مبالغة على الحث على الطاعة، واجتناب المعصية، والزجر عن كل ما يُستحى منه على رؤوس الأشهاد، لأنه يشهد للإنسان وعليه يوم القيامة شهود عدول لا يتوقف في الحكم بشهادتهم، ولا يتوقع القدح فيهم، وهم الأنبياء والمعصومون، والكرام الكاتبون، والجوارح والزمان. انتهى. والبحث مطول من أراده فليراجع مجمع البيان للطبرسي.


فإن قيل: كيف نفرق بين الشهادة بمعنى [القتل في سبيل الله] وبين ما تطرقت إليه في المقال؟ أقول: الشهادة بمعنى [القتل في سبيل الله] لم ترد في القرآن الكريم لأن مصطلح الشهادة بهذا المعنى يعتبر من المصطلحات الحديثة التي دخلت على لغة العرب، ولم تكن معروفة عندهم قبل التنزيل، لذلك لم ترد في القرآن الكريم، ومن هنا استعمل القرآن مصطلح [القتل] حتى مع النبي (ص) كما ورد ذلك في قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران 144.


عبدالله بدر إسكندر المالكي


[email protected]