عبدالله كرمون من باريس: ليس الفيلم مخصصا بالتأكيد للأطفال، وإن كانت المؤشرات لا تفند عكس ذلك، مثلما ليس يشي عن رعب حقيق به أن يثير مخاوف البعض. إنه فقط وبدون كنايات أخرى: quot;الليل في المتحفquot; لمخرجه الأمريكي شاون ليفي، هذه المرة في قاعات السينما الباريسية. الليل والمتحف في عتمة الشاشة الكبرى. فبغض النظر عن الطابع العجائبي الذي اتخذه الفيلم فإنه يتناول بسطحية مأزقا نفسيا يسد مجرى حياة السيد لاري بطل الفيلم.
إذا استثنينا بعض العبارات أو بعض الأفكار التي تم تمريرها عبر كل كرنفال وحوش ومعروضات المتحف، فإنها ليست في مجموعها وبشكل عرضها سوى التفاعل الحي للنكسة التي اعترضت حياة لاري. وكان الفيلم في أساسه رغبة في تجسيد قدرته على التكيف مع الوضع الذي أُرغم عليه بلاءً، مع تجريده من حظه في السعادة وحرمانه من ألق النجاح الاجتماعي. لذلك كانت فكرة الفيلم كلاسيكية هي أقرب إلى البعد الأخلاقي منها إلى جمالية تحرر ممكن بنفس الإمكانيات من كل سلط القيم المطروقة والمبتذلة.

بين ستيلا نجم الفلم
يخرج لاري كما رأينا من خسارة طلاق لم ندرك بالفعل ماذا كان سببه الواقعي، غير أنا ندرك أنه خرج من تلك العلاقة بولد يعيش لدى أمه ويكفله لأيام في الأسبوع.صحيح أن لاري ليس يتمكن أن يحتفظ بعمل أطول وقت ممكن، إذ يُطرد ويفقد شغله كل مرة لسبب أو لآخر. سواء كان هذا الأمر هو سبب الطلاق أو هو أثر نتيجته عليه، فإن لاري رازح منذ البدء تحت طائلة أمرين. الأول: ثقل فشله الشخصي عليه. ثانيهما: ضغط الآخر عليه، المتمثل هنا خاصة في ابنه بإيعاز من أمه.في الفيلم يبدو لاري شخصا ضائعا، محروما من دفء حياة اجتماعية وعائلية سويتين. بل أكثر من ذلك فهو محروم من سكن قار أو هو دوما على أهبة الرحيل، جراء تلك الأسباب كلها مجتمعة.

لم نر قط لاري في الفيلم يأكل أو يشرب أو يضاجع أو غيرها، لكن ذلك مثله فيه مثل عناصر الفيلم الأخرى. باستثناء ابتلاعه كأس ماء معدني تقدمه له زوجته السابقة في زيارة خاطفة لابنه. همه إذن قبل كل شيء هو تحرير ذاته من الهواجس التي تثبط عزيمةَ الخلاص لديه.
ليس الأمر لديه هو مجرد نزول عند رغبة ابنه الصغير كي يقبل عمل حارس ليلي في متحف التاريخ الطبيعي بل هو بحق إنصات إلى رغبته الدفينة في أن يوجد؛ في أن يتحكم في المشروع الذي يشكله، مشروع حياته حسب الرؤية الوجودية. وما دام هو حر في التصرف فيه بنفسه فإن لاري أراد اقتحام باب المجهول من أجل أن يصير محترما ولو قليلا من طرف quot;أعدائهquot; بالخصوص! وكأنه يتحمل بالتالي ما ليس باليسير تحمله كي يصير ذاته نفسها. ويقبل العمل كحارس ليلي في المتحف كمؤسسة ثقافية ليس يشغل فيها سوى حيزا هامشيا.

إن المرور بمتحف التاريخ الطبيعي، حيث تتواجد كائنات العصور القديمة مشمعة مثلها مثل رموز العالم الحاضر هي نفسها كذلك تمرين خاص يلزم أن يجتازه لاري لكي يحقق ذاته. أليس عليه أن يدرك التاريخ كي يفهم؟ أليس عليه أن يفهم بأن الأمس نفسه هو الذي دفع به إلى طمي الحاضر؟
quot;إن التاريخ حيquot; كما جاء في الفيلم. أليس صحيحا؟
أمر آخر، ليست أبدا حديثة فكرة الهذيان مثلما أن فعل الهذيان قد عرفه الإنسان منذ أبد. لكن أن تتحرك كائنات المتحف طول الليل وتحيا، حتى الصباح، مثل ديمومة حكايات شهرزاد، ومثل كل الأشياء الغرائبية التي تتخذ لها الليل إطارا زمنيا موائما لغرابتها. جميل جدا ذلك حقا لو صدر الأمر ثمة عن أبعاد فلسفية عميقة. في غاية التعمق الفكري في مصائر الأشياء. إذ أن تمثال روزفيلت وبعض تصريحات انتعاشه الليلي، وإن كان يشدد أنه ليس سوى تمثالا مصنوعا، ومخاطبته لاري على أنه وهو من لحم ودم من عليه أن يخضع لضوابط الحياة وبأنه المعني أكثر بالحاضر خلافا لكل كائنات المتحف المنتمية حتى في واقعيتها إلى الماضي!

النجم روبن وليامز
جراء متاعبه ومأزقه النفسي غير السهل، إضافة إلى سواد الليل والوحدة والعزلة في تلك الحالة القصوى فإن لاري يرى ما لا نرى متى كنا أسوياء!
من جهة يلزم أن يوفق لاري في عمله ويقدر أن يمارس مهنته في أمان بعيدا عن كل انتقادات رئيسه في العمل الذي لا يعدم مناسبة لتعنيفه.
إن كانت ربيكا دليلة السياح في المتحف تعشق التاريخ وتوضح لزبنائها كل يوم أشياء وفترات تاريخية مهمة فإن لاري حدث أن انضم يوما إلى جماعة سُيّاحها كي يستفيد أكثر لأن ذلك، أي معرفة التاريخ هو ما قد يجعل كوابيسه الليلة قد تكف آذاها.

ربيكا هذه التي تعد أطروحة حول ساكادجاوايان هذه البطلة التاريخية المعروض تجسيمها المشمع في المتحف. وإن هي لمّحت للاري بأنها ترغب في مغامرة أخرى أبعد عن حواجز التاريخ، أما هو فليس البتة مهووسا سوى بمأساته الشخصية.معروضات المتحف تضجر من طول تسمرها في المكان، إذ ترغب في الحرية. لكن ماذا يمكن أن يعني أن نحرر معروضات متحف؟ثمة في ذلك المتحف قطعا من مصر وأخرى من أماكن أخرى. هل تحريرها إذن مجاز ما؟جاء على لسان مومياء أو مشمعة روزفيلت، الذي أسس بنفسه ذلك المتحف، كدرس مرموق للاري أن بعض الناس يولدون كبارا وآخرين يسعون إلى ذلك.في آخر المطاف حقق لاري ذلك إذ سعى إلى تمفصلات معضلته النفسية التي أحبطته طويلا.

فبسبب جهده أن يتجاوز مخاوفه والضعف الذي ألم لزمن بشخصه. استطاع بعد أن تعرف على أَتِيلاَ هذا البطل الرومامي الشرس الذي يبتر أعضاء أعدائه ويفصلها عن أجسادها والذين يقعون في يده، أن يتعرف على بعض القوى الكامنة في ذاته، استطاع أن يتحكم فيما بعد في الأسباب التي تستدعي سقوطه في ليل مخاوفه. من ثمة إذن بدأت قوته واستطاع فيما بعد أن يستعيد الثقة في نفسه وأن ينتبه إليه ابنه وأن يرغب في الوقوف جنبه فيما بعد.
لم يستطع الفيلم إذن أن يمضي أكثر في درس الغرابة بل بقيمة هي عتبة أشياء خيالية معروفة منذ أبد. الأمر الذي جعل من الفيلم مجرد محاولة يائسة بل غير موفقة اقترابا من موضوع كان من الممكن أن يصير جميلا ومعبرا وعميقا في تناول أهم. لذلك لسنا نوفق أن نزور المتحف في الليل بدون أسى. فيلم فشل في تناول موضوع قد يفلح أحد فيما بعد في تناوله بعد ذلك. المتاحف إذن بل الليل إلى آخره!


[email protected]