دلور ميقري من السويد: على أبواب الحلقة التاسعة من عمره، رحل هذا اليوم المخرج السويدي العالمي، إنغمار بيرغمان. إنه واحد من آخر عمالقة القرن العشرين، الذين أسهموا بقوة في ترسيخ المفاهيم الجديدة للسينما والمسرح. وإذا كانت هوليوود قد أحتفت بالعديد من مواطني مخرجنا الراحل، المبدعين ـ كغريتا غاربو وإنغريد بيرغمان وأنيتا إيكبيرغ وماكس فون سيدو، إلا أنّها تفردت بمنحفيلمه quot; فاني والكسندر quot; اربع اوسكارات عام 1984( لأفضل ديكور، افضل تصوير، افضل ملابس وأفضل فيلم أجنبي)والفيلم يتناول جانباً من طفولة إنغمار بيرغمان؛ هو المولود في مدينة اوبسالا عام 1918.
في مسقط رأسه، ذاك، المعدّ أصلاً كمدينة طلابية، أكمل مبدعنا دراسته الإبتدائية والمتوسطة، ثم إنتقل لاحقا لدراسة المسرح في ستوكهولم ـ التي أضحت بالنسبة إليه مدينته الثانية. وقد عمل فيما بعد على الخشبة لعدة أعوام، فصار مديراً لمسرح مدينة quot; هلسينبورغ quot;، الجنوبية، وهو بعد في منتصف العشرينات من عمره. ثم عاد إلى عاصمته، الحبيبة، ليصبح مديراً لـ quot; الدراما quot; ؛ كبرى مسارحها وأهمها. إلا أنّ السينما بأنوارها المبهرة، الجذابة، سرعان ما جذبته إليها، ليستهل العمل كمخرج منذ أواسط الأربعينات من القرن المنصرم وحتى أواخر حياته، الحافلة.
طوال عقود ثلاثة، ممتدة بين الخمسينات وحتى أوائل الثمانينات، حققت أفلام إنغمار بيرغمان شهرة عالمية، وبرز فيها كمخرج مجدد، متعدد المواهب ؛ هوَ من دأب على كتابة معظم سيناريوهاتها، فضلاً عن عمله مع مجموعة مختارة، أثيرة، من النجوم الذين أسهم بإكنشافهم وتقديمهم لعالم الإبداع والشهرة ـ كايرلند جوزيفسون وهارييت اندرسون وماكس فون سيدو والنرويجية ليف اولمان. المستغرب أنّ نجمة السويد الأشهر، إنغريد بيرغمان، الساطعة في سماء هوليوود، لم تتعاون مع مخرجنا سوى في فيلم واحد حسب، في الخمسينات؟
سينما إنغمار بيرغمان، تراوحت مواضيعها بحسب مسيرة مبدعها. ففي الأربعينات والخمسينات كانت أجواء الحياة السويدية، المتوحدة الكئيبة، هي الغالبة على أفلام تلك الحقبة. ولكن إعتباراً من الستينات، وجدت مشكلات الإنسان ككل، الوجودية والمصيرية، مكاناً راسخاً في أفلامه ؛ كما في quot; صمت الإله quot;، quot; الصمت quot;، و quot; اليانور quot; المتسائلة عن الشك واليقين. ومع دخول الشاشة الصغيرة إلى الحياة المنزلية وصيرورتها كجزء غير منفصم منها، إلتفت مبدعنا إلى المسلسلات الدرامية وقدم مساهمات فيها مهمة ومميزة ؛ مثل quot; مشاهد من زيجة quot; و quot; فاني والكسندر quot;. هذا الأخير، كما سلف وألمعنا، سبق أن أنتج كفيلم روائي طويل في بداية الثمانينات، وكان من آخر أعماله.
إلتفت بيرغمان، مجدداً، إلى المسرح، وخصوصاً بعيد عودته من منفاه الإختياري، في باريس. إلا أن إهتمامه بالسينما طوال المرحلة الأخيرة من حياته، ما فتر مطلقا ؛ هوَ الذي رفد أفلام تلاميذه وأصدقائه بالسيناريوهات، علاوة على إرشاداته القيمة. وقد خلد مبدعنا للراحة مؤخراً في quot; فورو quot; ؛ إحدى بلدات الإقليم الغوتلاندي، الجنوبي، وفيها أغمض عينيه أبداً. وستبقى بدورها، أبداً خالدة، إسهامات هذا الرائد العظيم، في السينما العالمية . لقد كان من عظم تأثير إنغمار بيرغمان على الفن السابع، الغربيّ، أن صدرت عنه بالإنكليزية لوحدها ما يقارب الخمسة آلاف كتاب، تناولت مختلف إبداعاته. أما بالسويدية، فلم يحظ أبداعه سوى إبداعه سوى بعض الكتب هنا وهناك. فبقي مبدعنا ذلك النبيّ المطرود من موطنه، دهراً، حتى إذ إعترف العالم أجمع به، فقد تذكره مواطنوه وأكرموه وإحتفوا به أيما إحنفاء : لقد وقع إنغمار بيرغمان ضحية البيروقراطية في بلده، في بداية السبعينات، على خلفية قضية ضرائب، ونال حكماً متعسفاً بالسجن مع وقف التنفيذ وتسديد غرامة باهظة. كان من تأثر مبدعنا آنذاك بتلك القضية، أنه عقد مؤتمراً صحافياً في باريس، حيث كان يعيش، أعلن فيه تنازله عن جنسيته السويدية. إلا أنه عاد وإستعاد جنسية موطنه، في أواخر حياته، وشاء أن يحيا هنا قرب ذكرياته وطفولته، حتى دنو ساعة الرحيل.

[email protected]