بغداد: ستتغير الآن الموسيقى الى الابد. . قالها وأومأ بعصاه وكأنه يومئ بعصا سحرية لتنساب موسيقى رائعة أطربت ارواح معاصريه والاجيال التي تلته حتى يومنا هذا. انسابت النغمات ثم علت الاصوات وانخفضت في تناغم جميل. كان هذا مشهد من مشاهد فيلم quot;استنساخ بتهوفنquot; الفيلم من اخراج أغنيسكا هولند التي لها أعمال كثيرة جدا نذكر منها quot;الحديقة السريةquot;, quot;أوليفير،أوليفيرquot;,quot;الكسوف الكليّquot;, quot;ساحة واشنطنquot;, quot;ملائكة سَاقِطةquot;,quot;الأحلام الذهبيةquot;, quot;المعجزة الثالثةquot; فيما كتب السيناريو كل من quot;ستيفن جي ريفيلquot; وquot;كريستوفر ويلكنسونquot;.
البدء من النهاية
يبدأ الفيلم برباعية quot;غروس فيوغquot; التي راهن عليها بتهوفن quot;ايد هاريسquot; وكسر بها قواعد الموسيقى الكلاسيكية واصبحت ملهمة الاجيال الموسيقية القادمة يبدأ بالمقطوعة وآنّا quot;دايانا كروجرquot; تسمعها بنفس الطريقة التي يسمعها هو بها. تسمعها في عرق المزارعين المتصبب على جباههم والحقول الممتدة في وجوه الاطفال في تعابير وجوه الشيوخ في اصوات الرياح وحفيف الاشجار واصوات العربة المسرعة متناقضات كانت تطرب لها وتحولها الى موسيقى في داخلها، كأنها موسيقى الحياة التي املاها الله الى quot;بتهوفنquot; فهو يقول: quot;إن الموسيقى التي يؤلفها هي أصوات الرب الذي يملأ عقله بها اصوات تعذبه ولا يرتاح الا بتدوينها وكما يهمس في اذن بعضهم فانه يصرخ في اذن بتهوفن لذلك اصيب بالصممquot; وهذه البداية تعيدنا quot;زمنياquot; الى مشهد سبق المشاهد الاخيرة من الفيلم quot;فقد تلاعبت المخرجة بالزمن فقدمت النهاية الى بداية الفيلمquot; في هذا المشهد الذي يعرض فيه quot;بتهوفنquot; رباعيته quot;غروس فيوغquot; على مسمع من الجمهور وبعد مغادرة الجمهور للقاعة اعتراضاً على المقطوعة تخبره quot;آنّاquot; الشديدة الاعجاب به والتي تستنسخ اعماله بانها عجزت عن سماعها كما يسمعها هو ولذلك تدخل عليه في مشهد البداية وهو يحتضر لتخبره بفرح غامر انها سمعتها كما سمعها هو، ليتلفظ آخر كلمة له، quot;انه الصباحquot; ايذاناً بأشراق شمس جديدة على عالم الموسيقى. كان هذا المشهد الاول للفيلم والمخرجة قدمت هذا المشهد للتركيز على فكرة ان quot;بتهوفنquot; فتح بمقطوعته تلك الباب على مصراعيه للموسيقيين في العالم وكان هذا الفتح يستحق الاستهلال لتلك الانجازات الضخمة. ثم في المشهد الثاني تعود الى التسلسل الزمني الحقيقي ليركز الفيلم على اخر ثلاث سنوات من حياته بدءاً بعام 1824 عندما تأتي quot;آنّاquot; للقيام بعملية استنساخ اعمال quot;بتهوفنquot; بناءً على طلب شليمر quot;رالف ريتشquot; الذي كان يقوم بهذه المهمة لكن وبسبب تقدمه في السن واصابته بالسرطان وتعدد اخطائه في عملية النسخ يلجأ الى المدرسة الموسيقية لارسال شخص يقوم بهذه المهمة فيرسلون quot;آنّاquot; العاشقة للموسيقى التي تبهر بتهوفن بتغيير احد المفاتيح التي كتبها، تغيرها لانها وجدت انها الاصح ويعترف هو بانها على حق، لكنه لايحتمل ان تستنسخ له امرأة quot;تاريخياً ارسلت المدرسة شابين وعملا في نسخ اعماله لكن الكاتب هنا ادخل تحديًا آخر للضرورة الدرامية وهي ان يكون الناسخ امرأة لتطوير الصراع اكثرquot; فهو يعتبر ان عمل المرأة في الموسيقى quot;كمشي الكلب على قائمتيه الخلفيتين ممكنة لكنها مضحكةquot;! لذلك عندما تقدم له quot;آنّاquot; مقطوعة من تاليفها يستهزئ بها بشكل بذيء يصدمها الى درجة كبيرة، ويستمر الصراع بين بتهوفن ومرضه الذي ابتلي به وهو الصمم الذي يحرمه من سماع موسيقاه quot;وهذه مفارقة عجيبةquot; وبين quot;آنّاquot; وطموحها المستفز لتكون ملحنة كبيرة ينتهي باستسلامه والاعتراف بموهبتها الموسيقية الى درجة انه صار يطلب رأيها في اعماله لكنه مع ذلك الاعجاب ينبهها انها تقلده والعالم لايحتمل بتهوفن آخر وربما يحتاج اليها هي
من جهة اُخرى يُشعرنا الفيلم بالصدمة من طريقة حياة بتهوفن واسلوبه المُستفِز وتصرفاته الغريبة ووحشيته كما عبرت عنها quot;آنّاquot; ويبدو ان السنوات الاخيرة من عمره كان عصيبة عليه بسبب صممه والامراض التي تعتريه جعلته في مزاج سيئ على الدوام وكان على quot;آنّاquot; الطموحة ان تتحمل كل هذا للوصول الى حلمها.
هناك صراع آخر بينه وبين ابن اخيه كارل quot;جو اندسونquot; الذي يحاول اجباره على ان يكون موسيقياً رغم انه لا يحب ذلك و يعترف انه لايملك الموهبة .... وهنا تكمن المفارقة في ان بتهوفن لايعترف بموهبة quot;آنّاquot; لانها فتاة! بينما يضغط على ابن اخيه ليجعله موسيقاراً بلا موهبة، والصراع الآخر بينه وبين المهندس المعماري مارتن بوير quot;ماثيو غودquot; حبيب quot;آنّاquot; الذي يحاول ابعاد quot;آنّاquot; عن بتهوفن لانه يعترف بما يراه امامه بشكل مادي مهملاً الفنون الحسية التي تخاطب الارواح فالسمفونية الحقيقية عنده هي جسره الذي صممه بينما يرى quot;بتهوفنquot; ان تلك الاشياء تفتقر الى الجمال الحقيقي وانها صماء وقبيحة لذلك يهشم مجسمه للجسر ليقول له انه الان انقذ روحه (معللاً ذلك بأن المعماريين يبنون الجسور للربط بين الاماكن اما هو فيبنيها من اجل الربط بين ارواح البشر وان الله هو الذي يعطيه حق تهشيم الجسور الصمّاء ويخبره بأنه عندما يصاب بالعمىquot;كما اصيب هو بالصممquot; سيكون له حق مشابه لذلك الحق!).
السمفونية التاسعة
من اهم واروع المشاهد في الفيلم مشهد عزف السمفونية التاسعة ويبدو ان كاتبي السيناريو والمخرجة اعطيا اهمية قصوى في عمل هذا المشهد. فخلال مدة العزف التي استغرقت مايقارب 12 دقيقة كانا في تحدٍ كبير وجريء فاستمرار سمفونية لهذه المدة الطويلة في السينما يعتبر اكبر من تحد خصوصا ان الفيلم يتوقع مشاهدين من كل الفئآت حتى التي لاتفهم بالموسيقى وربما لاتستذوقها كما يستذوقها المتخصصون فكان هذا التحدي مُستفِزاً لطاقات كبيرة خرجت بشكل متقن من خلال الاستخدام الامثل للظل والضوء و التنويع باللقطات وحجومها المعبرة والتي تتوافق مع المعزوفة من حيث الصعود او النزول حسب ايقاعها مع الاكثار من اللقطات القريبة على وجهي quot;آنّاquot; وquot;بتهوفنquot; ووجوه الحاضرين وانطباعاتهم التي توحي لك بالاحساس فتتبناه بدون ان تشعر فتنقلك السمفونية والصور المعبرة لها من حالة الطمأنينة والراحة بانسيابية الايقاع الى حالة الغضب حد التشظي ومن حالة الحزن حد البكاء الى حالة الفرح والنشوة الغامرة ينقلك هكذا بانتقالات سريعة وبأنسيابية عجيبة فتشعر باكثر من شعور متناقض كل هذا في تلك الـ 12 دقيقة المذهلة .... واعتمد المشهد في البداية على مفارقة ان quot;بتهوفنquot; لايسمع موسيقاه ولايسمع العازفين وبهذا لايستطيع معرفة الى اين وصلوا وهذا سيسبب خروجهم عن الايقاع لذلك استعان بـ quot;آناquot; التي مثلت هنا اذنه التي يسمع بها لتقيس له الوقت وتحدد المداخل واعتقد انه هنا وصلت فكرة الاستنساخ التي يطرحها حد التطابق فتعبر هي عن مكنوناته ودواخله والاحاسيس التي تعتريه وكانت اكثر وضوحا في انه في أحد اللقطات لم يكن يحمل عصا المايسترو quot;مع انه لم يتركها واقعاً في كل المشهدquot; الا ان هناك لقطات ظهر بها يستخدم يديه quot;كما تفعلquot; في الايماء مع التركيز على تطابق حركة يديهما وهما تسبحان في الهواء quot;بلقطة قريبةquot; وحسب الايقاع هنا المخرجة دمجتهما معا في احساس واحد نادر الحدوث ويلاحظ من هذه اللقطة ان المخرجة جعلته يتقمص شخصية quot;آنّاquot; بان ترك العصا ولم تجعل quot;آنّاquot; تحمل العصا مع انهما بقيا في الواقع على وضعهما فهي بقيت تومئ بيديها وهو يسستخدم العصا .... وابدعت المخرجة في استخدام التصوير quot;خارج البعد البؤري او out focusquot; التي تظهر الصورة غير واضحة للتعبير عن النشوة العارمة التي كانت تعتريهما في بعض اللقطات وبلغت العبقرية ذروتها عندما استخدمت المخرجة لقطات قريبة واضافت لها اهتزازات عنيفة للصورة عندما صعد الايقاع وكأن هناك زلزالاً مرعباً حدث لتستقر في النهاية وقد كانت معبرة جدا بحيث يحس المتفرج بأن الارض تحته تهتز!. ولم تغفل من التذكير بتلك المفارقة quot;ضعف سمعة الشديدquot; رغم كل هذا الابداع وتوظيفها بشكل رائع عندما انتهى العزف ليظهر بتهوفن بلقطة قريبة وهو يلهث من التعب ولايُسمع سوى صوت لهاثه يحيطه صمت مطبق مع ان القاعة كانت تلتهب بالتصفيق ولم يدخل صوت الجمهور الا بعد ان سحبت quot;آنّاquot; يده لتدير جسمه الى مواجهة الجمهور ليدخل التصفيق بشكل صاخب.
مشهد مهم آخر كان المشهد قبل الاخير الذي يملي فيه بتهوفن على آنا ترنيمة لتعزف على جثمانه وفيه يفسر النغمات ونوع الآلات المستخدمة الى افعال وحركات واشكال تصاحبه الموسيقى المفسرة لتلك الكلمات التي يمليها لها ولتحس لدقائق كيف يفكر الملحن وكيف يكتب اللحن وماهي ادواته التي توحي للاخرين بالمحسوسات بالنغمات لا بالكلام ثم ينتهي المشهد بعد ان يعبر عن السلام الذي يعتري روحه عندما يرفع عن الارض وتداعبه يدان حنونتان.
ادى الممثل الكبير quot;ايد هاريسquot; دور quot;بتهوفنquot; بتفرد واضح وهو الذي قال عندما عرض عليه الدور وسُئل عن احساسه قال quot;اشعر بالرعبquot; شاطرته في روعة الاداء الالمانية quot;ديانا كروجرquot; التي شاهدناها في اكثر من فيلم منها quot;طروادةquot; و quot;الكنز القوميquot; بجزئيه.
هل يمكن استنساخ المبدعين؟ وعندما يتم ذلك هل سيكونون بنفس ذلك التفرد والعطاء والتجديد وهل ستنجح النسخة كما نجح؟ ام ان العالم لايحتمل نسختين من شخص واحد فامتيازه في تفرده و خلال 104 دقائق وهي مدة عرض الفيلم حاول طرح تلك التساؤلات والاجابة عليها، لكن من ناحية اخرى وكما حاول quot;بتهوفنquot; تغيير الموسقى الى الابد اعتقد ان الفيلم حاول تغيير شيء ما في السينما فهل استطاع ذلك؟ حاول أن تشاهد الفيلم وتحكم بنفسك.
[email protected]