لم ينبع اختيار المخرجة الإيرانية شاليزة عارفبور لقصة هذا الفيلم من فراغ. فهي مسكونة بهاجس البحث في العلاقة المعقدة بين المهاجرين الأفغان الذين إجبرتهم الظروف الصعبة على مغادرة بلادهم واللجوء الى المدن الايرانية التي أحسنت إستقبالهم لكن القوانين الحكومية الصارمة لم تضعهم على قدم المساواة مع السكان الأصليين وحرمتهم من مزاولة العمل، الأمر الذي سبّب لهم الكثير من الاشكالات. يرصد هذا الفيلم قصة زواج quot;حيرانquot; المهاجر الأفغاني غير الشرعي من quot;ماهيquot; الفتاة الايرانية التي تمردت على التقاليد الاجتماعية وقبلت بالزواج خلافًا لرغبة أبيها.

دبي: الممثلة الايرانية باران كوثريإجتذبت مسابقة المهر الآسيوي الأفريقي العديد من الأفلام الروائية الطويلة غير أن لجنة انتقاء الأفلام استقرت في نهاية المطاف على قبول خمسة عشر فيلمًا نذكر منها quot;أمquot; للمخرج الكوري الجنوبي بونغ جونغ هو، quot;شيرلي أدمزquot; للجنوب أفريقي أوليفر هيرمانوس، quot;حوريةquot; للتايلندي بن- إك راتانا روانغ، quot;بين عالمينquot; للسريلانكي فيموكثي جاياساندرا، quot;السهول البيضاءquot; للايراني محمد رسولوف، quot; نساء بلا رجالquot; للايرانية شيرين نشّاط و quot;حيرانquot; للمخرجة الايرانية المتميزة شاليزه عارفبور. وعلى الرغم من أن هذا الفيلم لم يحصد أي جائزة إلا أنه يظل فيلمًا متفردًا في تقنياته ورؤيته الاخراجية وفكرته الرئيسة وأداء ممثليه الذين أدارتهم المخرجة الشابة المبدعة شاليزه عارفبور.

نتيجة للظروف العصيبة التي مرَّ بها الشعب الأفغاني أثناء سيطرة حكومة quot;طالبانquot; فرَّ ملايين الأفغانيين الى البلدان المجاورة هربًا من قمع الزمرة الثيوقراطية المتخلفة التي حكمت البلاد بالحديد والنار وفرضت أبشع نوع للحجاب في العالم حيث تتغطى المرأة من سمت رأسها الى أخمص قدميها ولا ترى الناس الذين يحيطون بها إلا بوساطة شبكة مستطيلة شفافة بعض الشيء. وتقدر الدوائر الرسمية ذات العلاقة بموضوع الهجرة أن عدد الأفغانيين الذين فروا الى إيران قد بلغ ثلاثة ملايين مواطن أفغاني.

وقصة فيلم quot;حيرانquot; للمخرجة الايرانية شاليزة عارفبور تتمحور حول شاب أفغاني يُدعى quot;حيرانquot; (مهرداد صديقيان) هرب الى ايران من قمع quot;حركة طالبانquot; ووقع في حب فتاة ايرانية لم تجتز عامها السابع عشر، إسمها quot;ماهيquot; (باران كوثري). ويبدو أن قصة الحب هذه مستوحاة بقدر أو بآخر من مسرحية quot;روميو وجولييتquot; ذائعة الصيت. وهناك أوجه للتشابه، لكننا لسنا بصددها الآن.

كسر التابوهات
لجأت المخرجة شاليزه عارفبور الى خلق مناخٍ رومانسي قد لا ينسجم بالضرورة مع طبيعة المجتمعحيران وماهيالريفي الايراني. فأُسرة quot;ماهيquot; تعيش في قرية نائية غير أن تواجد القطار على مسافة غير بعيدة يقرّب المسافات ويلغي بعض الحواجز بين القرية والمدينة. ومع ذلك فإن تكوين علاقة عاطفية مع فتاة من فتيات القرية يعتبر أمرًا صعبًا تحوطه الكثير من المحاذير، آخذين بنظر الاعتبار أن هذه العلاقة سوف تنشأ بين شاب أفغاني مهاجر وبين فتاة ايرانية تنتسب الى السكان الأصليين لايران.

حينما تأخذ العلاقة طابعًا حميمًا بعد أن تتكرر لقاءاتهما العاطفية تجبره quot;ماهيquot; على التفكير بالزواج. فهو طالب متفوق يحلم أن ينهي دراسته الجامعية ويحصل على وظيفة ثم يتزوج ليكوِّن أسرة سعيدة. غير أن مجرد طرح هذه الفكرة على والد quot;ماهيquot; المتزمت هو نوع من المجازفة. فعقلية الأب الريفية لا تحتمل فكرة وقوع ابنته في الحب والمضي في مراحله المتعددة، بينما هم يريدون لها أن تواصل دراستها. وما إن يكشف الأب بواكير هذه العلاقة العاطفية واللقاءات السرية التي تجمع بين الحبيبين حتى يدهمهما وهما يتجولان خلسة على دراجة هوائية فيقودها الى البيت غاضبًا مقرِّعًا إياها، وشاتمًا أمها التي تتستر عليها. غير أن وجود الجد الطاعن في السن يفعل فعل المصد الذي يخفف من انفعالات الأب وتهوره الدائم لأنه يخشى على شرف العائلة الذي قد يتطلخ بسبب هذه العلاقة العاطفية. وعلى الرغم من توتر الأب وانفعاله الدائم إلا أن quot;حيرانquot; يأتي قبل الوقت المحدد الذي قرره الجد لكي يطلب يدها من أبيها، لكن ثورة الأب لا تزال عنيفة. فما إن يراه حتى يهجم عليه ويطرده من المنزل شر طردة قاذفًا باقة الورد في وجهه، ولاعنًا إياه على إصراره في تتويج هذه العلاقة بالزواج من ابنته.

لم تتوقف القصة عند هذا الحد على الرغم من أن quot;حيرانquot; يقرر السفر الى طهران بغية ايجاد فرصة عمل مهما كانت بسيطة. وبالفعل يحزم أمتعته ويرحل بالقطار الى العاصمة تاركًا quot;ماهيquot; وراءه باكية نادبة حظها العاثر. غير أنها تدرك جيدًا أن جدها لا يرفض لها طلبًا لذلك تطلب منه أن يسافر معها الى طهران علها تعثر على حبيبها الذي أحبته حُبًا جمّا. وبعد جهود جهيدة تعثر على quot;حيرانquot; الذي يستنفر كل معارفه وأصدقائه ويُحضرهم لاجراء مراسيم الخطوبة والزواج. فأهله وذووه لا يزالون في أفغانستان، بينما تقتضي العادات والتقاليد الاجتماعية أن يجلب أمه وأبيه في الأقل.

وأخيرًا تقترن quot;ماهيquot; بحبيبها quot;حيرانquot; غير أن الظروف الشائكة تقف لهم بالمرصاد. فبعد الزواج بأسابيع قليلة تكتشف أنها حامل بالجنين الأول، غير أن الأنظمة والقوانين الصارمة التي تتعلق بالهجرة والمهاجرين تقف حائلاً أمام استمرار هذه الزيجة السعيدة، إذ يكتشفه أحد الموظفين العاملين في مكتب العمل ويطارده حتى يقبض عليه، ويرحّله الى أحد السجون. وحينما تشتد الأزمة بين الأب الذي لم يوافق على هذه الزيجة وبين البنت التي تطلب شفقته ورحمته لأنها حامل وتنتظر مولودها الجديد. وفي خاتمة المطاف يرق قلب الأب على ابنته فيقوم برحلة طويلة وشاقة بحثًا عن quot;حيرانquot; وحينما يقطع الأمل بوجوده يقفل راجعًا واضعًا اللوم على ابنته وأبيه وزوجته. ومع ذلك تواصل quot;ماهيquot; رحلة البحث عن زوجها المفقود الذي ضيعته في المعتقلات السرية. وحينما تيأس من العثور عليه تقرر السفر الى أفغانستان. وعند نقطة الحدود نكتشف أنها لا تحمل جواز سفر، وإنما بضعة أوراق ثبوتية فيقرر الضابط إرجاعها من حيث أتت، غير أنها تصر على البقاء وترفض مغادرة المكان.

النهاية الدرامية
إحيران يحاول تقبيل ابنته من وراء الزجاجنّ مَنْ يشاهد هذا الفيلم يكتشف حجم الجهد الكبير الذي بذلته المخرجة شاليزه من أجل الوصول الى هذه النهاية المؤثرة جدًا. فبينما هي تنتظر على قارعة الطريق بعد أن رفضت وجبة العشاء التي قدمها أحد جنود العاملين في نقطة التفتيش، تمر بعض الحافلات الكبيرة المتجهة الى أفغانستان. فتحاول أن تعطي عنوان quot;حيرانquot; لأحدهم غير أن الجميع يخافون خرق الأوامر والتعليمات. وبينما هي تمر على الحافلة شاهدت من خلال الزجاج زوجها quot;حيرانquot; الذي يبدو أن السلطات الايرانية قد رحّلته الى أفغانستان فترفع ابنته اليه علّه يتعرف على ملامحها في الأقل ويحفظها في ذاكرته، لكن الحافلة تتحرك فنتتقل من نافذة الى أخرى وهو يتراجع معها حتى يصل الى مؤخرة الحافلة من دون أن يسمحوا له بالنزول. وحينما تزداد سرعة الحافلة تركض وراءها ولكن من دون جدوى فتجهش ببكاءٍ حار بينما تمضي الحافلة في طريقها الى أفغانستان حاملة quot;حيرانquot; الذي لم يكحل عينيه برؤية ابنته الرضيعة التي قُدر لها أن تولد بعيدًا عن حضن أبيها الدافئ.

الموقف النقدي
ينطوي هذا الفيلم الجرئ على موقفٍ نقدي واضح وهو جزء مهم من الرؤية الاخراجية التي أشرنا إليها للمخرجة شاليزه عارفبور. فثمة عدم توازن في طرح العلاقة بين الشعبين الايراني والأفغاني. وقد تجسّد هذا الاختلال من خلال موقف الأب التي بدا غاضبًا ومتزمتًا وغير راضٍ عن طبيعة العلاقة التي أقامتها ابنته quot;ماهيquot; مع quot;حيرانquot;، الكائن الطارئ الذي قذفته الظروف المعقدة لوطنه الى ايران. وهو لا يريد لهذه الزيجة أن تتم أبدًا، ولكنها حدثت رغم أنفه فوجد نفسه مضطرًا للتعاطي مع ابنته المتمردة وزوجها المهاجر الذي يطارده موظفو مكاتب العمل في أية مدينة ايرانية يحلّ بها.

لم تشأ شاليزة التركيز على الجوانب الايجابية المتمثلة في إيواء ثلاثة ملايين مهاجر أفغاني وهي كثيرة من دون شك، ولكنها أصرت على التركيز على بعض الجوانب السلبية مثل عدم إعطاء المهاجرين الأجانب فرصة للعمل في إيران.

وفي الختام لابد من تسليط الضوء هذه المخرجة المبدعة والجريئة في آنٍ معًا. فهي من مواليد طهران عام 1970. درست في معهد التدريب السينمائي. عملت منذ عام 1990 وحتى عام 2004 في أكثر من quot;26quot; فيلمًا كمبرمجة ومخرجة مساعدة وكاتبة سيناريو ومونتيرة. ثم بدأت مشروعها الاخراجي بفيلم قصير يحمل عنوان quot;ظل القمرquot; ثم أردفته بثلاثة أفلام وثائقية وهي quot;تحت جلد المطرquot;، quot;زهرة في الظلامquot; و quot;في داخليquot;. أما quot;حيرانquot; فهو فيلمها الروائي الطويل الأول الذي أنجزته عام 2009 واشتركت بعدد من المهرجانات الدولية من بينها مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس.