أثار فيلم quot;زنديقquot; للمخرج الفلسطيني جدلاً واسعًا لم تنتهِ تداعياته حتى بعد فوزه بجائزة المهر العربي في الدورة السادسة لمهرجان دبي السينمائي الدولي لهذا العام. فالفيلم ينطوي على جدلية إشكالية تناقش ثنائية الذات والموضوع لمواطن فلسطيني يقرر العودة من بلدان الشتات الى مدينة رام الله. وحينما يقوم ابن أخيه بقتل مواطن من مدينة الناصرة يضيق به الزمان والمكان فيظل يدور طوال الليل باحثًا عن مأوى يقضي فيه ليلة واحدة فلم يجد سوى جوف سيارته التي تحتوي قلقه وضياعه وحيرته الأبدية كإنسان مرهف.
دبي: بادئ ذي بدء، لابد من الإشارة الى أن فيلم quot;زنديقquot; للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي قد تنافس مع تسعة أفلام روائية طويلة وفاز بجائزة المهر العربي لأفضل فيلم في الدورة السادسة لمهرجان دبي السينمائي الدولي. وهذه الأفلام هي quot;وداعًا غاريquot; لنسيم عمواش، quot;أميركاquot; لشيرين دعيبس، quot;عصافير النيلquot; لمجدي أحمد علي، quot;كل يوم عيدquot; لديما الحر، quot;حرّاقةquot; لمرزاق علواش، quot;ضربة البدايةquot; لشوكت أمين كوركي، quot;الرجل الذي باع العالمquot; لعماد نوري وسهيل نوري، quot;واحد- صفرquot; لكاملة أبو ذكري، و quot;زهرquot; لفاطمة الزهراء زعمومquot;. ولابد أن لجنة التحكيم الموقرة التي رأسها المخرج الجزائري أحمد راشدي والتي ضمّت في عضويتها كلاً من الممثل المصري خالد الصاوي، والناقد المغربي مصطفى المسناوي، والناقد السينمائي السويسري إدوارد واينتروب، وتيم سمايث، رئيس شركة فيلم ووركس للانتاج السينمائي، قد رأت في الفيلم ما يميزه عن بقية الأفلام الروائية الطويلة التسعة التي تبارت على الفوز بهذه الجائزة المهمة التي تبلغ قيمتها المادية خمسين ألف دولار أميركي.
يسعى أغلب المخرجين لتحقيق رؤيتهم الإخراجية التي خططوا لها أو رسموها في أذهانهم قبل الشروع في تنفيذ هذه المشاريع، غير أن نسبة تجسيد هذه المشاريع المُتخيلة تزداد حينما يكون المخرج و كاتب القصة السينمائية أو السيناريو هو المخرج نفسه. كما هو الحال مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي الذي أنجز فيلم quot;زنديقquot; وانتزع بجدارة جائزة أفضل فيلم روائي طويل.
قد يبدو عنوان الفيلم مثيرًا وغريبًا بعض الشيء، ولابد من تسليط الضوء عليه لاستجلاء المعاني الخفية التي يقصدها المخرج وكاتب السيناريو. فما معنى quot;الزندقةquot; هنا، ولماذا وُصِف البطل الذي أُختزل اسمه الى حرف واحد وهو الـ quot;مquot;. ولأننا لا نريد أن نقدم إجابة سريعة تفسد متعة القراءة النقدية لهذا الفيلم الذي توفر على معظم شروطه الإبداعية وحقق لنا، نحن المشاهدين، متعة بصرية وفكرية غاصت في تفاصيل القضية الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى الوقت الحاضر.
هاجس التوثيق
اختار المخرج المبدع ميشيل خليفي تقنية quot;الفيلم داخل الفيلمquot;. إذ يضعنا في مواجهة مخرج فلسطيني يدعى quot;مquot; يقرر العودة من أوروبا الى مدينة رام اللهتحديدًا لكي يصور فيلمًا وثائقيًا عن نكبة 1948 ويوثق بواسطتها الفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين. اذًا، فالتوثيق هنا يأخذ بُعدًا آخر يتجاوز حدود التسجيل العابر ليصل الى مرحلة جمع الوثائق الحقيقية التي لا يرقى اليها الشك. فالوثيقة الدامغة هي الشيء الوحيد الذي يخيفالعدو الإسرائيلي، لذلك فإنهم يبذلون جهودًا جهيدة بغية تزوير الحقائق وطمسها إن أمكن. وكيف لهم أن يطمسوا مثل هذه الحقائق وشهود العيان لا يزالون أحياءً يُرزقون؟ إن عملية التوثيق وإسناد الدور الرئيس الى مخرج فلسطيني لابد أن يدعونا إلى التساؤل في الاحتمال الكبير للمقاربة بين quot;مquot; هذا الاسم المُختزل والمتواري عن الأنظار، وبين quot;ميشيل خليفيquot; نفسه الذي تقنّع بهذا الحرف. وهذا احتمال معقول، لأن جزءًا من مهمة ميشيل المخرج هو توثيق للكارثة التي حلّت بشعبه، مع الأخذفي الاعتبار أن مهمته الابداعية تتجاوز حدود التوثيق الى حالات الخلق الابداعي التي يتوفر عليها المبدعون الحقيقيون فقط.
ثمة سؤال لابد من طرحه في هذا السياق مفاده: هل أراد quot;مquot; أن يكشف عن آلام تلك النكبة فقط، النكبة التي شردّت ملايين الفلسطينيين سواء في داخل فلسطين، أم في بعض الأقطار العربية، أم في بلدان الشتات؟ أم أنه أراد أن يرصد تداعيات هذه النكبة وإنعكاساتها على الوضع الراهن الذي يمر به الفلسطينيون سواء في رام الله أو الناصرة أو عموم الأراضي الفلسطينية؟ وما دمنا نحاول تعزيز هاجس التوثيق لدى quot;مquot; أو المخرج نفسه فإن المشهد الافتتاحي سوف يساعدنا كثيرًا في حل اللعبة الاشكالية التي تقوم عليها عقدة الفيلم المركّبة التي تمزج بين ثنائية الحقيقة والحلم، أو الواقع والفانتازيا، أو الذات والموضوع. في المشهد الافتتاحي نرى quot;ميمًاquot; (محمد بكري) وهو يقود سيارته في زقاق ضيق جدًا يحيلنا على الجدار العازل حتمًا، أو على الأحياء الضيقة التي تخنق الأنفاس. وما إن يصل الى الشارع العام حتى نراه يتابع حبيبته (ميرنا عوض) التي تبدو غاضبة ومنفعلة وترفض أن تلج الى جوف السيارة، لكنه يقنعها في نهاية المطاف، الأمر الذي يكشف لنا أن علاقته مع النساء مضطربة ومتوترة وقائمة على الشكوك والتقاطعات الكثيرة التي سوف تبين لاحقًا ذهنيته وطريقة تفكيره التي استمدها من الغرب في أثناء هجرته أو غربته القسرية. غير أنها تستجيب له وتدخل الى جوف السيارة وترافقه في رحلته المحفوفة بالمفاجآت.
يصور quot;مquot; بعض اللقاءات مع أناس كبار طاعنين في السن يروون له المحن المتلاحقة التي مروا بها أو رأوها رأي العين، غير أنه يتلقى مكالمة هاتفية يخبرونه فيها أن ابن أخيه قد قتل شخصًا ما من مدينة الناصرة فتنقلب حياته الى جحيم لا يُطاق، إذ يحذره أهله وذووه من مغبة العودة الى البيت quot;الذي يرمز حتمًا الى البيت الفلسطيني الكبيرquot; وهنا تتجسد دلالة معنى الـ quot;زنديقquot; الذي انتقاه المخرج عنوانًا لفيلمه الجميل. فالكل يتحاشونه وكأنه كائن منبوذ.
حبكة النص
ينعطف السياق السردي للفيلم ليأخذ أبعادًا رمزية تنأى به كثيرًا عن الواقع المعروف بتداعياته الخطرة. وعلى الرغم من أن خطر الانتقام واحد وهو الموت في نهاية المطاف إلا أن احساس quot;مquot; بالنبذ والاذلال هو أفظع من الموت ذاته. فها هو ينتقل من فندق الى آخر وهو في ذروة الاعياء إلا أن الجميع يرفضون إيواءه على الرغم من استعداده لأن يدفع المبلغ الذي يريدون وعذرهم في ذلك أن الوقت متأخر وأنهم لا يستطيعون مخالفة القانون. وحينما يأخذ التعب منه مأخذًا كبيرًا ينام في جوف سيارته وكأن quot;المكانquot; نفسه هو الذي يقوم بفعل النبذ والاقصاء. كما أن تقنية الدوران التي استعملها البطل بايعاز من المخرج وكاتب النص هي التي أمدّت الفيلم بعنصر مضاف من القوة. يا ترى، هل يبحث quot;مquot; عن الزمان والمكان في آنٍ واحد، الزمان الماضي الذي تبدد في ذكريات مؤلمة وفظيعة لا يمكن استرجاعها إلا بشق الأنفس، وبمكان لا يمكن الحصول عليه إلا بمعجزة كبيرة في زمن ولّت به المعجزات. وتأكيدًا للثنائية الزمكانية يعود quot;مquot; الى منزله القديم فيكتشف وجود صبيين صغيرين ثم نعرف لاحقًا أن عصابة ما كانت تختطفهما وتسرق كِليهما. وقد كشفت لنا عدسة المصور آثار عملية جراحية لطفل سرقوا كِليته. ثمة مشاهد مثيرة قام بها quot;مquot; في منزله القديم. إذ أقدم على إحراق بعض الصور القديمة، لكنه في خاتمة المطاف ينقذ الصبي الصغير ويأخذه من وسط أحداث العنف ويقف معه على منطقة مرتفعة تطل على أبنية مُضاءة. وهناك يعلِّمه كيفية التقاط الصور. والكاميرا هنا أداة توثيق مهمة. ومن خلالها يمكن أن نوثق كل شيء. وكما وثّق quot;مquot; أحداث العنف نراه اليوم ينقل خبراته لهذا الطفل الصغير الذي سيوثق لاحقًا كل شيء.
لابد من الأخذفي الاعتبار العديد من الجُمل التي تفوّه بها أبطال هذا الفيلم. فالطفل الصغير، تمثيلاً لا حصرًا، يجيب على سؤال quot;مquot; بأن quot;أباه مسجون عند حماسquot; الأمر الذي يكشف عن طبيعة العلاقة بين فصائل الشعب الفلسطيني.
وعودًا على موضوع الزندقة فإن quot;مquot; الذي ظل يدور طوال الليل باحثًا عن مأوى أو ملاذ لم يجده في وطنه مردّه الى الشك به أولاً، ونبذه ثانيًا، فها هو يُعامَل معاملة الزنديق الذي ينأى عنه الجميع. فأحد معاني الزندقة كما ورد في quot;المنجدquot; هو quot;الكفر باطنًا مع التظاهر بالايمانquot;. أما quot;الزنديقquot; في quot;لسان العربquot; فيعني quot;الملحد والدهريquot; ولذلك فإن الناس يتفادون هذا quot;الملحد الذي لا يُراعي حرمة ولا يحفظ مودةquot;. فلا غرابة أن نراه نائمًا في مساحة ضيقة من جوف سيارته.
علامات دالة
يكتظ فيلم quot;زنديقquot; لميشيل خليفي بالعديد من الاشارات والعلامات الدالة التي تسلّط الضوء على شخصية quot;مquot; الاشكالية. ففي البدء نراه quot;زير نساءquot; مرتبطا بأكثر من امرأة في آنٍ واحد. وهذا يعني أن الثقافة الغربية التي تربى عليها تتيح له أن يلبي رغباته الجنسية، ويحققها من خلال التواصل مع أي امرأة حتى وإن كانت إسرائيلية. وكنا نشاهده وهو يقبل بحرارة كبيرة فتاة إسرائيلية كانت تقول له إنها quot;تقبّل للمرة الأولى شخصًا فلسطينيًاquot;. غير أن ردود الفعل كانت قوية من قبل حبيبته التي صفعته أول الأمر، ثم أجبرته من خلال موقفها القوي أن يتراجع لكي يضعها هي وحدها نصب عينيه. وربما يكون المشهد النهائي للفيلم هو أكثر المشاهد تعبيرًا عن قوة الشخصية النسوية التي إستدرجته في نهاية المطاف الى فضائها الأنثوي الرحب وهي ترتدي حلّة زفافها البيضاء.
نخلص الى القول إن quot;مquot; يمكن أن يكون الحرف المُختصَر لأي quot;مواطن فلسطينيquot;، كما يمكن أن يكون دلالة لأي شخص quot;مُُحتَل أو مُضطهَدquot; في العالم، على الرغم من أنني أرجح أن يكون هذا الـ quot;مquot; هو الوجه الآخر للمخرج الذي أطلّ علينا بصورة الزنديق الذي يتفاداه الآخرون وينفرون من حضوره الثقيل.
لابد من الاشادة بأداء الفنان محمد بكري الذي جسد دور هذه الشخصية الاشكالية ومنحها الكثير من القوة والمصداقية وأتاح للمشاهدين فرصة متابعة عمل سينمائي فلسطيني سلس مبني بناءً دراميًا قويًا يفحص ثنائية الذات والموضوع في آن معًا، ولا يتيح للضجر أن يتسرّب الى بصر المتلقي وبصيرته لأن الأحداث والمشاهد المتتابعة مليئة بعناصر الشدّ والتشويق والترقّب.
التعليقات