محمد الأزرق من طنجة: يتسم مومن السميحي باستقلالية شديدة في تشييد أفلامه، مطمئنا أشد اطمئنان إلى مساره السينمائي الذي بدأه بفيلمه القصير quot;سي موح بدون خط أو الزغبيquot; 1970. في 1976 سيخرج مومن السميحي فيلمه الأول الطويل quot;الشرقي أو الصمت العنيفquot; مضمنا إياه بيانه السينمائي الذي لم يحد عنه في أفلامه اللاحقة: quot;أسطورة الليلquot; 1981، quot;قفطان الحب منقط بالهوىquot; 1987، quot;مع ماتيس في طنجةquot; 1993، quot;وقائع مغربيةquot; 1999، quot;العايلquot; 2005، quot;طفولة متمردةquot; 2008. استخدم كلمة البيان على سبيل الحقيقة وليس المجاز لأن مومن السميحي يصاحب أفلامه بمقالات رائعة ومعرفية، تعبر عن هواجسه كمخرج مثقف، وعلى حد قوله في كتابه quot;حديث السينما 2quot;: quot;غدت ممارستي التأليف والإخراج السينمائيين غداء ممتعا ومرجعيا يسجل مدى ارتباط السينما كثقافة وليس فقط كتسليةquot;.
يخرج مومن السميحي أفلاما مولدة تشع نقاشا أنتروبولجيا ونفسيا وثقافيا، ولا يستطيع النقاد التخلص من أفلام السميحي بكلمة أو بكلمتين، فهذه الأفلام عادة ما تعبر عن إشكالات معرفية تشبع بها المخرج حينما كان طالبا في حلقة رولان بارت، كما لا ننسى مساهمته في الكتابة بمجلة quot;الثقافة الجديدةquot; منبر المثقفين الطليعيين المغاربة بين 1974 و1985، جنبا إلى جنب عبد الله راجع، محمد بنيس، مصطفى المسناوي ... والثفافه حول البيان التأسيسي للمجلة الداعي إلى طرح إشكالية الواقع الثقافي المغربي وتجاوزه عن طريق نقاش ديموقراطي واسع مصحوب بإيمان حقيقي بالخلق والتغيير.
نجد فقرة في البيان التأسيسي للمجلة تقول: quot;إن مفهوم الثقافة الجديدة لا يعني عندنا أنها تعاكس الثقافة القديمة، إنها جديدة من حيث نوعيتها ورؤيتها، لذلك فإن عملنا لا ينحصر عند عتبة الحاضر، لأن فهم الحاضر واستيعابه وتغييره لن يكون ممكنا إلا في تفاعلنا مع الماضي والمستقبل. هنا نلمس قوة العودة إلى التراث/ كل التراث في جميع مظاهره وأشكاله وأساليب أدائه المختلفة، بدراسته ومناقشته وفق المنهج العملي الصحيح، حتى نأخذ منه ما سيعطي تدفقنا طاقة هائلة من التوهجquot;، العدد الأول من الثقافة الجديدة، نيسان (أبريل) 1974. مضمون هذه الفقرة يعد الأرضية الفكرية التي انطلق منها مومن السميحي لبناء فيلمه الطويل الأول quot;الشركي أو الصمت العنيفquot; 1975، هذا الكلام ليس إسقاطا شخصيا أو إفتراء تأويليا في حق فيلم الشرقي أو الصمت العنيف، بل يؤكد المخرج نفسه هذا الكلام في مواقع متفرقة من كتابه حديث السينما في جزأيه.
يجيب في فيلمه السالف الذكر عن أسئلة من قبيل: ما هي معالم حضارتي؟ ما هي أشكال الثقافة المغربية؟ كيف يمكن الكلام عن المغرب ومجتمعه وهويته وعلاماته من منظور داخلي، خارج التكيف الناتج عن الوضعية الاستعمارية؟ quot;حديث السينما 1quot;. هذه الأسئلة قد يطرحها أيضا المتلقي النموذجي بعد أن يشاهد خلال 90 دقيقة، طنجة إبان السنوات الأخيرة للاستعمار، حيث تعيش امرأة quot;عائشةquot; تصارع التقاليد وفساد المجتمع وتشارك في مظاهرات ضد الاستعمار وتقاوم رغبة زوجها في الارتباط بزوجة ثانية عبر الشعوذة والسحر.
كتب مومن السميحي هذا الفيلم برغبة التفكير في التاريخ الاستعماري المغربي من خلال زاوية نظر كلود ليفي ستراوس، فبعد سنوات الدراسة في فرنسا، تشكلت لدى مومن السميحي رؤية برانية للثقافة المغربية نتيجة انبهاره الشديد لكتاب مؤسس الأنتروبولوجيا، أقصد كتاب كلود ليفي ستراوس quot;الفكر المتوحشquot;، فعائشة التي تحارب التقاليد تجد نفسها في وضع مزدوج حين تستعين بالسحر لمنع زوجها من الارتباط بزوجة ثانية. فالسحر كمعطى إثنولوجي حاول أن يمجده السميحي باعتباره إمكانية من الإمكانيات اللامحدودة للعقل البشري، ومن جهة أخرى، دفع السينما لرصد التحولات العميقة التي عرفها المغرب بعد رجة الاستعمار.
يستمر عمل السميحي في تفكيك الخطاب الاستعماري في فيلمه الطويل الثاني 'أسطورة الليل'، إذ يستحيل اختزال هذا الفيلم في سينوبسيس دقيق، إذ اعتمد مومن السميحي أسلوب الاستطراد، إذ كان يتبع شخوصه في تجولهم عبر مدينة طنجة، فاس والشاون، ويرصد تعاملهم مع دلالات وعلامات ثقافية معينة من تاريخ المغرب المعاصر مثل تقديم وثيقة الاستقلال 1944، الحركة الوطنية في شمال المغرب، المخزن، الاستعمار ...
من الناحية الشكلية، انتقل مومن السميحي في 'أسطورة الليل' من المرحلة الصمتية التي ميزت فيلمه 'الشركي أو الصمت العنيف'، إلى المرحلة الحوارية، إذ يصرح المخرج بأنه كتب وأخرج الشركي بعد أن وقف على معنى وجدالية الصمت عند جورج باطاي، ومن ثم استلهم شخصية عائشة، وهي تعبر عن وضعيات قصوى بصمتها.
نأى المخرج عن الصمت في فيلمه quot;أسطورة الليلquot; واشتغاله المكثف على الأصوات والألسن واللغات كان مقصودا من السميحي لإبراز الانفصام اللغوي والفكري الذي تعيشه المجتمعات المغربية الخارجة من طور الاستعمار.
عاود مومن السميحي في فيلمه الأخير quot;طفولة متمردةquot; (وهو استمرار لفيلم العايل) الاشتغال على الذاكرة، لكن هذه المرة من خلال سرد لحياته ونشأته في طنجة باعتبارها مجالا متوسطيا هجينا ومرتعا للتعدد، رصد في هذا الفيلم أثر تربية أبيه الفقيه له، وانفتاحه على اللغة الفرنسية في المدرسة، وانكبابه عبر لغة الآخر على المطالعة ومشاهدة السينما، بحياد فني مرهق قابل مومن السميحي في فيلمه بين الأنا والآخر، بين الشرق والغرب، بين العربية واللغات الأخرى، بين الدين والدنيا، بين الرجل والمرأة .. جعل هذه الثنائيات الصارخة في الفيلم تتفاعل بذكاء لتعكس الروح التنويرية للمخرج.
من الناحية الفنية، يعد هذا الفيلم مثل سابقيه، شكلا فنيا ملتبسا ما بين التوثيق والتخييل، إذ يمكن اعتبار أفلام مومن السميحي وثيقة حية لرصد المغرب الاستعماري وما بعد الاستعماري، مفعمة بالتفاصيل الإثنية والتاريخية، منمقة بمحكيات تخييلية أوتوبيوغرافية تعكس الذات الإبداعية للمخرج. كما لاننسى هوس السميحي بتضمين فيلمه بدروس ونظريات سوسيولوجية وسيميولوجية، كما لمّح إلى ذلك الناقد نور الدين الصايل ذات مقال.
ويبقى مومن السميحي أكثر المخرجين المغاربة تحررا من النموذج السائد الذي يقصي رغبة المخرج ويخضع للمتع السهلة التي يطلبها المشاهد، وهذا بالفعل ما حدث في المهرجان الوطني للسينما المغربية في دورة 2008، حينما استهجن الجمهور وصفر بشدة حين أعلن الناقد سمير فريد فوز 'طفولة متمردة' بجائزة الجمهور الخاصة.