حامد بن عقيل من الاسكندرية: لم أكن أشك في أنني سأستمتع بعرض فيلم quot;1000 مبروكquot; لأحمد حلمي، فمنذ تجربته المميزة في فيلم quot;ميدو مشاكلquot; عام 2003 م وهو يقدّم تجربة سينمائية مميزة، هذه التجربة التي فاقت تجارب بعض الفنانين الشباب الذين ما إن ينجح أحد أفلامهم إلا ويتحولون إلى أدوار quot;التهريجquot; التي تعتمد على quot;إفيهاتquot; مستهلكة ومواقف ساذجة، بدءًا بمحمد سعد ومرورًا بمحمد هنيدي وأحمد آدم وليس انتهاءً بهاني رمزي. فأفلام حلمي لقطة من فيلم ألف مبروكالتالية لفيلم quot;ميدو مشاكلquot; كانت تتفاوت في مضامينها إلا أنها لم تسقط في دوامة الهزل السخيف، ليقوم ببطولة quot;جعلتني مجرماًquot; وquot;زكي شانquot; وquot;ظرف طارقquot; وquot;صايع بحرquot;، وصولاً إلى فيلم quot;كده رضاquot; الذي كان تحولاً واضحًا من أحمد حلمي نحو التجريب، حيث قدم شخصية ثلاثة توائم يقومون بدور ابن وحيد لأب يخشى العين على أبنائه. ثم جاء فيلم quot;آسف على الإزعاجquot; ليكرّس اتجاه حلمي نحو السينما التجريبية الجادة من خلال أدائه دور شخصية مصابة بالانفصام. هذا التاريخ السينمائي، القصير زمنيًا والثري فنيًّا، جعلني أحد المراهنين على أن ما سأشاهده أثناء عرض quot;1000 مبروكquot; سيكون كسراً للسائد ومجافياً للتقليد. الفيلم مقتبس من الفيلم الأميركي Groundhog Day الذي تم إنتاجه عام 1993م، وقام ببطولته أندري مادكدويل، والذي تدور أحداثه في إطار كوميدي فانتازي حول استيقاظ شخص صباح كل يوم، ليمر بعدة مواقف مختلفة، ثم عندما يخلد إلى النوم ليلاً، ويستيقظ صبيحة اليوم التالي، يفاجأ بأنه يعيش اليوم نفسه الذي قضاه أمس، حيث يعيد اليوم تكرار نفسه بأحداث مختلفة، فهنا يجد البطل نفسه محاصرًا في يوم واحد فقط من حياته لا يستطيع الفرار منه. هذا الاقتباس لم يكن سوى فكرة أدت إلى تنفيذ فكرة مختلفة قليلاً في فيلم quot;1000 مبروكquot; إذ يدور الفيلم حول شخصية أنانية تعيش لنفسها فقط، ولا تشعر بأنانيتها إلا بعد مرورها بعدة مواقف غريبة ومختلفة، ومن ثم تبدأ بإدراك أثر هذه الأنانية عليها وعلى المحيطين بها. ومع أن الاقتباس لم يكن حرفياً إلى أن مؤلفيّ القصة quot;الأخوين ديابquot; أشارا في بداية الفيلم إلى أنه مقتبس من أسطورة quot;سيزيفquot; القائمة على quot;التكرارquot;، وهي إشارة ذكية للدلالة على محتوى الفيلم ورسالته، فسيزيف الذي تجاوز وخرق بشكل لا تخطئه العين حدوده لأنه اعتبر نفسه ندا للآلهة حين يُبلغ عن حماقاتهم وطيشهم ونزقهم. وكنتيجة لذلك، أظهر quot;زيوسquot; ذكاءه الخاص بأن ربط سيزيف بعقوبة وحيرة أبدية. وطبقًا لذلك فإن الأنشطة عديمة الهدف أو اللامتناهية توصف بأنها سيزيفية. كما أن هذه الإشارة تؤكد على النقطة الجوهرية للفيلمين معاً، الأميركي والمصري، لأن التفسيرات المتعددة لأسطورة quot;سيزيفquot; تكاد تُجمع على عبثية الإنسان وأنانيته، ففي القرن الأول قبل الميلاد فسر الفيلسوف الأبيقوري لوكريتوس أسطورة سيزيف كتجسيم للساسة الذين يطمحون ويسعون باستماتة إلى الكرسي والمنصب السياسي وأنهم مهزومون مغلوبون في مسعاهم بصفة دائمة مستمرة، وأن السطوة والسلطة مجرد شيء فارغ خاو في حقيقتها، تماما مثل دحرجة الجلمود لأعلى التل. وقد اقترح فيلكر أنه يرمز إلى الصراع العبثي للإنسان في سبيل المعرفة، وقال رايناخ إن عقابه تم بناء على صورة يظهر فيها سيزيف مدحرجا حجرا ضخما هو أكروكورنثوس، وهو رمز الكدح والمشقة والحنكة والمهارة التي استخدمها في بناء السيزيفيوم. ورأي ألبير كامو في مقاله المنشور عام 1942 والمسمى أسطورة سيزيف، أن سيزيف يجسد هراء وسخف ولا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، ولكنه يختم بقوله إن المرء لابد أن يتخيل أن سيزيف سعيد مسرور. تماما كما أن النضال والصراع والكفاح ذاته نحو الأعالي والمرتفعات كاف وكفيل بملء فؤاد الإنسان (ويكيبيديا).
ويمكن تلخيص قصة فيلم أحمد حلمي بأنها تدور حول حياة شاب أناني لا مبالي يستعد لزفافه في اليوم التالي، وهو الذي لا يعنيه من أبيه إلا أن يدفع أقساط سيارته وشقته، كما أن علاقته بزملائه في العمل علاقة نفعية كونه محاسباً للشركة التي يعمل فيها، ما يجعله يوصي بالاستغناء عن عددٍ من الموظفينلقطة من فيلم ألف مبروكلترشيد الإنفاق دون أن يشعر تجاههم بأي تعاطف، كما أنه يعامل شقيقته بحدة وجفاء ويعامل أمه بآلية تهمل معرفة أي شيء عنها حتى حالتها الصحية مع أنه يشاهدها في كل مرة تتعاطى الأدوية!، لينام في الليلة التي تسبق ليلة زفافه، ثم يستيقظ صباح اليوم التالي ماراً بعدد من الأحداث الغريبة التي تنتهي بوفاته في الشارع المقابل لمدخل قاعة الفندق المقرر زواجه فيه، ثم يصحو مفزوعاً من نومه ليكتشف أن ما مر به لم يكن سوى كابوس لكن ما رآه أثناء نومه يتكرر مرة أخرى بتفاصيل إضافية بسيطة تنتهي بتعرضه لحادثة دهس أخرى ليستيقظ مرة أخرى ويكتشف أن ما مر به لم يكن سوى كابوس آخر، هذا الكابوس الذي يتكرر عشر مرات على طول الفيلم وفي كل مرة ينتهي بموته، ما يجعله موقناً من نهايته، هو ما يدفعه للتحوّل في كل مرة إلى شخص أكثر إيجابية وأكثر رغبة في تغيير واقعه، على الأقل طريقة تعامله مع أسرته وزملائه في العمل، على الرغم من يقينه أنه لن يستطيع تغيير قدره الذي رآه واضحًا في نهاية جميع كوابيسه السابقة.
إلا أن أبرز ما يلفت النظر في الفيلم هو حفاظ أحمد حلمي على خفة ظله في فيلم جاد وعميق كهذا، فالفيلم اشتمل على عدة مشاهد كانت تفيض كوميديا معتمدة على الموقف والتكرار وخفة الظل التي يتمتع بها حلمي، من دون أن تتجاوز الرغبة في إضحاك الجمهور رغبة مؤلفيّ القصة ومخرج الفيلم وممثليه المتمثلة في دفع المشاهدين إلى اتخاذ مواقف إيجابية من الآخرين ومراجعة مواقفهم التي لن تخرج عن هوس الإنسان المعاصر بذاته وأنانيته المفرطة. كما أن أداء المخرج أحمد محمد جلال كان غاية في الذكاء حين اعتمد بشكل كامل على quot;وجهquot; أحمد حلمي لبث رسائل بصرية تدعم سيميائية الصورة من خلال بقاء بطل الفيلم لفترة طويلة على الشاشة متحدثاً أو مستجيباً لأحاديث الآخرين التي تنطبع على وجهه في شكل انفعالات تبعث على الحيرة والقلق لدى المشاهد، وهي الأداة الأسلوبية التي جعلت المخرج يستهلك الحدث من خلال الصورة بشكل لم يسبق أن شاهدته في السينما العربية، إذ تذكرني هذه الآلية بفلمين عالميين، أولهما فيلم (Shine) الذي تم تصويره عام 1996م في أستراليا، ولعب دور بطولته الممثل الأسترالي جوفروي راش مؤديا دور عازف البيانو الأسترالي ديفيد هيلفجوت، إذ كان quot;وجهquot; جوفروي هو محور الفيلم لتجسيد المعاناة النفسية لتجربة موسيقية شديدة العمق والمأساوية. وثانيهما فيلم The Remains of the Day من بطولة أنتوني هوبكنز, إذ اعتمد المخرج على سيمياء وجه هوبكنز، فكان يتحدث ويخلق نصاَ حوارياً/ بصرياً آخر بعيداً عن الحوارات المشاهدة، إذ لا يوجد في الفيلم أي أحداث دراماتيكية عاصفة ولا قصة حب عنيفة، فهو مجرد ذكريات وقصة هادئة لرئيس خدم دارلنغتون, السيد ستيفنز. ولعل أفلاماً كهذه تحتاج من المشاهد قدراً هائلاً من امتلاك منهجية متكاملة لتحليل الرسائل البصرية بمختلف أنواعها، فالصورة، قياساً إلى الحوار، تبدو معقدة وصعبة وتتطلب من القارئ أن يكون مجهزا بترسانة من الأدوات الإجرائية التي تمكنه من اكتشاف خباياها. كما أن مخرج فيلم quot;1000 مبروكquot; اعتمد بشكل كبير على مبدأ تكامل الصورة من خلال تكرار المشاهد التي لا تتكرر تفاصيلها، بل تتكامل منذ الكابوس الأول حتى العاشر مؤدية دلالة فنية تساهم في تأويل حكاية الفيلم لاشتمال الصورة على محتوىً ثقافي عميق، كما أنها توظّفُ آلية إخراج هدفها إبعاد المشاهد عن الملل نتيجة التكرار.
وأخيرًا، إن فيلم quot;1000 مبروكquot; تجربة رائدة يقدمها الممثل أحمد حلمي والمخرج أحمد محمد جلال وجميع الفريق المشارك في إنتاج الفيلم بحرفية عالية، فرغم أنني أرى ليلى عزالعرب ومحمود الفيشاوي (الأم والأب) وسارة عبدالرحمن (الأخت)، لأول مرة إلا أنهم بدو مقنعين تماماً، وساهموا بدرجة كبيرة في إخراج تجربة سينمائية مميزة تحترم المشاهدين وتستحق الإشادة لأنها تدعوهم إلى إعمال العقل للوصول إلى مدلولاتها الفلسفية العميقة.