أحدثت اللسانيات ثورة كبيرة في تاريخ العلوم الإنسانية، فقد غيرت جميع حقولها وأدت إلى ثورة على مستوى اللغة، خاصة مع بزوغ فجر مدرسة براغ سنة 1926، يعتبر دي سوسير أحد روادها الذين أكدوا أن اللغة تكمن في التواصل الكلامي لا في النظام اللساني المجرد من أشكال اللغة.وبذلك أدى التقارب بين هدف اللسانيين وأبحاث مهندسي التواصل إلى اهتمام اللسانيات بنظرية التواصل بهدف خلق تكامل معرفي، وهكذا شرع اللسانيون في استعمال مصطلحات التواصل من قبيل (المرسل المرسل إليه السننhellip;إلخ). وبحثا منها عن العلمية حاولت هذه النظرية الاستفادة من مختلف الحقول المعرفية بما فيها علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسبيرنتيكا... بغية تحليل مختلف الظواهر الإنسانية، وتعتبر الظاهرة التعليمية مجالا خصبا لاستثمار مختلف النظريات في هذا المجال.
نحاول هنا أن نقارب هذه الظاهرة من خلال بسط مجموعة من المفاهيم التي تمثل بؤرة عملية التواصل التي يفترض أن تؤطر العملية التعليمية. فمن خلال مفهوم اللغة كأداة تواصل سوف نكتشف دور الفكر في عملية الإدراك. ومن خلال علاقة اللغة بمفهوم المعرفة سوف نحاول مقاربة عملية القراءة باعتبارها نشاطا نفسيا واجتماعيا.ومادامت النصوص هي الحومل الأولى لهذه المعرفة التعليمية سوف نقدم تعريفا بأنواع النصوص والمعايير المفترض اتخاذها في قراءة كل نص على حدة وبالتالي في عملية تدريسها.
1-اللغة أداة تواصل
تفتح معظم المقدمات اللسانية حديثها اليوم على الموضوع التالي: quot;تصلح اللغة لأجل التواصلquot; ويقول لالاند في معرض حديثه عن اللغة: quot;هي كل نسق من العلامات يمكنه أن يكون وسيلة للتواصلquot;، فمن الصعب جدا أن نتخيل تعريفا كاملا لمصطلح لغة دون الرجوع إلى مفهوم التواصل: فكل الخصائص المميزة للوسيلة التواصلية لدى الإنسان نجملها في لفظة اللغة التي تميزه عن باقي الكائنات وتمكنه من التحرر من سلطة الواقع المادي ومن التحكم فيه، وتشكل شرطا لوجوده المجتمعي، بل هي نمط حياته المجتمعية يكتسبها من المجتمع ككفاءة لغوية ويمارسها كإنجاز لغوي. فاللغة تلعب دورا كبيرا في سلوكنا الاجتماعي، إذ لا يمكننا أن نتصور مجتمعا بدون لغة.ويحدد لالاند معنيين للغة: معنى عام ومعنى خاص، اللغة بمعناها الخاص هي كل نسق من العلامات يمكن أن يتخذ كوسيلة للتواصل واللغة بمعناها العام هي وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر داخليا وخارجيا، فاللغة ليست هي الكلام، إنما و وظيفة رمزية تمارس من خلال الكلام ومن خلال أي نسق رمزي آخر غير كلامي ويتمركز هذا الارتباط بين اللغة والكلام داخل الدلالة المعجمية لكلمةquot; لغة quot; نفسها. فهي مشتقة في اللغة العربية من quot;اللغوquot; ويعني أصلا الكلام غير المفيد وغير النافع، ثم الكلام المميز لمجتمع معين. وتحدد اللغة في لسان العرب بأنها: أصوات يعبر بها قوم عن أغراضهم و عبرها تقوم الذات المتكلمة بنقل المعارف والأفكار والمشاعر بشكل قابل للإدراك. فاللغة نسق من الرموز الصوتية التي شاعت وسائل شتى ليتعامل بها الأفراد داخل محيطهم الاجتماعي، من أجل خلق الصلات الاجتماعية فيما بينهم من جهة والمحافظة على المجتمع ذاته من جهة أخرى.
فإذا كان التواصل شكلا من أشكال التبادل كما قال جون دوبوا وعلماء الانطروبولوجيا، فهو الهدف الذي ترمي إليه اللغة أو الأنظمة الرمزية البديلة، وهو النفع الذي تجنيه اللغة عند قيامها بدورها، وبالتالي عندما تقوم عملية التبادل تتحرك معها فورا وبشكل مواز عملية التواصل، فلا يحدث تبادل دون تواصل، وتعتبر اللغة طاقة بشرية مسخرة لاحتواء حمولات معرفية وتخيلية وانفعالية متداولة أو متجددة تشتغل وفق إجراءات معقدة ولا تنشأ من عدم أو تدور في فراغ، ومن تم فالحديث عن كينونتها وعن مفهومها يقتضي الحديث عن العناصر المتماسكة معها مثل علاقتها بالفكر الذي هو صورته المجسدة وهو حقيقتها الكامنة.
2- اللغة والفكر
إن أي فكر إنساني يستتبع بالضرورة استعمال لغة معينة يتم تشكيلها وتكييفها من طرف الإنسان من أجل التواصل بين الذوات، وقد استخلص جان بياجيه في أبحاثه حول لغة الطفل،وحدة اللغة بالفكر، ويصرح آدم تشاف أن اللغة لايمكنها أن توجد بدون وجود فكر على اعتبار أن اللغة هي الوحدة بين الحامل المادي أي نسق العلاقات والمضامين الدلالية لهذه العلامات (ففي حالة انعدام هذا الحامل المادي ينتفي تحول العلامات إلى لغة)، فبدون العلامات اللسانية لا وجود لتحقق واقعي للفكر الإنساني المبدئيquot; إن وحدة الفكر واللغة وحدة عضوية، فالفكر واستعمال اللغة عنصران لا يمكن فصلهما داخل النسق التطوري للمعرفة، وعدم إمكانية استقلال أحدهما عن الآخر بهذا القدر من الاتساع، هو ما يجعل كل عنصر لا يمكنه أن يتمظهر بمعزل عن الآخر، فالفكر واستعمال اللغة يجب أن نضبطهما كمظهرين لنسق واحد: النسق المتجانس لمعرفة العالم وللتفكير وذلك لوجود علاقة بين النسق التطوري العقلي للإنسان والنسق اللساني في عملية اكتساب المعرفة، إذن ما علاقة اللغة بالمعرفة؟
3- اللغة والمعرفة
مثلت هذه الإشكالية مجالا خصبا لمختلف النظريات اللسانية والنفسية ونظريات الذكاء الاصطناعي التي أعطت لها أبعادا متطورة رفعت من شأن مختلف القدرات الإنسانية.وتأسيسا على ما قدمناه من أفكار تهم تلازم اللغة والفكر يمكننا أن نفهم هذه العلاقة الديناميكية في ثلاثة مناحي:
1- كون فعل الإدراك اللغوي لا يمكن تحققه دون وجود نسق محدد من العلامات (أي بدون نظام من القواعد الدلالية والنحوية التي بدونها لا يمكننا أن نتحدث عن نظام من العلامات اللسانية) فأنظمة العلامات المسماة لغة هي الحوامل الأساسية للفكر الذي وظيفته الإدراك.وبهذا المعنى تكون الأطروحة التي ننطلق منها تتجه بنا نحو التأكيد على ملاحظة أساسية هي أن وجود اللغة هو الشرط الضروري لتحقق العلوم (مثل الفيزيولوجيا وعلم النفس واللسانيات إلخ، التي تفسر معنى الفكر-الإدراك.
2- الاستعمال الأساسي لهذه الأطروحة هو أن الدور الديناميكي للغة في الفكر يتعلق بكون اللغة باعتبارها نتاجا معروفا تمثل اللبنة الاجتماعية الأساسية للفكر، فملكة الكلام لدى الإنسان ليست طبيعية إلا باعتبارها اكتسابا للقدرة على الكلام عن طريق التعلم، وهذا الفعل يتم تفسيره بواسطة البنية الجينية الوراثية للذاكرة و الجهاز الصوتي...إلخ، ولكن الكلام لا يتطور بطريقة طبيعية دون تدخل مؤثرات النسق التطوري للمحيط الاجتماعي التربوي، فالإنسان لا يتعلم اللغة فقط، ولكن يتعلم طريقة التفكير، ووحدة اللغة بالفكر من هذا الجانب ينتج عنها تحويل هذه البنية إلى عامل إبداعي في النسق التطوري للفكر الإنساني، ومضمون هذا العامل الذي يشتغل هنا كأساس اجتماعي للتطور الجيني لمراحل النمو الإنساني استنادا على كون التجارب الخاصة بالأجيال السالفة تنطوي على مجموعة من المعارف الموضوعية عن العالم وبدونها لا يمكن للإنسان أن يحافظ على سلالته جنسه، وتجدر الإشارة أن اللغة ليست العامل الوحيد الذي يحدد فكرنا، ولكنه عامل يمارس تأثيرا كبيرا ومهما في ملكة المعرفة.ويمثل الدور الدينامي للغة في نسق الفكر الأساس الذي تقوم عليه ملكة الإبداع الفكري الشخصي.
3- المنحى الثالث لفهم علاقة اللغة بالمعرفة لا يخرج عن المنحى الثاني الذي عرضناه ويتعلق الأمر بتأكيد فرضية تأثير هذه العلاقة على مستوى التجريد والتعميم الخاص بالفكر (وهذا له أهمية كبرى بالنسبة للفكر باعتباره ملكة إدراكية.
إننا نتوخى هنا الكشف عن مظاهر جديدة للإشكالية كلما تقدمنا في بحث مسألة المعرفة بمعنى الفكر الشيء الذي سيمكننا من تناول مسألة القراءة باعتبارها سلوكا وممارسة اجتماعية ونفسية ونشاطا تواصليا، ومن تم التعرف على أنواع النصوص التي تمثل نتاجات إبداعية فكرية وبالتالي معرفية يتم تداولها في ثقافة معينة بما في ذلك تقديمها لعينة متميزة من القراء،هم التلاميذ والطلبة.
يعتبر هذا المنظور متميزا وذو خصوصية كبيرة، وننطلق هنا من اعتبار المعرفة نسقا تطوريا للفكر هدفها وصف الحقيقة الواقعية هذا يعني تبليغ خبر أو معلومة معينة ليس فقط بخصوص مختلف الأفعال ولكن مختلف الترابطات المتنوعة بما فيها القوانين المتزامنة والديناميكية. بحيث يتمظهر الدور الديناميكي للغة بصورة أكيدة.
إن النسق التطوري للمعرفة ملتحم بشكل كبير بالممارسة،وهذا ما جعلنا نبحث العلاقة بين اللغة ومعرفة النصوص المتداولة في أقسام المِِؤسسات التعليمية، فمسار المعرفة يبتدئ في المكان الذي تتمظهر فيه حاجيات الممارسة وبذلك يتم إنتاج قوة تحكم الممارسة المعرفية.
في مختلف الحالات المتنوعة العلاقة بين المعرفة والممارسة آنية، وفي مختلف الدراسات العلمية وخصوصا في مجالها التجريدي والمستقل يمكننا أن نقول إن هناك علاقة جينية وغير مباشرة مع الممارسة وهذا يقودنا إلى استنتاج أحد أهداف المعرفة: إنها تصلح بصورة مباشرة أو غير مباشرة لتحقق الممارسة الإنسانية. ونرجع هنا إلى مسألة هامة تتعلق بإثبات اللغة لتجربة ومعرفة الأجيال الماضية، وهنا يتعلق الأمر باللغة في وحدتها مع الفكر، باللغة باعتبارها نظاما للحوامل المادية لدلالات معينة، باعتبارها قواعد دلالية ونحوية تربط معان معينة بأصوات معينة.ومن هذا المنظور ذاته تملك اللغة تلك الممارسة الكثيفة التي تمكنها من اقتحام معرفتنا الحالية بالعالم وبالأشياء، وبالتالي على طريقة إدراكنا وتلقينا لمختلف الحقائق الواقعية.
وإذا كانت مسألة المعرفة لا تطرح إشكاليات ضخمة عندما يتعلق الأمر باللغة الرسمية، فإن الأمر يختلف كثيرا بالنسبة للغات الأجنبية خصوصا إذا علمنا التأثير الكبير الذي يمارسه الجهاز الإدراكي للغة معينة (المصادر التركيبية والمعجمية ونظام المعايير النحوية التي تحدد نظام اشتغال معجمها) على إمكانية وطريقة تشكيل الأسئلة حول الواقع.
سبق أن أشرنا إلى كون اللغة تمثل الشرط الأساسي لتحقق المعرفة في مختلف العلوم، وهي بذلك تدخل كمكون رئيسي بمختلف علاقاتها مع أنظمة الإدراك في تحديد المعرفة بالنصوص باعتبار هذه الأخيرة الحوامل المعرفية والإخبارية الأولى في العملية التعليمية بحيث أنها مصدر لمختلف المعارف التي يحاول المدرس أن يلقنها للتلميذ باستعمال مناهج علمية معينة، وتعتبر القراءة أحد هذه الميكانيزمات، لأنها منهج يمتلك مجموعة من الإجراءات والآليات التي يستعين بها الأستاذ في تحليل النصوص المدرسية، وهنا يجب أن نقارب القراءة باعتبارها ممارسة اجتماعية ونشاطا نفسيا وبالتالي باعتبارها عملية تواصلية، وقبل هذا لابد من الإشارة إلى أنواع النصوص المتداولة في المحيط التعليمي، وسنركز هنا على النص الأدبي، وتحديد الممارسة التعليمية باعتبارها مسارا فرديا واجتماعيا.
القراءة ممارسة نفسية واجتماعية
بالنسبة للمحلل النفسي فإن اللجوء إلى فرضية بيداغوجية تهدف إلى تطوير القدرة القرائية للمتعلمين، يعنيالالتزام بجعل المتعلمين موضوعا للنقاش وليس القدرات المعرفية التي يحاولون اكتسابها وهذا يقتضي بالضرورة أن كل منهج بيداغوجي يتم اقتراحه يجب أن يلائم الأفراد والجمهور الذي يوجه له ولقدرات المتعلمين، وهذا يعني أنه لا وجود لتعليم دون التوفر على ذوات تتوخى التعلم، وكذلك موضوع يمكن أن يكون مهارة معينة أو معرفة منهجية أو تعلق باللغة أو بممارسة معينة يتم من خلالها اكتساب معارف أو مهارات معينة، إن بناء وحدة منهجية بيداغوجية تهدف إلى تغيير طريقة التعامل مع النصوص المدرسية واقتراح إجراءات وطرق جديدة لتحليل النصوص الأدبية يقتضي أن نتوفر في الآن نفسه على نظرية متعلقة بالذات التي تتوخى التعلم أي نموذج نظري للنسق التطوري للتعلم ولمفهوم معين للقراءة وخصوصا النص الأدبي يعني نموذج لفهم العلاقات المحتملة بين الذات القارئة والنص الأدبي.
فكل فعل قراءة هو إدراك أي منح معنى معين للمقروء، ذلك أن الموضوع المدرك هو مجموعة من المعلومات المنتقاة والمبنية حسب الحاجيات الخاصة بذات معينة في وضع معين.والقراءة فى المستوى النفسي هي نشاط نفسي تنغمس فيها الذات باعتبارها وحدة عقلية وفيزيولوجية وفكرية وعاطفية.
إن هذا الفعل يمثل بالنسبة للذات القارئة عملية رصد وانتقاء مجموعة من الإشارات على مستوى النص وربط مجموعة من العلاقات فيما بينها و تنظيمها، وكل هذه العمليات التي تقوم بها الذات القارئة تشتغل فيها البنيات العقلية والمعارف المختزنة لديه والأدوات الإدراكية تساهم بدورها في هذه العملية. هذا يعني أن الذّات القارئة تتبنى استراتيجية معينة اتجاه نص أو مكتوب معين بحيث يشغل مختلف الوسائل المعرفية التي يملكها حول اللغة التي كتب بها النص والأخبار المتعلقة بالعالم الاجتماعي الذي يطابق المرجع الذي أنتجه النص ومختلف الأمور الأخرى المتعلقة بالنوع الذي يرى القارئ إمكانية تصنيفه فيه، ويميز كوست بين مقاربتين في هذا الصدد تسمى الأولى quot;سيميولوجية اجتماعيةquot; وتنطلق من العلامة نحو المعنى ومحاولة استخراج الإشارات وربطها بالمجال المرجعي. والمقاربة الثانية يسميها quot;إسمية اجتماعيةquot; وتتجه من المعنى نحو العلامة لإضفاء معنى على النص انطلاقا من الاهتمامات والتجارب والمؤهلات المعرفية الخاصة بالقارئ. ومثل كل نشاط إدراكي تعتبر القراءة ممارسة دالة: فهي تعيد بناء المعنى في انتظار قيام القارئ بعملية التأويل.
باحثة مغربية
التعليقات