عبد الجبار العتابي من بغداد: حين اهداني صديقي الشاعر مجموعته الشعرية الجديدة، رحت على الفور اقرأها، وخلال ساعة كنت قد اتيت عليها، واكثر ما اثارني فيها انها لم تضع بين قصائدها قصيدة غزلية واحدة، بل.. لم أر للمرأة فيها مساحة او بحبوحة ولو كمحطة استراحة، ولا للقلب النابض بالحب، بل كانت المجموعة عبارة عن (ترجيعات عقل) تذهب في تضاريس الحياة جميعها وتتوقف في محطات حياتية لم تكن المرأة حاضرة فيها، اعدت قراءة المجموعة من جديد، كانت تسكب على عيوني كلمات تصعد الى الرأس وتجعلني اتأمل وابحث عن معان ومرادفات، وأشكل صورا تأتيني في ثياب مختلفة يعتصر بللها الرجال وهم يتراكضون في الارجاء، ويحملون اشياء عديدة الا الورد الذي يهدى الى المحبوبة، لا اعرف لماذا في تلك اللحظة زارني وجه جميل ثم بيت من الشعر لابن الفارض يقول فيه (الهميني الهوى كروحك طهرا/ وصفاء، أهز قلب الدراري)، ورسمت البيت على ذلك الوجه وتوجست خيفة من انني اهذي، وانا في هذه الحالة، رحت اقلب بالريموت القنوات الفضائية وفوجئت بمصادفة عجيبة، فقد ظهر لي عبد الحليم حافظ وهو يغني: (بحياتك ياولدي امرأة عيناها سبحان المعبود، فمها مرسوم كالعنقود، ضحكتها انغام وورود، والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا)، تذكرت معها الراحل نزار قباني، لكنني لم اقل شيئا!!ِ
وبعد ساعة وجدتني اكتب: قليل.. هو شعر الغزل في وقتنا الحاضر، الغزل الذي لا نعني به بالتحديد ما كان عليه عمر بن ابي ربيعة الذي غرضه التشبيب بمفاتن الحبيبة، بل الترجيع لصدى هذه المفاتن الذي عمقه القلب العاشق الذي تصدر عنه الترجيعات بقوافل من الحب والغرام، قليل جدا هو شعر الحب ان اردنا التوضيح اكثر والاقتراب من لب الموضوع، حد انك اذا ما طالعت الصحف والمجلات الادبية والمجموعات الشعرية التي تصدر هنا وهناك لن تجد منه الا القليل مما لا يشبع العاطفة والذي يمر من عينيك مرور سحابة بيضاء مغلفة بالغموض، وان كان هناك فهو اشارة مقننة في اعلان عن المرأة ورسم ملامح غير واضحة من فعل المحبوب، وقد حاولت ان اتلمس الطريق اليه من خلال البحث عنه في قصائد الشعراء العراقيين والشاعرات وما ينشرونه فلم تستوقفي الا قصائد قليلة مشبوبة بالعاطفة لامرأة ما او رجل ما لكنها بعيدة عن الصورة الغزلية المعروفة او مجرد خواطر رجالية.
من هنا وجدتني ابحث في آراء المعنيين عن اسرارما يحدث لشعر الغزل الان من اهل الشعر والنقد وقفت اولا امام الشاعر عارف الساعدي، وحينما ألقيت عليه سؤالي حتى قال متسائلا: (شعر الغزل؟ لقد نسيت شيئا اسمه شعر الغزل والان انت ذكرتني له!!)، لكنني عدت لأسأله: لماذا؟ فاجاب قائلا: (شعر الغزل من الممكن ان يعيش وينمو في وسط غير الوسط العراقي، ولكن ياصديقي نحن عشنا اجواء عجيبة غريبة من الحصار والحروب، نحن جيل انجبته ثلاث حروب وخرج منها ورماد المعارك ما زال يغطي رؤوسنا، فمتى تأتي نسمة هذا الغزل)، واضاف عارف: (هناك قصيدة حب رغم هذا الرماد والدمار من الممكن تلمسها في بعض قصائد الشعراء الشباب العراقيين ولكن قصائد الغزل باهتة اللون والغريب ان حتى من يكتب الغزل لا يحظى بالذائقة العراقية هذه الايام).
تحولت من عارف لأضع السؤال ذاته امام الناقد الادبي علوان السلمان فقال: (لا نستطيع ان نقول (انعدم)، لأن الاغراض الشعرية ثابتة، ويكتبها الكثيرون ولكن هناك شحة في الكثير من الاغراض وليس الغزل فقط، واخص منها المدح والرثاء بسبب الظروف التي يعيشها الشاعر العراقي لانه صاحب العين الثاقبة والمعايش للواقع، هناك العديد من الشعراء الذين كتبوا الغزل الذي يعايش الواقع، فمنهم من يصف شعر حبيبته ووجهها وقامتها لكنه يقرنه دائما بالطبيعة)، لكن السلمان وجد نفسه يستدرك قئلا: (لذا ندعو من شعرائنا وقصاصينا وادبائنا الاهتمام بهذا الجانب العربي للتخفيف من حدة المعاناة، علما ان الرواية والقصة تتخذ من هذا الجانب عنصرا تشويقيا فقط دون تخصص في الكتابة، أي كتابة القصة والرواية التي تهتم بالجانب العاطفي الذي يشكل جزء هاما من البناء الانساني الذي نعيشه)، واضاف علوان: (نحن الان بأمس الحاجة للكشف عن كوامن انفسنا لاننا نمتلك العواطف الحارة تجاه الجنس الاخر، لذا التخصص والابداع في كتابة قصيدة غزلية اعادة لهيبتها التي كانت عليها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حتى ان الكثير منها ما زال يتردد على الشفاه ويبحث عنه العود لتقديمها الحانا والشاهد على ذلك قصيدة (اناوليلى واشطبوا اسماءكم) فالشعر الغزلي له مكانة لا بد ان تستعاد.
وحين كنت في اتحاد الادباء فقد وجدت الفرصة سانحة لكي استطلع بعض الاراء، قلت للشاعر ابراهيم الخياط: اين شعر الغزل؟، رفع نظره الي مستغربا، ثم قلت له: اين شعر الحب؟ فقال بعد ان تأمل هنيهة:(الحب هو الرد الانسب ضد الحرب والارهاب والقتل وكل ما هو قبيح ولكن بعد ان عم الخراب طوال عقود في تربية النشيء العراقي وبعد ان سيطر الدم خلال العقود الاخيرة حتى اصبحت العرائس في العراق ترتدي الحرير الاسود وبعد ان ولد اغلب ابناء العراق يتامى، من الصعب بمكان ان نمتهن الفرح ولكن كما يقول ناظم حكمت (اجمل القصائد هي التي لم تكتب بعد)، واضاف ابراهيم (ان الخراب الذي لحق بالمؤسسات الثقافية وغيرها مع الخراب المستوطن في النفوس لا يساعد على اشاعة الحب، ثم ان الحب مهنة ولكنها بارت عند شعرائنا بتقصير اول منهم قبل الاسباب اعلاه لانهم لايدرون انه اقوى من الموت اليومي في العراق، ثم سألت الشاعر ياس السعيدي السؤال ذاته لكونه من الشعراء الشباب، فقال: (توجد محاولات لدى اغلب الشعراء العراقيين، وربما انك لا تجد مجموعة شعرية عراقية لا سيما للادباء الشباب تخلو من هذا الشعر، طبعا انا هنا اتكلم عن الاغلب الاعم، لكن شعر الغزل لم يعد كما كان اذ دخلت فيه اسس جديدة صاحبت التطور الذي رافق القصيدة العربية عموما، يعني لم تعد القصيدة الغزلية مباشرة، هذا الجيل الجديد من الشعراء شعر ان المباشرة تسيء الى الشعر ولهذا اصبحت قصيدة الغزل كغيرها من القصائد ليست مباشرة وفي الوقت نفسه ليست معادلة كيميائية صعبة الفهم).
ومع وجود الشاعر البصري منصور الريكان في بغداد فقد حملت اليه السؤال بحثا عن اجابة تستكمل اجابات الاخرين، فقال منصور: (السبب في قلة شعر الغزل وعدم انتباه الشعراء اليه يعود الى الوضع الحالي والغزل يحتاج الى نفس معين لكي يعطي المكونات الحقيقية لهذا الادب الرومانسي لكون العراق عانى من مشاكل، هذه المشاكل جعلته بعيدا عن قصائد الغزل وشعر الحب، وهذه مرحلة وحسب اعتقادي عندما تهدأ الظروف وتكون افضل سيكون لقصيدة الغزل وهي لابد منها ستكون الاساس) واضاف منصور: (هناك نقطة اساسية اخرى هي ان قصيدة الغزل لا يكتبها أي شاعر وانما هناك تخصص كما ان محاولة كتابتها تحتاج الى طقوس خاصة).
وواصلت سعيي بحثا عن اجابات وها هو الناقد الادبي بشير حاجم يدلو بدلوه فقال: (ان كان المقصود بـ (شعر الغزل) ذلك المصطلح القديم الذي كان متداولا في النقدية العربية القديمة فانه قد انتهى من قصائد الشعراء منذ ظهور اولى الحركات (الرومانسية) في الشعر العربي لاسيما التجديدي منه، اما ان كان المقصود به هو (شعر الرومانسية) ذاته فأنا اعتقد انه لم ينته بقدر ما انه بات، ومنذ بضعة قرون، يتجدد شيئا فشيئا منذ نشوء حركات التجديد في الشعرية العربي بدء، وفي الاقل، بحركة (الديوان) التي كان لها تأثير واضح وملموس على بدايات الشعر العربي الحديث وهي البدايات التي افاد منها (دون ريب، كل من بدر شاكر السياب (هل كان حبا؟) ونازك الملائكة (الكوليرا) في ريادة شعر التفعيلة او ما يصطلح عليه بـ (الشعر الحر)، عموما فان (شعر الغزل) بمصطلحه اللاحق (أي: الشعر الرومانسي) لم ينته في القصيدة الحديثة كـ (ثيمة) وان كان وما زال يرتدي اشكالا متجددة في الاسلوب والبناء والمضمون).
* تلك هي حكاية شعر الغزل الان في العراق كما قيلت على ألسنة المعنيين، وهم نخبة من اهل الشعر والنقد، ولكن ثمة اسئلة كثيرة راودتني وانا اكتب الموضوع مثل: هل يمكن للشاعر صاحب الاحساس المرهف ان لا يطل من نافذة شعره على قلبه ليرى على نبضاتها صورة امرأة هي محبوبته، وكيف له وهو الشاعر ان يخاطبها؟ الا يشعر بالاسى حينما لا يغازلها بكلماته الرومانسية ام انه يفعل ذلك في السر ولا ينشره على الناس؟ ربما.. لا اعلم!!.