العراق لم يحقق استقراره وأدبه العالي الحديث، عدا شواهد نُدُرى، لا في عهود حكم وطني، ولا في عهد احتلال. ثمة اختلال. مثقف يتأمل هذه الظاهرة ماذا يجد؟ قبل تعليق المشكلة بمشجب في الخارج يتبين ماذا كان في الداخل. الفشل في عهود متباينة يدل على أن عقلية سائدة، بتنويعات مختلفة، لمثقفيه وسياسييه خاصة إلاّ بعضَهم، عقلية متحزبة لكل شئ، إلاّ الالتقاء المثمر مع النقيض، كأن الإلغاء أو الاقتتال طريق أوحد لتحقيق أهداف وخروج من أزمة، كانت وبالا عليه، تلك العقلية. زد عليها يقول الواقع، الأحداث، عقلية جيران لهم نقائصهم أيضا، لا أحد كامل، اشتبك العراق معهم في صراع عقيم، عانى من محاصِرِين، ثم محتلين، شاركت عقليتُهم أيضا بعنجهية في رمي العراق إلى الكارثة.
سهل قول يجب على الجميع التحول إلى ملائكة، لتجنب الصراع والمآسي، سهل قول يحتاج العراقيون منهجا جديدا للتفكير والتدبير لاخراجهم من محنتهم المستديمة، منذ تكوين الدولة العراقية الأولى بدايات القرن الماضي، إنما يطرح فشل تفكيرنا ومناهجنا القديمة حتمية ظهور مناهج جديدة، بل منهج موحِّد، طالما مشكلتنا عامة، يؤطر المناهج الخاصة لكل منا. يعقب تساؤل: ما هذا المنهج الموحِّد الجديد؟ في التمهيد للتساؤل رد خفي، هو: أن المنهج الجديد يقتضي الالتقاء مع النقيض. لكن ما حدث حتى الان أثبت هذا غير ممكن. لماذا؟ سابقا ولاحقا يفكر كل منا في محاولة صياغة منهج جديد (بمنهجه الخاص القديم مجددا) خاضعا لنفس التأثيرات القديمة، فيعود مجددا إلى برنامج حزبه أو طائفته، المعلن أو الخفي، ويتكرر نفس القول على مسامعنا: كيف الخروج من النفق؟ ما دور المثقف هنا؟ مع تغير التوقيت. هكذا نظل نراوح في أماكِننا، وبلدُنا ينتقل من حال سئ إلى أسوأ. التساؤل التالي: هل يمكن تفادي كارثة منتظرة أكبر؟ الجواب: لا، إذا بقينا تيتي تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي. والجواب أيضا: نعم، إذا تمكنا من تغيير تفكيرنا، ارتباطاتنا، شروط وجودنا، لخلق تفكير جديد وصياغات جديدة للعمل، تخلق تكوينات جديدة لنا، مع تحالفات جديدة.
طبعا أي واحد منا قد يقفز على كلماتي هذه، يفكر، معلوم ما يريده برهان، يريد المستحيل: أن يعود الجندي لثكنته، المعمم لمسجده وجامعه، الطالب لجامعته، والسياسي للثقافة، الوطنيون في جبهة واحدة. كل هذا غير ممكن الآن. لأن الكل ضد الكل حاليا. على الأقل دفاعا عن النفس. للكل التزامات داخلية، وخارجية، لا يُمكن التزحزح عنها. هنا يبرز للمثقف المستقل، المراقب من زاويته، كعين لأمة منكوبة، يبرز دور لتصحيح مسار اعوجَّ حدّا جعل المواطن يوجه فوهته نحو رأسه، نحو رؤوس أهله. نعم يختلط حديث الثقافة هنا بحديث السياسة، لا مفر من هذا، رغم كراهيتي لهذا الخلط. رأيتم بأعينكم مثقفين، منهم صحافيون، أكاديميون، رياضيون، كتاب، تم قتلهم. أي منا على اللائحة. قلة فازت بجوائز شعرية وفنية. إذن الثقافة في المعمعمة. أدى اندغامها في وسطها إلى ضياع بالقتل حينا، كما أدى فصلُها عن وسِطها حينا آخر مع مثابرة إلى فوز للأدب ولأديب. هل يعني هذا علي المثقفين هجر الحياة العامة لينجوا؟ ينكفئوا على أنفسهم كي لا ينطفئوا؟ إذا التزموا الفعالية الاجتماعية ماذا هم فاعلون، ما قولهم، ما فصلهم؟ قول قد يكلفهم حياتََهم رأينا، نقيضه هجر الحياة العامة، لكن هذا نكوص، تقصير، محدال كما يقول أبناء عمومتنا، لا يريدونه لأنفسهم؟ نحن أيضا لا نريده لأنفسنا.

قبلت دعوتكم مغامرا..

نكوص الفرد، المثقف، بعضه يدخل في نكوص فكري عام مؤقت لأمتنا العراقية، وأنظمة عربية. لا بد من فعالية المثقف إذن على كل الأصعدة، فردية واجتماعية، وقت الأزمة في الأقل، ليثبت وجوده على أي صعيد. كل الأصعدة تداخلت، فرزها وترتيبها من جديد مطلوب لنجاة الجميع. هذه سفينة تغرق يا ناس، لا طوق لأحد سوى مثقوب، فإما ضياع في بحر وإما تضافر جهود لايصالها إلى بر.
حلو الكلام بصور، خاصة أدبية، فنية، تستوعب المنظر، وتشيح عنه في آن، متنصلة عن ثقله. أي واحد مر بمكان رسمه أحد الفنانين الانطباعيين لا يراه بجمال اللوحة التي خلدته وخلدت. أنا شبه متأكد واحد منكم يفكر الآن لماذا لا يستبدل برهان لغة الصور بلغة عزيزه العلم ويرد سريعا شافيا، ما دور المثقف في الوضع العراقي الراهن، لنقارن بين ما يفكر فيه هو وما نفكر نحن فيه، لنشوف مين منا أذكى وأشطر. أجيب: لا يوجد رد صائب وآخر خطأ هنا، ولا رد ذكي وآخر أقل ذكاء، يوجد رد جزئي شُللي أو شَللي، وآخر أعم، وطني. ذاتنا الكبرى مرجعيتنا تهشمت مع تهشيم دولِتنا العراقية. لذلك تكلم كلٌ على هواه متأبطا الصح والخطأ الذي يراه مرجعية. هكذا سوف تسمعون كلامي طيبا أو منفرا بقدر اقترابه أو ابتعاده عن افكاركم.
قبلت دعوتكم للتحدث مغامرا بتحول ترحيبكم إلى استهجان لو باعدنا الفهم. هذا شأن آخر ليس لب موضوعنا، الذي هو ماذا علينا أن نفعل نحن المثقفين؟ تحقيق ولو حد أدني لاستقرار بلدنا، بالتالي نمو لنا ولثقافتنا. البعض لا يريد الاستقرار، يريد تقسيم البلد، خفية أو علانية، يرى التقسيم خطوة نحو استقرار، فنطازيا أراه، لأن حياة هذا البعض يجب أن تكون كحياة نوح ليرى الاستقرار. لماذا الكلام إذن و كلٌ حدد الصورة النهائية لنفسه وجلس في مقعده متسلحا بعقائده يحرسها من متطفل؟ الكلام سمة للبشر، لذلك نواصله.

مؤسسات الثقافة العراقية، اتحاد أدباء، نقابة صحافيين، وزارة ثقاقة، صحف ومجلات، مؤسسات إعلام، أخيرا مجلس ثقافة انهار قبل أن يبدأ، كما توقعت حين رفضت دعوته، كل هذه كيانات تتعامل مع الثقافة ولا تنتجها، لذلك لا دور لها سوى كواسطة نقل للثقافة. نعلم كل الوسائط معطلة الآن، بسبب فشل المصالحة في العراق. لكن، لماذا لا تنجح مصالحة بين الأجنبي والقاعدة، ربيبته وحليفته في افعانستان؟! المصالحة في العراق متعثرة بل متعذرة لرعايتها بغير حكمة، رعاية خبّصت اربع سنوات ونيف وما أنصفت، ليت الامتناع عن إعدام وزير دفاع النظام السابق يكون فاتحة لها. (الكثيرون) يبدون حرصا نعم على الوطن، إنما تبدو حتمية الفشل ظاهرة مع تخلي أطراف وطنية إلاّ القليل منها عن وطنيتها، استبدلتها بالطائفة، بأممية لم يعد لها معنى ايجابي، بقومية آرية بطلت مودتها، تخلى سادة عن التأريخ لصالح الجغرافيا، بعد التخلي عن الجغرافيا، عن البيت العراقي مفهوم، يأتي التخلى عن السراويل الداخلية.
اتكلم عن تأريخ وجغرافية بلاد الرافدين طبعا، آخر انفصالي يفكر الآن: لا والله، أنا ما تخليت عن تأريخي ولا عن جغرافيتي، هما غير تأريخك وجغرافيتك. كلامه باطل أو فاضل؟ يختلف على هذا الكلام ابن الوطن وعدوه، الوطن أيضا هنا سوف نختلف على تحديده، هذا يقول من زاخو، ذاك يقول من كركوك، آخر يسكتهم بل حدوده بحدود حسابي في البنك. لذلك ما ترك شيئا إلاّ لطشه. سرق حتى نفسه. النتيجة تتضح أخيرا، بل بدأت تتضح. عند تعارض جغرافيا وطنية مع جغرافيا قومية، تتحرك الأراضي المجاورة، يتسع الزلزال، تتحرك جغرافيا المنطقة برمتها، منطقتنا. الأسباب التي أدت لظهور الدولة العثمانية، حاضنتنا قديما، ما زالت فاعلة، تتجدد، سكة حديد الحجاز بين ستانبول والمدينة يُعاد لها اعتبار، طريق الحرير تنشط، قد يمكنها تلك الأسباب دفع دولة جديدة حديثة إلى الوجود، بحجم القديمة، خاصة اجتازت تركيا أول وأكبر تجربة ناجحة ديمقراطية علمانية عملية في هذا الجزء من الكوكب، تجربة استوعبت الماضي والحاضر، إذن اندماج الأجزاء مجددا وتطور المنطقة ككل، عوض خرابها ككل، محتمل. هنا تتخذ العثمنة الجديدة بنظر متعَب ابعادا تقدمية وطنية أيضا، لكل المنطقة، مع احتمال أن تكون وطنيتها اليوم في تضاد مع العولمة، وقد تنتصر عليها. الروس تحركوا. وطنية الصين الشيوعية انتصرت على عولمة الاشتراكية العالمية، كذلك على عولمة الرأسمالية. لكن لو نجحت الصين في امتحانات الماضي لا نعلم كيف ستجتاز امتحان المستقبل، نجم غورباتشوف جديد يصعد فيها بالمناسبة. في مقابلة أو مواجهة كهذه تتغير التسميات والمعاني، اليسار، اليمين، لمن وقف هنا غيره لمن وقف قبالته هناك. التطرف الذي سبب هذا الوضع يخلق تطرفا على الجهة المقابلة. لو تم اتفاق على فوقانية الدولة على الاطراف يدخل أي طرف في لعبة تعزيزها ضد أي يقامر لهدمِها. بكلمات أخرى لو رضي المتدينون أن يكونوا سلطة معنوية، كما هم في الواقع حقا، كأسقف الكنيسة الروسية، كملوك التيجان الاسكندنافية، ليذهب رئيس الدولة إلى الممثل الروحي، الديني، الصدر مثلا، أو الملكي، لا بأس، للحصول على مباركة حكومة واستشارة، هكذا نخرج من حتمية مواجهة داخلية بين قوى وطنية متنوعة الانتماءات والاهداف.

محرقة ليابس وأخضر

لقد صنع التطرف الذي أسس لقانون الاجتثاث من حزب البعث المتسلط قديما ضحية بل ضمير مقاومة، ضمير وطن حاليا. البعث يتجدد. في هكذا ظرف يصبح خيارا لمثقف مأزوم قبول معلوم قريب، عوض مجهول بعيد، قد يرحب حتى بتركيا لا في شمال العراق فقط بل وفي عمومه، ما دامت أخوّة عثمنة تقدمية حديثة مرشحة لحماية المنطقة من تهديد وقوعها تحت سيطرة أبناء عمومة، زد العراق مهدد لا بتقسيم فقط، بل وأيضا من نظام جار، من إيران، أقل تقدما ومرونة من تركيا.
هكذا ترون السؤال مَن يدير المنطقة في المستقبل مطروح رغم أنف المثقف. دوره في الوضع الراهن باعتباره مساعدا على تهدئة وبحث عن حلول سلمية لأزمة متفاقمة، بسبب ساسة ينظرون الى المستقبل بعيون الماضي، هذا الدور المسالم يتم تجاوزه من الجميع. تسمع حتى لو جنح الوطنيون إلى سلم والمثقف معهم فإن الأجنبي يريد مواصلة إخضاعهم بقوة تنفيذا لأجندة، رأينا بعض فصولها حتى اليوم. ذلك يعني لا يبقى للطرف الوطني غير الخضوع، أو مواجهة القوة بالقوة مع الأسف، هذا العام رغم عدم انتهائه خسائر الأجنبي في العراق أكثر من خسائرها العام الماضي، فلا دور لأديب ومثقف هنا يريد لعب دور حمامة سلام، الحمام يطير من طَرقة خلب، فكيف والطَرَقات الآن طلقات حقيقية تهيئ محرقة ليابس وأخضر.
يبقى لمثقف في هذا الحال مواصلة شتم الجميع، ليثبت أنه أفضل منهم، أو يسكت ليجب الغيبة عن نفسه، أو ينزل إلى معركة لا يريدها مرغما إذا كانت لديه شجاعة اللورد بايرون، أما الانتحار احتجاجا على ما يراه فيبقى ترفه الأخير، خاصة إذا لم يحصل في حياته على ترف.
الحديث عن موقف متجانس لابناء الرافدين مبكر الآن، كالحديث عن دور متجانس للمثقف في الوضع الراهن، بعض المثقفين اندمج في مؤسسات وحركات أثبتت التجربة فشلها، بعض آخر يراقب ويحاول الاستفادة، هذا لا دور له، وبعض منخرط في بحث عن حلول لأزمة البلد، الانخراط هذا حتمي لذي عقل لا يهدأ، لا يمكن فصل حال الثقافة ذكرت عن حال البلد عموما. أنا لم أتمكن من نشر أيا من الأعمال الخمسة الجديدة عندي بسبب الوضع، بسبب استقلاليتي، بسبب الفوضى الضاربة أطنابها في الأرض العراقية. أحدهم قال لي لماذا لا تنشر في أربيل، قلت: لبنها في بغداد صعب وصوله، فكيف بأربيل نفسها. طبعا ضروري النشر في مكان محترم. لو كان الوضع طبيعيا في بغداد وخارجها تم النشر سلسا من زمان. المهم، لو تجاوزنا المثقفين الفاشلين والمتفرجين إلى الفاعلين في الاتجاه الصحيح، سيقال هنا ثمة اكثر من اتجاه صحيح، انقاذ العملية السياسية الراهنة؟ استبدالها بأخرى وطنية؟ في ظل أو بعد خروج المحتل؟ أم الابتعاد عن كل نشاط في ظل المحتل؟ هذه أفكار فاعلة، شئتَ أم أبيتَ، عليك غربلتُها واختيار النافع منها للاستقرار، أو الفوضى. فما هو رأيكم ورأيكَ يا متحدث بما يجري، قل لنا وخلصنا، اتعبتنا!
طيب، الذي يجد صعوبة في التفاعل مع كلامي، ونحت موقفه ثم موقعه، يريد ردا على طريقة محققين، أجب بنعم أو لا. إذن أقول: يجب تغيير الواقع السياسي يدويا، إذا لم يتغير اتوماتيكيا، تلقائيا. وما تغير. أي بقرار من الاحزاب الحالية الواعية بوصول إلى طريق مسدود، أن عليها تغيير اتجاهها 180 درجة ربما للخروج من الزقاق المأزق. كذلك الشخصيات المستقلة. تماما كما كنا مزجوجين في زقاق الدكتاتورية وتحتمت حرب للخروج منها، نحن الان في زقاق آخر مسدود. مرة أخرى أقول، كما كتبت قبل الحرب، إذا لم تتكاتف القوى الوطنية لاخراج عربتِها من الزقاق، والانتقال بها الى أمام، هشمها الأجنبي مرة أخرى، وأناب عنها عربتَه، الهمفي أو الهرفي، غيرها، ليستمر تدفق الحركة، الناس، النفط، والمال. إذن لا بد من حركة وطنية تأخذ زمام مبادرة. حركة تشمل جميع من أخلص للوطن، وآثره في هذه المرحلة المصيرية على مصالحه الخاصة. حين يشتعل بيتك لا تفكر بغرفتك فقط. لنكن واقعيين حقا، نبدأ بداية صح، اعتمادا على خيار وطني، ليغير الشيوعي اسمه إلى حزب العمال أو العمل، البعث إلى حزب الوسط، لينتظم الليبراليون في حزب أحرار، المتدينون في حزب محافظين. لطائفة برنامج سياسي، إذن لتنتظم وتتطور سياسيا، بدل محاولة تنظيمها السياسة عامة ضمن حدود طائفتها فتضيق به ويضيق بها. هكذا يكون لكلٍ برنامجُه السياسي، ثم، لتتحد الطليعية منها في جبهة أو جناح، المحافظة منها في جناح آخر، وليحلق الوطن في سماء إرادته. لتكن انتخابات فورية جديدة. يصعد مَن يصعد إلى الحكم، يبقى الأخو المتخلف يُعين ويُعان على تجاوز محنة البيت. فرقة اطفاء، مخابرات، جيش، شرطة، قضاء، مستقلة مئة بالمئة.

المواضيع الأساسية

مثقف قد يقول ما شأني بهذا، دع الساسة الذين ورطونا في هذا الحال يخرجونا منه، خليني في زاويتي أحافظ على ما عندي، انتظر مغنما، جائزة غير موعودة ولا موؤدة، قد أقول كلمة غير مناسبة ويطير كل شئ مني، حتى ما بين يديّ وساقيَّ، شيء لي بهذي الورطة، السكوت من ذهب فعلا في هذا الحال. لكن، إذا كان ضميرُه قويا، وألمُه على أمته حقيقيا، لا يستطيع السكوت. هل يستطيع محترق السكوت؟!
حركة وطنية جديدة تخلق وضعا جديدا، يُحفز من له مصلحة في المنطقة لاستيعابها، ساعدونا نساعدكم. هذا من منطق الأشياء. لكن، قبل هذا يجب تبلور هذه الحركة الوطنية في كيان ملموس، كيف هي؟ جبهة؟ جبهتان كما قلت؟ مَن يقود؟ حزب جديد تماما؟ اجتماعي ديمقراطي كالسائد في أوربا؟ ما اهدافه القريبة والبعيدة؟ هل حقا تستطيع الوجود هذه الجبهة أو الحزب؟ ما أساليب الوجود؟ الأسئلة لا تنتهي. لو حاول مثقف الرد عليها، باعتباره لا يستطيع ايقاف المخمخة، يرى أمامه ظروفا مناسبة لنشوء هذا التكوين. أربعة مواضيع اساسية أمامه كافية لخلقه. 1 موقف عام رافض التقسيم، 2 موقف عام رافض تبديد ثروة النفط، 3 موقف عام رافض للمحاصصة، 4 موقف عام يطلب في النهاية رحيل الأجنبي ومعه طائفيته، دع عنك أهدافا أخرى دائمية لا تقل اهمية: تحقيق الأمن، توفير الخدمات، الرفاه. ماذا تريدون يا ساسة أكثر من هذه الأهداف الواضحة لشن حملة محو الأمية السياسية بدءا من دياركم، التي مرمرتنا بل دمرتنا؟ طبعا بعض القوى ما يصرف لها هذا الكلام، لأنها معلقة من ياقتها بيد عملاق، عمله كسكلوب وحيد العين كأهله صناعة الصواعق واسلحة الآلهة، هذي القوى لا تتمكن المشي في اي اتجاه، معلقة، في هذا الحال يجب محاورة العملاق ليطلق سراحها، ليتحرر الجميع من المشاكل، بل ويشتركوا ويقيموا وليمة صداقة حقيقية، ليست كوليمة السيكلوب التي انتهت بفقء عينه، يعدوه بأن يكون عندهم ضيف شرف، على حدود المغارة، طالما عدنا إلى عهد المغارة، شرط لا يتدخل في شئون الداخل، يخلق فوضى جديدة، لكن له أن يحمي نفسه ويحميهم من هجوم خارجي مجاور. للجوار خلق وقلابالق أخرى منتظرة. لو عاند العملاق ورفض الاقتراح يفكر الوطنيون أهل المغارة، المتحدون مع مصائبهم، بأساليب أخرى للتخلص منه، لن تكون في صالحه طبعا ولا في صالح القوى المرفوعة بقدرة قادر، ليس في صالح أيٍ.
أهداف الحرية والانفتاح لصالح كل الخلق، لو أُخذت كل المصالح في الاعتبار، المغالاة والاستئثار بتطبيقها ليس في صالحها، خلقَا اعداء لأم الحرية أكثر من اصدقاء. كأن إدارتها الحالية تعمل ضد مصلحتها، يا للعجب. بل وقديما.. بالتعايش السلمي أرادوا مصالحة معها. تحول التعايش إلى دفن تجربة، ليست مثالا، لكنها افضل من مومياء قيصرية يحاولون عبثا إعادة حياة لها. نظام عقلاني أو شبه عقلاني أفضل من لامعقول ومجهول بدأ يهدد أم الحرية، ويتنكر لخلق، من أهلها، كما في العراق، حين أزاحت أم الحرية هذه حزبا علمانيا قريبا لتفكيرها وأحلت محله ملوك طوائف بعيدين عنها. العراق ساحة اختبار.
نحن نتأخر ليس فقط بسبب الخارج، بل بأسباب من داخلنا. معارفنا لم تؤرشف ولم تحول إلى قاعدة معلومات لنا، لا لآخرين. مَن ينضج وعيه يُلغى. لأسرع في تلخيص حكايتنا، حقيقة العصر لو شئت دقة. حكاية منطقتنا، بل العالم، المعاصرة، تتلخص في أنه بعد الحرب العالمية الثانية، في ظرف أول حرب باردة، تبلور معسكران، الرأسمالي الغربي، والاشتراكي، شرقي، بقيادة السوفيت، تنازعا السيطرة على العالم، حاول الغرب بحلف بغداد المفصلي تطويق الدب، المعسكر السوفيتي. بثورة 14 تموز 1958 العراقية تم كسر الطوق ورجحت كفة السوفيت.

قطب أو عدة أقطاب؟

تحولت الحرب الباردة إلى حارة في بعض المناطق، افريقيا، اسيا، امريكا اللاتينية، كان لابد من استعادة بغداد ونفطها لترجح كفة الغرب مجددا. بعد تأميم نفطها واتساع تأثيرها بالبعث أصبح لابد من ضربها لاحتوائها مع المنطقة. ضربة من ايران، ومن الكويت تارة أخرى، وحصار، لم تنفع. البعض هلل لسقوط السوفيت واعتبره تتويجا لظهور عالم قطب واحد، دون أن يعلم ربما أن السوفيت بالبريسترويكا المهيأ لها قبل سقوطهم، أرادها عسكرهم لنفي الإلحاد عن دولتهم تمهيدا لاقترابهم إلى مياة الخليج الدافئة على محورين عربي وفارسي، وكان لهم ذلك، هكذا عادت روسيا وريثة السوفيت أقوى إلى المنطقة في ظرف حرب باردة جديدة، موضوعها هذه المرة ليس مَن يسيطر على العالم، بل هل يقاد انفراديا من الغرب؟ أو بمشاركة مع الروس وأمم أخرى؟ هذا الظرف يعطي بغداد ممثلة بمقاومة ومتعاونين مع الغرب قدرة على مناورة لدفاع عن مصلحتها الخاصة: لا أنحاز سوى لنفسي، لا أنحاز لغرب أو لشرق، سوى بمقدار احترامه لمصالحي، هكذا ينبغي ان يكون شعار بغداد، تحقيقه يعتمد على مَن أقوى من طرفي الصراع الداخلي، المقاومة أو الحكم؟ أو على تفاهمهما للخروج سوية بأقل الخسائر للطرفين بل لكل الأطراف، للعراق عموما.
ناو، كما يقول أبو ناجي، مرة أخرى، ماذا يتمكن أي واحد منا نحن المثقفين أن نفعل لنمونا، لدرء خطر أكبر منتظر. الدور الطليعي للمثقف في قيادة مجتمع تراجع، يصبح أقل من ثانوي. الذي أسكت المدافع ليعلو صوت الموسيقى ينوب عنه الآن محارب يحبذ فن الضجيج. دعوات الالتقاء مع النقيض نحتاجها لا فقط على هذا الشاطئ، بل على الشاطئ المقابل أيضا، وإلاّ تحولت دعوات المثقف هنا إلى ثرثرة. لا قيمة كبيرة لدعوة مثقف فردية إذا لم ترافقها دعوات مكملة من مثقفين آخرين هنا، على ذاك الشاطئ، على كل الشطآن.
من هو المثقف حقا، يتكرر السؤال؟ هناك المثقف المترفع عن الواقع، المثقف المناضل حامل السيف والكتاب والفكرة، المثقف خادم سلطة، المثقف التنويري المتهم جَورا بجبن. أيٌ منهم يمكنه تبديل جلده، مع تغير ظرفه، مناضل رأينا أصبح كاتب تقارير على زملائه. ثمة معيار آخر إذن لماهية المثقف: يستعمل في عملِه عقلَه أو يستعمل يده؟ هذا المعيار أيضا غير مجد. صاحب العقل قد يصبح قاتلا من أجل اهدافه العقلانية. في مجتمعات عقلانية نزعة القتل أقوى منها في مجتمعات بدائية. إذن التعليم؟ ليس قياسا أيضا على الثقافة، التعليم أيضا أنواع، سلفي، طليعي. إذن، من هو المثقف حقا؟ ذكرتُ ناقلَ الثقافة، وأيضا منتِجَها، المبدع. يؤسَّس الإبداع بجمالية لها أخلاقية، أخلاقية نحو يسار أو يمين؟ إلى الخلف أو إلى أمام؟ يتشعب السؤال حتى التوقف عند مبدع فرد، لفحصه في ذاته، تبيان أي نوع هو من المثقفين. ضمن فئتهم فئات توجد. الصادق ذو الموقف والنزاهة وقدرة الاستشراف تمتزج الثقافة عنده بالفعل، الأخلاق بالسلوك. لآخرين قد تغيم الصورة مع انتشار عهر ثقافي. حديث آخر هذا. خلاصة: مَن تكسّب من الثقافة خضع لأخلاق سوق، فقد مصداقيته كضمير. مَن تجرد سما، استحق احتراما ولقب مثقف بامتياز.

المثقف الأصيل يعمل للمستقبل

البعض ينفي هكذا مثقف عن التأريخ، على اعتبار ليس للتأريخ قوانين، لذلك لا دور لمثقف في استشرافها، فمعالجتها، لا دور له غير تأنق أمام مرآة صغرت كبرت بعقله وخياله، التأريخ برأيهم ابداع، من ساسة ورجال اعمال ومخابرات وسواهم، ناسين للإبداع اخلاقية وقوانين جمالية. يجب أن يكون الإبداع انسانيا، هذا قانون. نعم في الإبداع تدمير أيضا، لكن تدمير الرث لصالح الأخضر. يجب أن يكون الإبداع منسجما في ذاته، هذا قانون، نعم في الانسجام صراع أيضا، لكن ضد البلبلة، لصالح الوضوح الفتان. وإلاّ سقط الإبداع في العادية. هكذا، للتأريخ قوانين طالما كان ابداعا. قوانين لها علاقة بعلم الجمال والأخلاق مثلما لها علاقة بالاقتصاد.
حملة عسكرية، جزء من تأريخ، لا تراعي التمويل، مصلحة البلد المغزو، خصوصيته، تتراجع. هذه قوانين. فرس، أتراك، أقوام أخرى، انسحبوا من بلاد الرافدين، صليبيون انسحبوا من تخومها، عرب انسحبوا من اسبانيا، ينسحب أجنبي اليوم أيضا من بلاد الرافدين، العظيمة حقا، بتنوعها وثقافاتها، لا بفتوحات ومساحات مترامية وعدوانية فالتة، عظيمة بلدنا بتآلف عربها وتركمانها وكردها، بتواد مسيحيها ومسلميها وصابئتها وغيرهم. لو تشظينا اخضعوا يا ناس لسادة المال، ضمير طائفة أو حزب أو تآلف لا يحميكم بعد التشظي، كلٌ يكون لاهيا آنذاك بجمع المال وانفاقه.
خاتمة، ما دور المثقف الآن، بل في كل آن وأوان؟ المثقف الأصيل يعمل للمستقبل، لا لطائفته، ولا لقوميته، ولا لحزبه. المثقف الأصيل لا يبيع نفسه، لا يبيع ضميره. مَن يبيع ضميره لا يبقى مثقفا، حتى لو ملك علوم ومال الدنيا، ومَن يحتفظ عن وعي بضميره هو مثقف، حتى لو لم يتعلم في مدرسة. أتكلم نقيض ما يعلمه واقع لنا: لا وجود لنزاهة وانسانية في سوق عاديات. نعم، الأدب ينقض السائد حينا وآخر.
للذود عن الضمير صلة بالعقل والأخلاق معا. تجاهله للحصول على مكسب يشوه الشخص. في نهاية، كلُ يحكم على نفسه بوقفة صدق، يعرف قدرَه؟ يجُبُّ الهزيمةََ عنها. مصاعب معنوية تواجه المثقف، غير فكرية، جعلت حتى صالونات أدب خنادق متداخلة. مصاعب أخرى مادية أمامه، تمنع نشره، تعيق تفتحه. أنكى، تكدير ينابيع المعرفة، لكسب من ميدان جعله متشددون واحدا لثقافة وحرب. متشددون بقفازات ناعمة بيضاء يقتلون أيضا وتتوقف الانظار على ذوي قلنسوات سوداء.
رغم ذلك دفق الأرض أقوى، الينابيع تتجدد.
أي منا يملك شجاعة رفض ما كان، يملك دعوة الجميع لخطوة جديدة، تنقض الماضي، بناءً لحاضر جديد. المثقف المبدع إذا لم يتمكن من مساعدة أهله مباشرة للخروج من أزمة، بسبب ظروف قاهرة، يستطيع ذلك غير مباشرة. هو منتج ثقافة قلت، لو ما تمكن تسويق ابداعه، بسبب ظروف بينت بعضها، يستطيع بقناعتي في أشد الظروف حلكة الاستمرار في العمل والانتاج، دون انتظار مردود. ذلك في الأقل ما فعلته أنا طيلة عقود، لست نادما، أواصل العمل بهذه الروح، ليكن أمامي بدل الخمس مخطوطات جاهزة للنشر عشرَ أو أكثر، هي كبذور تحت الأرض، تستطيع السبات طويلا، إذا لم تجد تربةً ونوءً صالحين. ثم يأتي يوم، فإذا بها تتفتق خضرة، مُؤكِّدة أنها أقوى من الزمن ومن كل الأنواء.

ملاحظة:

مؤسسة ABF السويدية الرسمية الداعمة لنشاطات ثقافية عراقية، وجمعية المرأة العراقية في مدينة غوتنبرغ، والبيت الثقافي العراقي، استضافوا الروائي الأديب برهان الخطيب لألقاء محاضرة في الشأن العراقي الراهن، حضرها جمهور متنوع من الجالية العراقية والعربية جنوب السويد شارك بنقاش حار حول أفكار الأديب. نص المحاضرة هنا عن (العرب الأسبوعي) عدد 129 تأريخ 3-9 نوفمبر 2007.