سميرة المانع: ربّما بعد أن يُكمل قارئ رواية quot;الوليمة العاريةquot; للكاتب العراقي علي بدر الصادرة من دار الجمل بالمانيا، يضعها جانبا قائلا بينه وبين نفسه: quot;فضيحةquot; أو ربما يقول: quot;الوليمة الموجعةquot; وعندما يعتدل في جلسته ويعود متذكراً تفاصيلها الدقيقة وشخوصها الحية التي تتنفس في أنحاء العراق، باقية منذ التاريخ القديم حتى الحديث مسببة كل هذه المآسي والمحن والمكابدات والحماقات، يجازف فيطرحفكرة إدخال هذه الرواية كمادّة تعليمية للقراءة والدراسة في مناهج المطالعة لطلبة الصفوف الثانوية.
من حسن حظ العراق أن يعثر في خضم مشاكله ومنازعاته وتدخلات اعدائه ودورانه على نفسه، على مَنْ يتحمل المشقةّ فيجوس وبيده ضوء حادّ ساطع في مناطقه المظلمة المنسية ذات الدروب الشائكة الوعرة، باحثا عن شخوصها وظروفها مدققا بموضوعية شبيهة ببحث الكومبيوتر.. يتطرق الروائي علي بدر، وهو من مواليد بغداد، لكل هذه الامور بطريقة بعيدة عن الوهم وغض الطرف والنفخ بالعظمة والتقريظ والتلويح بالامجاد والرضا عن النفس، وأنما بعملية جراحية مؤلمة تنظر لهول الجروح بعيون مفتوحة تعالج الكدمات والامراض المستعصية المختلفة بصبر طبيب يملك ما يكفي من رثاء خفي في داخله لما عاناه هذا المصاب المسكين المتألم أمامه بصوت مكتوم يسري في ارجاء الرواية.
يشكو البعض منا كون ذاكرتنا ضعيفةً، فلقد نسينا، مثلا، ما حصل لنا قبل سنوات معدودات من مصائب وآلام، فكيف نتذكر نكبات قرون وقرون من الاضطهاد والقمع والوحشية واللاعدالة وسوء فساد الحكام حتى صرنا نتصورها أمورا طبيعية سارية المفعول منذ الازل ومستمرة لأبد الدهر معنا، وبرأيي المتواضع ما لم يبدأ أبناؤنا بالكشف عن هذه العلل، دون خداع للنفس، بل كاطباء مختصين يعالجوننا بالعلم والادوية الحديثة، بالضمادات والمعقمات، ستظل أمراضنا في المجتمع، لا تجد من يفحصها بحسن نية وإداء جيد من داخل أحشاء مجتمع العاصمة بغداد أولا الغارق في انظمة القرون الوسطى نتيجة سلوك الضباط الاتراك، quot;الذين حولوا المدينة إلى ما يشبه النوادي القذرة الليلية، خليط مبتذل من شعارات اسلامية، وعربات المانية، وعاهرات في عمرصغيرة لتسلية الامة المهزومةquot;. ويضيف الروائي: quot; في نظام غير مرئي، يقظ، ومطلق، مسيطر، وماكر، وحقود دون حدود، يكره لكي يبقىquot;.

إنه نظام مملوء بالغوغاء والافندية، بالبدو، والمزورين، بالمغرورين وبمن شغل نفسه بحب الذات، والمنافسة والغيرة القاتلة. تدور حوادث الرواية في بداية القرن العشرين، قبل انلاع الحرب العالمية الاولى في عام 1914، أثناء دخول بريطانيا لاحتلال العراق، ولكن تشعبات الرواية تمتد إلى الاعماق التاريخية المنسية المهملة، موصلةً الماضي بالحاضر.. ففي أحد المقاطع ( ص 102-03) يقول عن مقتل رضا أغا ( وما أكثر القتل !):quot;..وجد الجندرمة رؤوف باشا مقتولا، ايضا، بقتلة شنيعة فُصِل فيها رأسه عن جثته وبترت يداه وأحرقت قدماه وقد حملته بغلة شاردةquot;.
تظهر في الرواية شخصية محمود بيك الذي يعمل في الضابطية العثمانية. ورغم كثرة الباشوات والسلاطين، إلاّ أنه كان أداة إضطهاد الناس ببغداد. تتأتى له السطوة عليهم من حراسته لترف الباشا ورعاية ضجره وكسله وحراسة محظياته اللواتي يبيعهن إذا غضب منهن في سوق النخاسة أو يطلب منه أن يغرقهن في نهر دجلة باكياس أو يذبحهن. لكن محمود بيك يعرف أنه لا يستطيع أن يلمس أية واحدة منهن بل ينظر إلى اجسادهن من خلال شق في الجدار ليرى مثلا quot;معاني الجيورجيةquot; جالسة على الاريكة باسترخاء، وحين تقوم من مكانها ترن الاساور والعقود والحجول الذهبية التي تلبسها. يتمناها لنفسه لولا خوفه من دخول المملوكي الشرس فيذبحهما معا، إنه في رأيه عبد مأمور..( كلنا مأمورون والانسان عبد مأمور من عند الله...) ذلك النهار فكر محمود بيك في من قتل رؤوف بيك: من قتله؟
quot;جلس محمود بيك على السريرالمفروش بالشراشف والبطانيات الصوفية... كانت الاصوات تأتي من الشارع غامضة، متداخلة مع بعضها.. أصوات الجندرمة الخائفين من الانكليز القادمين من وراء النهر، أصوات الضباط وعلى رأسهم خليل باشا الذين يتناقشون بصوت عال فيما إذا كان من المستحسن الانسحاب من بغداد وتركها للجيش الانكليزي الذي يتقدم على مشارف المدينة أم الدفاع عنها لصد الاحتلال حتى النهاية، بينما كان محمود بك يفكر بقرباغي الذي قتل رؤوف باشا، وكان رؤوف باشا قد قتل طوسباغي وقتل رضا أغاquot;.
هكذا هي الحياة إذن ناموس دوري كما يقول جميل أفندي، ناموس دوري يتكرر ويتكرر أبدا، ناموس دوري يعود ويعود عليهم على الدوام، هكذا منذ أن فتح عينيه في بغداد إلى اليوم، قاتل ومقتول، جندرمة بشعون، سراق، بدوٌ، قطاع طرق مجهولون، فيضانات تهدم المنازل والخانات، وأوبئة كل عام. وضع محمود بك يده على جبينه وزفر زفرة ساخنة ثم انطرح على ظهره، تذكر حينها الآلاف الذين ساقهم الجندرمة الى السفوح الوعرة والمثلجة من جبال القفقاس. لقد جندوا حملتهم الحربية على
الروس ذلك العام من بغداد والكاظمية، وضع يده على جبينه وهويتذكر كيف نصبت السرادق الكاكية في معسكرات كبيرة في العاقولية والقطانة القريبة من بغداد، تذكر المساقين من قهوة حوري وباب الشيخ والقاطرخانة وصبابيغ الآل والصدرية وهم بملابسهم الكاكية الممزقة، فأخذ يضحك مع نفسه، كركر وانطرح على بطنه، كانت ملابسهم مضحكة عليهم... تذكر سعدون قنة الذي ذهب لأحد البيكوات الاتراك وقال له: quot;بيكْ أنت مخليني ( وضعتني) مع أهل باب الشيخ... وأنا من أهالي الفضل وتعرف بينا عركة وثأرquot;
صرخ البيكْ به بالتركية... بأن الجيش يوحدهم.. والاسلام يوحدهم.. والامة العثمانية توحدهم... ففزع سعدون قنة من كلام البيكْ، لقد كان البيكْ يحلم بالنسبة لسعدون، فما كان بامكان أي واحد في بغداد أن يتصور بان جيش الدولة السَّنَية ndash; حتى وأن كان جيشا عظيما ndash; يمكن أن يحل محل شيعيته أو سنيته أو مسيحيته، أو بإمكان هذه المفاهييم أن تحل محل العقد أو الجادة أو المحلة، فهذه
أمة وهذه أمة غيرها، وما كان أحد في السرادق أو في المعسكر أن يتنازل عن حق مكتسب عرفه وتربى عليه... فالبغدادي لا يكتسب امتيازه إلا من خلال هذا التكوين الذي يظنه مطلقا مقدسا، وقد كان الملا عباس وهو من سوق حنون يعطي فتاوى خاطئة لاهل الصدرية وسراج الدين عكس الفتاوى التي يعطيها لاهل محلته في سوق حنون حتى يدخل أهل الصدرية وسراج الدين النار وأهل حنون الجنة.. لذلك نظر سعدون قنة للبيكْ نظرة ارتياب وقال في نفسه: quot;لكْ ( ويلك) يا أمّة.... تريد تخليني مع
كلاب باب الشيخ.... زين آني أعلمك quot;).
حرب محلات ! مع هذا كله، يمكن القول إن التطور البطئ بطء سير النمل آخذ بالتقدم اليوم إلى حد ما، ولربما صارت هناك مفاهيم أخرى مقدسة أقل تخلفا، بعد ذلك، في المحلات البغدادية، لكن سلوك الغوغاء وهياجهم، خوف الواحد من الآخر، دولة الشك لا زالت قائمة باستمرار: الشك في المرأة، الشك في الجندرمة ( الشرطة الآن)، الشك في الشخص الغريب، الشك في الحاكم ( الباشا سابقا) الذي يقول في مقطع آخر لمحمود بيك الخائف منه قبل أن يفهم آوامره حين التقى به في مقصورته،
ص 98: quot; حين أؤشر لك بلحيتي أريدك أن تقطع رأس طوسباغي quot; ففعل محمود بيك ذلك بفرح كبير، ناجيا بنفسه... ( لقد أدرك أن الأمر في دولة الشك هو سباق أما أن تطيح برأس الآخرين أو يطيحون برأسك، عليك أن تغتنم الفرصة قبل أن يغتنمها عدوك ضدك، والعداوة شئ سهل لا يمكن تمييزه عن الصداقة. اليوم يتحدث معك وغدا يطيح برأسك أو تطيح برأسه، طالما السيف موجود والخازوق موجود والمدفع موجود يكفي أن تضع عنقا أو مؤخرة أو مدينة مثل المولة خانه أو مثل الحلة حينما دخلها عاكف بيك الذي قتل وشنق وهدّم وخرب واقتاد نساءها وأطفالها سيرا على الاقدام حتى اعالي ديار بكر).

في الرواية شخصيات أدبية معروفة مثل معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وفهمي المدرس وغيرهم وأخرى مثقفة كهؤلاء تتحدث بنظرية دارون وفكرة القردية وتطور الاجناس التي جاء بها الزهاوي وقد حاولت تغيير الوضع حالمة بجعل بغداد كباريس ولندن ( لماذا لا تصبح بغداد أو دمشق مثل لوندرة أو باريز). كمنيب أفندي الذي ينظر للامام والشيخ أمين الذي كان يريد العودة للوراء. يذكر كيف أعطى الاول للأخير كتابا للزهاوي بهذا الصدد ومنظره وهو شيخ يركض في محطة قطار اسطنبول ليسلمه له من شباك القطار قائلا له بحنق: quot; منيب أفندي.. أمضيت الليل كله وأنا أقرأ كتاب الزهاوي الذي أعطيتني إياه أمس... ,أنا أتساءل لماذا لا نحرق الزهاوي مع كتبه quot;.
في الصفحات الاخيرة من الكتاب يبين الكاتب بتحليلات قيمة كيف انهارت بغداد بسهولة تامة كـ (وليمة عارية ) ودخل الانكليزمن الجنوب بعد تسهيل القائد خليل باشا المهمة لهم بينما وعد سابقا على أن تسير قواته من الشمال لتواجه الجيش الانكليزي القادم من الجنوب لدحره. أما عن سيكولوجية الجماهيرفقد ظهرت على حقيقتها والمثل الجاري: quot;من أخذ أمي صار عميquot; صار مطبقا، بالاضافة إلى النهب والتخريب الذي مارسه العوام من لصوص ومجرمين على المباني الحكومية والاسواق والممتلكات يذكرنا بما حصل قبل اربع سنوات. أما التجار ببغداد بعد دخول الانكليز فقد ازداد ثراؤهم وباتت قصورهم أكبر، وبرأي محمود بيك الآن: تعاملوا مع الاتراك عندما كان التركي ينفع... واليوم مع الانكليز لأن الانكليزي يدفع.
لا أدري هل يُشكر علي بدر على فضحه مساوئ وقيما كانت ولا زال بعضها مستمرا في مجتمعنا للآن أم نشكوه لأنه كشف المستور وعرّى ما يجب اخفاؤه كما يفعل عندنا بعض الكتاب. هل ننسى كيف استقى شكسبير جلّ اعماله من تأريخ جرائم حكام شعبه وأصحاب الصولجان، وأحابيل النساء الملكات، كيف فضح في أعماله العظيمة أوساخ تأريخ بريطانيا الدامي المملوء بالقتل الغادر، ومدى استفادة قارئه الانكليزي قبل غيره من العبر والحكم، من سوء التدبير والدم الذي سال بكل خسة وإجرام، ليصبح الفرد مدركا خطورة مثل هذه التصرفات الخرقاء وصارت عبرة لمن اعتبر. كذلك احتل الكاتب الكولومبي غارثيا ماركيز المقام الاول بين كتاب أميركا اللاتينية نتيجة روايته quot; مائة عام من العزلةquot; وغيرها ومعظمها ذات بعد تأريخي موثق بالاسماء. واليوم يعترف بعض النقاد باميركا واوربا بأهمية الكتابة الروائية الوثائقية أو ما يسمى بالتسجيل والبحث من أجل النظر إلى أبعد من السطح، مفتشة عما جرى في الماضي، لوضع الاسباب والمسببات على المكشوف من أجل فهم القضايا الحديثة.
علي بدر، بالإضافة إلى موسوعية خزينه من الألفاظ الدارجة العراقية والتركية (ولا سيّما العسكرية)، روائي مقتدر جرئ يعرف ضرورة صنعته جيدا وأهميتها في الأدب العراقي الحديث، وربّما العربي ايضا.