عطية الأوجلي: صوت جديد في القصة القصيرة الليبية

محاورات الأنا والذات

محمد محمد المفتي: عطية الأوجلي مهندس.. مهندس منظومات رقمية، ومن هذا التخصص يطل على علاقات البشر بالكمبيوتر، وبعملهم، وبالآخرين. تلقى تدريبه في الولايات المتحدة.. وهناك منحته اهتماماته الواسعة وشغفه بالقراءة إلماما بتفاصيل ثقافة المجتمع الأمريكي. وعايش حقب التذمر على القيم التقليدية، وانسحاب/هزيمة أميركا في فيتنام، وتحرر الزنوج إسقاط الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، وتحرر العلاقات الاجتماعية عموما الذي تلي مظاهرات الطلبة وشعارات quot;لنصنع الحب بدلا من الحربquot;.. كان أيضا عصر البراءة والمثالية.
تعرفت على عطية قبل عقد تقريبا، وسرعان ما اكتشفت طيبته ونقاءه وضميره الصادق.. وهي خصائص ربما كانت سببا في بعض ما صادفه من عثرات عملية. المهم.. في أحاديثنا، كثيرا ما فاجأني عطية بتفسيرات مغايرة للمألوف، وصياغات جميلة للأفكار. وكان ردي عليه دائما: أن أكتب هذه الومضات.. ولعل ملاحظات كهذه أقنعته أن يمسك القلم.. لكن سلاسة أسلوبه هي بالتأكيد ما منحه الشجاعة والثقة بأن يستمر وينشر. فكتب خواطر مقتضبة، أقرب للشعر أحيانا، ونشرها في موقع صحيفة ليبيا اليوم على الإنترنت. وترجم بعض القصص القصيرة الهامة.
هذه المقدمة ربما تساعدنا على فهم دوافع واهتمامات عطية كما تتبدى في مجموعته القصصية الجديدة quot; عيون الكبرياءquot;.
(2)
تشي القصة الأولى في المجموعة quot;الرجل الشجرةquot; بهواجس ارتطام الإنسان بجدار الحياة والغربة ذات يوم.. في لوس آنجلوس مثلا. قصة رجل غريب الأطوار يقضي يومه في نهاية الشارع مبحلقا في بقعة محددة.. ضرب من الضياع أو الجنون. أم تعبير عن أزمة مر بها الكاتب نفسه؟ ذلك لأن مديره يستدعيه ليفهم سر تدهور أدائه في العمل وينتهي مخمنـًا بسؤاله: quot;أم هو الحنين إلى الوطن؟quot;. هل كانت أزمة ناتجة عن مواجهة الاختيار الأخلاقي الوجودي الذي يلح على كل من تغرّب؟.. هل تبقى مقيما في وطن آخر، في ثقافة الغير؟
أما أن الوقت آن للعودة ؟.. قرار سهل بالنسبة للكثيرين.. فالدخل والحوافز أفضل مما هي في الوطن، والخدمات أرقى والحياة أكثر تنظيما وسلاسة.. والأهم أنك تمارس تخصصك وهو ما يمنحك الإحساس بالكرامة.. بدلا من أن تتحول في وطنك إلى طفيلي متملق تلهث وراء الامتيازات الرخيصة، ولا تقدم شيئا.. إنها أيضا خيبة أمل مريعة. قد تختار الصدق، لكنك ستعيش حياة هامشية كما لو كنت مواطنا من الدرجة الثانية، تجتر الشكوى التي يدمنها الجميع.
ورغم هذه الخيارات المؤلمة يبقى البعد عن الوطن خيارا مستحيلا لدى البعض.. وقد واجهْـته أنا شخصيا ذات يوم! فالإحساس بالوفاء ورد الجميل يشدك إلى أهلك، والبعد عنهم يتركك نهبا للإحساس بالذنب. لكن الأمر ليس فقط مسألة شخصية.. المفارقة أبعد من ذلك.. فأنت تذهب إلى الخارج لتكتسب علما، لكن هذا العلم يضعك على طريق في اتجاه واحد، وتكتشف أن ثقافة مجتمعك غير مستعدة حقا لتقبل ما بعثـتك لاكتسابه!
في quot;الرحلةquot;، القصة الثانية، يحتفي الكاتب بدفء المشاعر والذكريات في بيت الأسرة المحتفلة بعودة إبنها من الدراسة في الخارج.. فالحياة في الغربة نشوة، لكنها في الوطن ألفة، كما يقول.
وفي الجامع العتيق بقبابه الطينية.. ربما في أوجلة أو أي واحة ليبية أخرى.. يسمع من شيخه حكمة الصوفية: quot; أصمت لينطق قلبك، إغمض عينيك لترى.. ولا تبحث لتجدquot;. ذلك هو الطريق إلى السلام الداخلي..؟ أو شيء يشبه النيرفانا البوذية.
لكن عطية غالبا ما يعجز عن كبح حسه العلمي الذي يفرض التعامل مع المتعين والمحسوس. فوسط الأصوات والدخان في المقهى، في القصة الثالثة quot; سيد الموقفquot; يسمع أغنية يبثها المذياع، تتأوه المطربة طالبة عمرًا يكفي حبها! وعندها يأتي تعليق عطية الفوري ساخرًا: quot;تخيلت طوابير أمام معمل أو متجر لبيع الأعمار الإضافيةquot; وتتوالى عبارته بتعاقب أشبه بقافية الحشاشين، خاصة وأن العبارات كلها بالعامية المصرية التي عايشها عطية في مرحلة من مراحل دراسته. ويختم قصته بتخمينات الجالسين عما يفعله شاب على المنضدة المجاورة منكفئ على ورقة: ماذا يكتب؟ طلب عمل؟ قصيدة؟ أم تقرير في عباد الله؟ ليكتشف الجرسون بعد خروج الشاب أن القلم ما فيش حبر!
قصة quot;صوت الناسquot;.. نوع من السيرة أو البيوغرافيا المقتضبة، صورة قلمية.. للكاتب دورفمان أحد أنصار الرئيس التشيلي الليندي، إبان اللحظات الأخيرة من عمر ذلك الرئيس وعمر نظامه.. حين تراجع دورفمان عن ساحة القتال نجى من الموت بمفارقة من مفارقات القدر.
هنا يزور عطية كوة في كهف الذاكرة.. حقبة الستينيات والسبعينيات: حرب فيتنام.. محاربين حفاة يقاومون أحدث التقنيات المدمرة، تشي غيفارا نجم حرب العصابات في أميركا الجنوبية الذي نذر نفسه للقتال من أجل الفقراء، الليندي الذي توهم إمكان تحقيق الاشتراكية سلميا في بلاده تشيلي، ليقضي نحبه ممسكا برشاشه في القصر الجمهوري أمام زحف الجيش بقيادة الجنرال بينوشيه سئ السمعة.
كان جيل ذلك الزمن.. جيلنا.. يرى تلك الأحداث ببساطة مواجهات بين الحق والظلم.. وبين الخير والشر، دون اعتراف بالجهات المستفيدة والمحرضة. لكنها اليوم تبدو قفزات رومانسية في هوة الموت، وأن هناك سبلا أخري بديلة أقل درامية وأقل دموية إلى نفس النتائج. لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن البشرية تبدو بحاجة دائمة إلى مثل هؤلاء الشهداء الأنقياء والسذج في آن واحد.. لأنهم يهبون أنفسهم من أجل الحق والعدل والمثل النبيلة.. من سقراط إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، إلى جان دارك الفرنسية، وغاندي.. إلى سناء محيدلي.. وليس للقائمة نهاية. البشرية بحاجة لشهداء يذكرونها بطموحاتها غير المتحققة أبدًا للعدل والخير والتسامح.
ويستمر تعاطف عطية مع ضحايا العسف في قصة quot;برتقاليquot; التي يحكي لنا فيها عن معاناة شاعر شاب أمريكي مسلم أمضى شهورًا في معتقل جوانتنمو، دون تهمة أو دليل يدينه.. مجرد ضحية في سياق من اللامعقول. أما في قصة quot;عفوًا يا هدىquot; فإن عطية يناجي طفلة فلسطينية فقدت كل أفراد أسرتها في إحدى الغارات الإسرائيلية، ويعتذر لها لأن quot;كل شئ باهت لدينا.. منذ زمنquot;!.
قصة quot;زهر الليمونquot; إيماءة خجولة جدا ورقيقة إلى شوق الرجال، حتى الزهاد منهم، إلى الأنثى!.. وكقصة تبدو أشبه بجملة اعتراضية، لأنها خارجة عن السياق أو الثيمة العامة لهذه المجموعة. لكن عطية سرعان ما يعود إلى مساره ويستنهض من تلافيف ذاكرته في القصة التالية quot;أحمرquot;، دراما أخلاقية أخرى.. ألا وهي صراع السود في أميركا من أجل استعادة إنسانيتهم، التي كانت مصادرة بفعل القانون حتى نهاية الستينيات.. ولا ننسى أن زعيم حركة تحرير السود القس مارتن لوثر كينج أغتيل سنة 1968، ليكون شهيدًا آخر في مسيرة الإنسان بحثا عن العدل.
قصة quot;أحمرquot;:.. أم زنجية أمريكية تحكي عن الجنين الذي في بطنها، وعن مداهمة بيتها من قبل عصابات الكلوكلوكس كلان العنصرية.. عن جنينها الذي أصبح فيما بعد مالكوم إكس أحد قادة حركة quot;أمة الإسلامquot; كمخرج نهائي يعيد لزنوج أميركا كرامتهم المهدورة.
مالكوم إكس.. صعد نجمه واشتهر قبل أن يعيره مسلموا العالم أية اهتمام، بفضل خطبه النارية وحركته التي شدت جماهير السود وشخصيته الرومانسية.. ودخل قائمة شهداء الإنسانية حين أغتـيل سنة 1965.
في أقصوصتيه الأخيرتين، يلتفت عطية إلى مفارقات حياتنا الليبية. أولا جهالة الجيل الشاب في قصة quot;موسيلينيquot; التي تحكي عن جهل طلبة مدرسة بصاحب هذا الاسم وعلاقته بليبيا!! وحين يُسألون عنه يجيبون بأنه سائق سباق، أو مخرج فيديو كليب، أو لاعب كرة أو بطل رسوم متحركة. المدرس لا يعلق وإنما يكتفي بالصمت. هل السبب تغير اهتمامات شباب اليوم وتأثير وسائط الإعلام العالمية عليهم؟ أم أنهم سئموا من تكرار مدرسيهم وكتبهم المدرسية لحكاية الجهاد.. معارك عبر العصور ولا يبدو أنها قادت إلى نتيجة بالنظر لما عليه نحن العرب اليوم ؟! أما أقصوصة quot;سهرة عائليةquot; فتتمحور حول quot;إعدالةquot; شاهي في بيت ليبي وتشبث الجد بعدم كروية الأرض!
* المجموعة القصصية ممتعة. لغتها بسيطة بعيدة عن التحذلق، وتساؤلاتها لا تخلـو من عمق، فضلا عن طرافة مسارحها.
* لكن مقاصد عطية قد تبدو مستغلقة أحيانا. من ذلك أن بناتي فتحية وفاطمة، سألنني ماذا يريد عمّي عطية أن يقول؟ ماذا يقـصد؟ والأولي طالبة جامعية وخريجة روايات نجيب محفوظ، أما الثانية فقارئة نهمة لقصص آغاثا كريستي البوليسية!
*هناك مشكلة إذن؟ لعلها مقاربات عطية.. مثلا: قصة quot;أحمرquot; تتناول موضوع مالكوم إكس، وهو شخصية شبه منسية للأجيال الحاضرة، ثم إن المقاربة بعيدة عن الخيال الروائي العربي المألوف.. فهو ينقل كلام أم مالكوم وهي تتذكر يوم كانت تحمله جنينا وquot;عرفت أنه سيكون طفلا غاضباquot;. كما يورد عطية في القصة أبيات قصيدة / أغنية تبدو لي من نمط أغاني البلوز، ربما لم يوفق في ترجمة كلمة لها معنيان. والبلوز أغاني ظهرت بين زنوج أمريكا، مشحونة بالحزن والألم والتذمر. وهي أقرب إلى العَـلـَم الليبي من حيث قصرها، واعتمادها على استعمال اللفظ الواحد لأكثر من معنى.

*تقنيـًا: يقترب الأوجلي في بعض كتاباته / خواطره / قصصه.. من حافة اللامعقول.. لكنه لا يخترع حبكات خيالية، بل يقتـنصها من الواقع.. شئ أشبه بالفيديو كليب.. مقتضب وغريب، يحتمل شتى التأويلات. والواقع أحيانا أكثر غرابة من الخيال!
*يقولون القصة بوح.. لكنني أراها عند عطية محاولة للمصالحة بين ذاتين تضطرمان في داخله: الصبي الليبي بتراثه الأسري الأوجلي.. والرجل الذي نضج في أمريكا في عصر التقنية والعلم.. فلقتان في قلوب الكثير منا.
*وهو إذ يحاور ذاته، فإنه يدعونا إلى تحاور ثقافتين نحتهما الزمن في أذهان هذا الجيل، ولعله يدعونا إلى الاحتفاء بقيم جميلة في ثقافة الآخر من أجل تجاوز رد فعلنا الشائع الذي يعززه العدوان العسكري، والإنحياز لإسرائيل والهيمنة السياسية والاقتصادية وترهات أخرى مثل الرسوم الساخرة وإسفاف بعض رجال الدين الأوروبي. لكن يجب ألا ننسى أيضا، أننا من باب الغضب والتوجس والدفاع عن النفس، كثيرا ما نقع في أحابيل الخبثاء.. ويدفعنا إلى ذلك أحيانا رغبة بعضنا في إبقائنا في حالة تهديد مستمر لتبرير انغلاقنا وحرماننا من التقدم والحرية!
*وفي كل الأحوال نتطلع لمزيد من كتابات عطية، حتى وإن كانت نغمته المشحونة بخيبة الأمل تذكرنا بالتوحيدي صاحب الإمتاع والمؤانسة.