اذن هاهي ذي نيويورك
مربعات افقية ومربعات عمودية
تربط الارض بالسماء
والاطلسي يتفرج جذلانا على تعانقهما

في نيويورك فكرت كثيرا وانا استمتع بالشوارع والافنيوات
ربما كانت اقدام ملفيل قد مرت من هنا
وهو يتجه للانتقام من موبي ديك
لينهي شهوة الثأر الحارة
او همنجواي, قبل ان يحلم بالعودة الى منزله الكوبي
والن اغسنبرغ وهو ينتظر الظلام الابدي
لا ادري ان كان فوكنر قد فكر بكتابة الصخب والعنف في هذه الشوارع
وهو الذي عاش في مزرعته البعيدة
او ربما اقدام مارلين مونرو, السيدة التي تعكس شهوة ساقيها في انفراجة فمها
او مادونا حيث الجسد اكثر سيولة على الارصفة
او مر عليها مارثن لوثر كنغ
وهو يفكر في اعداد خطبته الاولى عن الحقوق المدنية
مايكوفسكي، لوركا، جيفارا, وهم يعانقون الثورة
واقدام ملايين الناس
من الفقراء والاغنياء, السود والبيض والسمر
الحالمين بنيويورك ومجدها والنائمين في زوايا شوارعها الخلفية
جئت من بغداد الى لندن
ثم الى نيويورك
لكن الجنود الامريكان ذهبوا الى بغداد
دون ان يمروا بشوارع نيويورك
قد يفسر ذلك الكثير
مما يحدث هناك
ويشرح لي لماذا فقدت بيتي
فهم لم يتعرفوا على اسمنت نيويورك
الذي يكفي لاعمار بغداد عشر مرات
ولم يعرفوا ان اخر افلام هوليود
قبل خمسين عاما
كانت تعرض في سينمات الخيام والسندباد وغرناظة في نفس يوم عرضها في نيويورك
انهم لا يعرفون حتى ماذا تعني الف ليلة وليلة
ولا فلم حرامي بغداد
الذي تحول الى علي بابا على يد الجنود الامريكان
الذين لم يحرسوا تراث بغداد
ولم يعرفوا مامعنى اينانا
او عشتار او تموز او طقوس الزواج المقدس
حيث اضجع الكاهنة على سرير الدمع
واذهب في رحلتي لاعماق الزمن
وانشد نشيدي الابدي
منتظرا الندى الذي يغطي الليل والعالم ووجهي الكهل
بملاءة من الجراح الرطبة
الدبابة الامريكية تقف في باب عشتار
المؤدي الى شارع الموكب البابلي حيث المتحف العراقي
حيث ميثولوجياي وميثولوجيا حياتي
التي خلفها انسان وادي الرافدين
لقد سمحت للقتلة واللصوص ان يسرقوا الوشم الذي على ذراع الملكة البابلية
والحرز الذي يحرس مخدع الزوجية
والطقوس التي يحوم حولها بخور المعبد
والشهقات التي اطلقتها النساء في طوافهن الجنسي
بينما تحالف القبائل المعادية للامبريالية
الذي يحصد جوائز السلام وحقوق الانسان والشعر
في اوروبا وامريكا
اصبح تحالفا معاديا لحرية الشعوب
يشرب نخب المفخخات التي تقتل نساء واطفال العراق
ويهتف الموت لامريكا
الموت للعراقيين
وامريكا تهتف: يعيش الالم
لماذا يانيويورك
لم تعلمي اؤلئك الجنود الامركييين
ان يحرسوك في بغداد
فمتحف الفن الحديث في نيويورك
هو نفسه متحف الفن القديم في بغداد

لماذا يا نيويورك
نسيت جيفرسون على رفوف مكتبة الكونغرس
ولنكولن في الشوارع الخلفية والكراجات
بينما اخطأ الفرنسي مونتسكيو
وهو يفصل السلطات في انجلترا
كما اخطأ الفرنسي توكفيل
وهو يحتفل بالمؤسسات في امريكا
وفرنسا تغلق آذانها عن ضجيج الموت في بغداد
الاطلسي يناقض نفسه
وبلاد النهرين تدفع الثمن
واور الكلدانيين تنتظر عودة ابراهيم

فكرت اذن بما مضى
وبما سيجئ , (2.هذا اذا جاء)
فكرت بالعراق
رغم اني لم اكن بحاجة لذلك
فقد كان العراق حاضرا
في الحملات الانتخابية بين الجمهوريين والديمقراطيين في نورث كارولاين
ولم اكن بحاجة لتذكر بغداد
فقد كانت تسيل دما في الشاشات التي اقلبها صباحا في غرفتي بفندق روجر سميث
في ليفنغستون افنيو
في الطابق الرابع عشر
نفس الطابق في بغداد
كل شئ يكرر نفسه
فقد كان شهري، شهر اذار اقسى الشهور في بغداد(شهر اليوت نيسان اقسى الشهور)
وانا اتجول في خرائبها
من شارع الرشيد الى ساحة الفردوس
حيث كان التمثال الذي سقط
ليقوم على قاعدته ركام من الفوضى والقتل والغموض
انطلق مثل طوفان الى الشوارع
وسال في المدينة ليلتقي سيلا من الدم والنفط
وسيلا اخر من قيح حناجر الهتافين
ضد حرية بغداد
الذين ينتظرونها ممدة على سريرهم
او سرير التشريح في كلية الطب
.حيث زلازل الحرب قد ضربت المدينة وابقت ناطحة السحاب الوحيدة
فمن غرفة في الطابق الرابع عشر
الطابق الاخير من الفندق
كنت انظر الى بغداد
ولا اراها كما غادرتها
قبل اكثر من ربع قرن
حيث كانت الاشجار تحرس الابواب
والبيوت تحرس العصافير
حيث كانت البئر في باحة الدار
تفور بالماء البارد
الذي تاتي السعلوة في اخر الليل
وتسقط فيه الجنين الذي احبلها به الانسان
وبدلا عن ذلك فكرت طويلا في اعداد وصفة لكتابة القصيدة بتاثير من نيويورك
بعد ان رايت جنود شركات الحماية الخاصة في بغداد
يتبادلون النظرات
بينما المورترات تنفجر
ويفكرون بالرحيل قبل فوات الاوان
عائدين لعوائلهم الفقيرة وهم محملون بدولارات مقابل مغامرة الحياة او الموت
في بلاد بعيدة عن قراهم في البيرو او شيللي
ليس الجنود الامريكيون هم الذين يخوضون الحرب
فهم يلبسون الدروع الواقية من الرصاص
ويلبسون الخوذ الفولاذية
ويحملون اللاب توب والاسلحة والميكرفونات
الذين يخوضون الحرب هم العراقيون العزل
النساء في الاسواق والاطفال العائدون من المدارس
العراقيون الذين لايحملون سوى همومهم
اذن فكرت في اعداد وصفة لكتابة القصيدة
فبعد عقود طويلة اصبحت لدي خبرة في فن الطبخ
فانا فنان في طبخ الرزمع سمك السلمون المشوي بالبهارات
وطبخ كثير من الاطعمة التي تسالني عنها ضيفاتنا الكريمات ونحن على المائدة
ما اسم هذه الطبخة؟
وتجيب زوجتي ندى ان نبيل يبتكر الطبخات، ويعجز عن ابتكار تنظيم لما تبقى من حياته
ولو تسنى له ترك الشعر لاصبح من اغنياء هذا الزمان
كانت تكمل هازلة
فماذا لو اعددت وصفة لكتابة القصيدة
حسنا اذن يانيويورك فلنبدأ:
خذ نفسا عميقا وتامل كثيرا
ادخل المطبخ بهدوء عصبي
فالتناقض من شروط القصيدة
لف المريلة جيدا على خصرك النحيل(كن نحيلا لتكن شاعرا)
فالجمال يعتمد على نحافة خصر الكلمات
ونهود القصيدة
(لاتفكر اسفل من ذلك)
اسمع الصهيل الذي يشق السكون المفقود
وخذ امتارا من الكلمات الطازجة
تكفي حتى نهاية العالم
قبل الهاوية الاخيرة
وحاذر ان تخدش ايا منها
حافظ على حافات الحروف
فهي تحمل ندى المعاني و الايقاعات
وتحمل كل الرغبات المكبوتة
اغسلها جيدا بالمك وحزنك
رش عليها قليلا من العذاب المر
تبلها بقليل من الاسى والاسئلة التي لاتجد اجوبة لها
فالقصيدة تنضج على نار هادئة
من اسئلة الكون والجمال والرحيل
رش عليها قليلا من التاريخ
حيث يسقط القتلى كما تسقط اسوار المدن
وحيث القيامة تتكرر كالايقاع
خذ شيئا من الحلم
الحلم الواقعي غير القابل للتحقق
فاحلام البلهاء تتحقق دائما
وخمسة قيراطات من الكتب المقدسة: السماوية والارضية معا
فاهل الارض يخترعون القداسة
لاضفاء الغموض على العالم
والعظمة على الصولجان
خذ ثلاثة مثاقيل من الميثولوجيا
حيث كل اسرارنا هناك
مدفونة في باطن الانسان العميق
حيث تجلس المرأة كالهة تلد الناس
والاشجار والمياه وقوس قزح
وتترك مشيمة الحزن مربوطة برحمها
خذ سبعة ارطال من تقاليد الانسان
واسئلته القاسية عن الحياة والموت
عن الجمال والالم
عن الفقر والرحيل
خذ مقطعا من الحرب
الحرب التي لاتتوقف عند السدود والاضرحة ومهود الاطفال
الحرب التي تمولها الفضائيات
لتفوز بجائزة احسن التغطيات الاخبارية
خذ صرخة من الحرب
تكفي لاختراق حاجز الصوت
وجمدها في الثلاجة
واحقن بها الكلمات جيدا
خذ انسانا من الشيعة
وانسانا من السنة
ضعهما على المشرحة في الطب العدلي في بغداد
لترى الفروق الجسدية
بين الرصاصات القاتلة
اخلط كل ذلك جيدا وبهدوء
ولكن بحرارة واطئة لاتتعدى الاربعين
ضعها في قدر غير مرئي
على نار في قلبك
وانتظر ثلاث دقائق
لتضيف اليها خمس سوناتات قصيرة
وثلاثة كونشرتات للبيانو(يفضل ان تكون لفرانس ليست او موتسارت)
وعزفا منفردا على العود
ومقطعا من قيثارة(سومرية او اسبانية)
وخمسة امتار من ناي حزين
وصوتا منفردا من اية اوبرا تفضلها
او بضعة بستات من التخت البغدادي
(يمكن الحصول عليها من اي موقع في الانترنيت)
ضع كل ذلك في قدر بحجم الارض
واغلقه بسماء الله الواسعة
وابتعد قليلا
ويفضل ان تعود الى بدء الخليقة
اوعلى الاقل لمرحلة ما بعد الطوفان
وانتظر، ثم انتظر، ثم انتظر
لا استطيع تحديد الزمن اللازم لانتظارك
ولكن انتظر حتى يطلع الشفق
الشفق اللامرئي
الذي يخلط البحر بالارض والسماء
كما هي نيويورك
ويشد اواصر الكون
في ترنيمة غامضة
تسمع خلالها آهات امراة
وشهقات رجل
وانتظر، انتظر وانتظر
لتسمع بكاء طفل
ياتي الى العالم
وياخذ المكان الذي تقف فيه