سلمان مصالحة من القدس: غريب أمر هؤلاء العراقيين. منذ أن تبلبلت الألسن في بابل، خرجوا حاملين مشاعل يطوفون بها في الأسواق، حينًا ينيرون وحينًا يحرقون. لقد جُعلوا أُممًا وشعوباً وقبائل ليتقاتلوا. منهم المؤتلف ومنهم المختلف، منهم الكردي والسنّي والشيعي ومنهم التركماني والأشوري ومنهم اليهودي، ومنهم من غاب عن ذاكرتي.منهم الشّعراء ومنهم الكتّاب، منهم الحرف ومنهم الكتابة. أنّى ولّيت وجهك فثمّ عراقيّ مرتحل خلف سراب، وثمّ من ألقى عصا ترحاله في بلد غريب، تغرّب فشاب.
غريب أمر هؤلاء العراقيين، فعلى تعدّد ألسنهم وأعراقهم تراهم يتحلّقون، مختلفين مؤتلفين، حول فكرة هلاميّة اسمها العراق. وإذا التقى العراقيّ بالعراقيّ ذابت بينهما الحدود. فها هو شموئيل (سامي) موريه يكتب مذكّراته العراقيّة في quot;إيلافquot; فتدمع لقراءتها عيون العراقيين في جهات الرّيح. وهناك ساسون سوميخ،من اليسار: روني سوميك وسلمان مصالحة
سامي ميخائيل وشمعون بلاص الّذين حملوا مشاعل ذكريات العراق. وهناك سمير نقّاش الّذي حمل اللّهجات العراقيّة حتّى قضى نحبه. وها هو الشاعر الإسرائيلي روني سوميك، الّذي ولد في بغداد وجاء مع والديه إلى إسرائيل طفلاً بسنّ الثّالثة فقط، وهي سنّ لا تحمل من الذّكريات شيئًا تقريبًا، يلتقي بعراقيين آخرين من ملل ونحل مختلفة فتمّحي الحدود بينهم، تتفاعل بينهم الذّكريات فيكتب لهم شعرًا بالعبريّة.
سلمان مصالحة على ضفاف الفرات عَلَى ضِفافِ الفُرات، (من مجموعة: ريش البحر، منشورات زمان، القدس 1999) |
لقد بلغ ولع العراقيين ببعضهم البعض لدرجة أضحت مصدرًا للتّندُّر، حتّى إنّ صدّام، سفّاح العراق ذاته، الّذي كان مولعًا بقتل العراقيين دون تمييز بين مللهم ونحلهم، عندما أطلق صواريخ الـquot;سكودquot; على إسرائيل، عرفت صواريخه طريقها، وعرفت أين تسقط. فقد سقطت وضربت تجمّعات سكنيّة غالبيّة قاطنيها من اليهود العراقيين.
غريب وعجيب أمر هؤلاء العراقيين. أليس كذلك؟
حتّى أنا، عبدكم الحقير الفقير إلى رحمة عقله، ولقربي من هؤلاء العراقيين، فقد أصبت بعدوى هذا المرض الّذي اسمه العراق. وقد كتبت في ذلك شعرًا أيضًا. لكن، في السّنوات الأخيرة تماثلتُ للشّفاء من هذا المرض العضال.
شفاني العقلُ وشفاكم!
وأخيرًا، هاكم ترجمة لقصيدتين من العبريّة للشّاعر روني سوميك، الأولى كتبت قبل أعوام، والثانية كتبت قبل أسبوع:
1- الشَّفْرَة الّتي جرحت للشِّعْر وجهَ الاستعارة
إلى عبد القادر الجنابي
هو الشَّعْرَةُ الأخيرة في التفافِ شارب سلڤادور دالي.
هو الطّلْقَة الشّاردة في وينشستر * quot;جون واينquot; المقصوص القصبَة.
هو الشَّفْرَة الّتي جرحت للشِّعْر وجهَ الإستعارة.
هو النّخْلَة الّتي أحْلَتْ أشجارَ الجنّة على طول دجلة والفرات.
فماذا كانَ لدينا، عبد القادر الجنابي، أسألُ
في الطّابق الخامس، في شارع نولِهْ، على تخوم حيّ كليشي في پاريس.
إلى أينَ هذه اللّيلة تنطلقُ خيولُ الألف اللّيالي وليلة أخرى؟
(كم ليلةٍ كانَ لي في سطرٍ واحد
وكم تدفّقَ الحبُّ من عيون زوجته مُونَا،
حينما لمّعتْ إصبعُهُ بروازَ الصّورة الّتي
حاولَ بها أن يحنّ إلى فيلم حياتِه quot;الكاوبوييquot;
في شوارع بغداد).
في الغرفة الثّانية، انفتحَ بُرهَةً فريجيدر** الوَعْي
وطفتْ حبّة الثَّلْج كما زورق في الماء الّذي ذابَ مِنْ قَعْرِ جسدها.
* ماركة مشهورة لسلاح البندقيةسركون بولص وعبدالقادر الجنابي
في منتصف ثمانينات القرن الماضي
(مونتاج quot;الكاquot;؛ صديقة سركون)
** تعمدّ الشاعر استخدام المصطلح الأجنبي للـquot;برّادquot; رغم وجود كلمة عبرية شائعة: quot;مِكاريرquot;
2- وها هي سِيرَةُ أَرَقِ الشاعر العراقي سركون بولص
في مدينة لوديڤ بجنوب فرنسا
في اللّيلةِ الأُولَى، تَكَلّمَ عَلَى مَقْربَةٍ مِن اصْطَبْل
وَعَلَى رُؤُوسِ المَساميرِ في حَذواتِ الخُيُول
سُمِعَتْ طَرَقاتُ صَمْتِها.
في اللّيلة الثّانية، في غُرفةِ الخُوري، تَحْتَ مِسْمارٍ آخَر
صَلَبَ رِجْلَي يَسُوع إلى الحائط، لَمْ يَنْبسْ
بِبِنْتِ شَفَة.
في الثّالثة، في فُنْدقٍ كانَ مرّةً ماخُورًا،
حَكَّ كِلْسًا مِنْ شِفَاهِ الحِيطان
وَخَلّاهَا تَعْتَرِف.
مَنْ يَعْرِفُ، فَكّرَ، إلى أيّ ارتفاعٍ سَتَصِلُ كَوْمَةُ
الشّراشفِ الّتِي استُبْدِلَتْ على مَرّ السّنين على
ذاتِ السّرير.
لم يُغْمَضْ لَهُ جَفْنٌ في أَيّ من اللّيالي.
الوَقُودُ الّذي أشْعَلَ أَحْلامًا ظَلَّ يَجْرِي
في مُحَرِّكاتِ الطّائرات الّتِي قَصَفَتْ
قَبْرَ أَبِيه،
هُناكَ، عَلَى الأَرْضِ الّتي
أَقْلَعَتْ مِنْهَا حَيَاتُه.
ترجم القصيدتين عن العبريةسلمان مصالحة
التعليقات