قالت: لاتثق به لن ينقل الرفاة.
قلت: لكن اخبرني زائر بردان بأنه سيضع الرفا في تابوت بعدما يضعها في كيس وينقلها الى العراق.
قالت: يكذب
كنت اعرف من قبل بعض الاشياء عن زائر بردان لكنني لم اكن اصدقها. كان عاملا في معمل quot;كمب كريتquot; التابع لشركة النفط، ويعمل تحت اشراف الميرزا رحمه الله. كان البعض يقول انه يسير في النوم، و البعض الاخر يقول إن الشيطان ساكن في جسمه، والناس تنقل حكايات كثيرة عنه.
قلت للمرأة: عليك أن تحكي الحقيقة؛ فهل كلامك هذا بسبب طلاقك منه أو أن الزائر في الواقع لم ينقل الرفاة الى الجهة الاخرى من الحدود.
قالت المرأة: زائرة ! لاتثقي بزائر بردان، فإذا تمكنت أنت من رؤية أُذنك فهو قد رأى النجف. فلاتسلموا الرفاة البريئة له، لئلا تصبحوا قصة على الافواه بما يوقعه بالرفاة.
- لِم تتحدثين بهذا النمط؟ هل شاهدت بعينك عملا شائنا من زائر بردان؟
- ثقي بأن بردان، هذا الفاقد للضمير، لن يوصل الرفاة الى النجف.
- لكنني أريد أن أنقل الرفاة الى النجف، حتى لو بعثت معه مرافقا كزعيبل او غُلَيّم.
- هل المرحوم نفسه وصى بنقل رفاته الى النجف؟
- لا لم يوص، لكنني أنا أريد أن يجاور قبره مرقد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كي يشفع له يوم القيامة.
فاذا لم يكن في العالم مَن يعرف شيئا عن زوجي فانني أعلم أنه لم يسيئ لأحد في حياته؛ فلم يأكل مال أحد، و لم يسرق ذرة من أموال الشركة التي كان مسؤولا لأحد اقسامها. العاملون تحت اشرافه كانوا يقومون بهذه الأعمال. أما هو، فما قارف مثل هذا، ولاخطر على هذا. كان نجيبا، فلم أسمع، ولم أر يوما حتى في عز شبابه أنه ولج بيت الدعارة الذي بناه الانكليز في عبّادان عندما كانوا يصولون و يجولون فيها.
كان شابا وسيما اشقرا ذا عينين زرقاوين. فكل من كان يراه يتصور أنه أجنبي. فلم يتسل الا بالجرائد و الراديو. لااقول انه معصوم من سلالة النبي، استغفرالله. كنت اعارضه عندما كان يشرب الخمر احيانا في أواخر عمره.
سألتها المرأة: الميرزا كان سليما؛ فهل صحيح أنه مات اثر جلطة قلبية؟
- لا ياعزيزتي، الجلطة هي الوسيلة التي يتسلم الله امانته بها. فقضية الميرزا ليست قضية اليوم و الأمس بل انها تعود الى قبل سنوات. فقد حكى المرحوم نفسه القصة لي:
المرحوم و المراءة البُنية
قبل عشر سنوات، أو لا، استغفرالله، قبل تسع سنوات - اذا ما أخطأ- بدأ المرحوم يعاني من الدوار في الرأس. وقد فقد تعادله الجسمي، و لم يفارقه المرض منذ ذلك الحين. لم يبق طبيب في المدينة و لا كاتب ادعية لم يراجعه. كان في الظاهر سليما ولم تكن هناك ظواهر للمرض، لكنه كان يعاني عادة من وجع لم يفصح لنا عنه. فمعظم الأطباء و كتاب الادعية و السادة الذين عاينوه من قريب قالوا لنا إنه سليم معافى. فقد طلب مرات من شركة النفط أن تعمل على تقاعده، لكنهم لم يقبلوا ذلك، لانهم كانوا بحاجة الى عمله. كان يتقن اللغة الإنجليزية، و يقوم بتسيير أُمورهم الى أن شاهد ذلك الموجود الخبيث. كان الميرزا يقول لي:quot; كنت ذاهبا فجر ذلك اليوم الى الحمام العام عندما رأيت تلك السمراء الشمطاءquot;. لون وجهها لم يبق في خاطره بالدقة لكنه كان يقول:quot; اتصور ان لونها كان بُنيا يقترب من الاسود غبشا؛ و عندما رأتني، حدقت بي، و لعنتني بأيديها، غيرأنها سرعان ما توارت عن نظري، و لم اشاهدها بعد ذلك. فلم اعرف هل دخلت أحد البيوت، أو لاذت في أحد الازقة؛ كأن أرض الله فتحت فاها
وابتلعتهاquot;.
انني متأكدة أنها كانت منشأ المرض لزوجي، فقد ابُتلي الميرزا به بعد ذلك ولم يتعاف منه قط. الميرزا كان يقول:quot; عندما دخلت الحمام العام ذهبت اول ما ذهبت الى الخزانة، وبعد الاستحمام فيها ذهبت الى احدى الغرف، و فتحت الماء الحار، لآخذ دوشا حيث ملأ البخار الغرفة و ادى الى صداع و دوران في رأسي، ثم فقدت وعيي ولم اعرف ما ذا حدث لي بعدذلك. لكنني سرعان ماصحوت، و رأيت الحماميّ و الدلاك فوق رأسي. و ساعداني في ارتداء ملابسي. ارتحت هنيهة في مشجب الحمام، ثم ذهبت الى المنزلquot;. فقلت للميرزا اكيد أن جنا ًكان يعشعش في الحمام، لانك كنت سليما معافى؛ فلم يقتنع، كان يقول بأن قدميه انزلقتا و سقط على الارض المبتلة. فلم تظهر تلك الخنزيرة البُنية بالصدفة في الطريق المؤدي للحمام. على كل حال اعطاكم الميرزا عمره، و بقيت أنا و مجموعة من الأطفال الصغار. الله يرحمه، لم يتجاوز عمره الثانية و الخمسين عاما. عندما جاء الطبيب مساءً أبلغنا بأنه مصاب بجلطة دماغية، ولايجب تحريك جسده؛ فالأطفال كانوا في نادي شركة النفط وعند سماعهم الخبر جاؤُا الى البيت وعيونهم باكية. لكن ما الفائدة، فقد توفي الميرزا في اولى ساعات الفجر، و بالضبط في الساعة التي شاهد فيها تلك المرأة البنية في طريق الحمام.
سألت المرأة: كوني صادقة معي، أكلنا الخبز و الملح معا، و قدم الميرزاالكثير من المساعدات لزائر بردان في مناسبات عديدة و منحه المحبة و ساعده على ترتيب حياته و معاشه، فهل تتصورين أنه سينقل رفاته الى النجف؟
فقد خيبت آمالي زوجة بردان حيث قالت لي و بالحرف الواحد:
- لا. لن يوصل الرفاة الى النجف.
قلت: اذا ماذا يعمل بالجثث التي يتسلمها من أهلها؟
- العديد من الناس الطيبين يثقون ببردان، و يسلمونه اقرباءهم الموتى، ولا يعلمون ماذا يفعل بهم، فما يشغلهم شيء إلا ان ينفذوا وصية الموتى. لايعلم أحد غيري ما يفعل بردان بأمانته، وقد استحلفني ألا أبلغ احدا بذلك قبل الطلاق منه. و ضربني ضربا مبرحا ليأخذ مني هذا العهد. يتسلم بردان من ابناء هذه المدينة، جثة او جثتين شهريا، و يحصل على مال لابأس به من اقرباء الموتى لكني على ثقة بأن الجثث لا تصل النجف ابدا، بل و لا تعبر الحدود في اغلب الاحيان.
- كيف يمكن ذلك و كل هذه الطلبات تتوالى عليه؟ فهل يعقل ان الجثث لم تعبر الحدود؟
- اي حدود يا زائرة ؟ ياليته يدفنهم في مقبرة quot;السيد جوادquot; في الأهواز.
- اذن ماذا يفعل بالجثث؟
- بعد تسليمه لرفاة مات اصحابها قبل سنة او سنتين يخفيها في بيتنا. كنت انام في الليل وحدي في غرفة تحت درج البيت ممتلئة عادة من الصناديق الخالية و الملأى. فقد كان بردان يحب الاطفال لكنه و كما تعلمين لم ينجب اطفالا حيث كان يقول لي دائما: quot;ليت لي طفلا يرثني بعد رحيلي من هذه الدنيا، و ينقل جثتي الى النجفquot;.
لم اتمكن من النوم ليلا بسبب أنين الموتى حيث كنت اسمع الصفير والشخير والاصوات العجيبة والغريبة. وفي منتصف الليل كنت اخشى الخروج من الغرفة إلا برفقة بردان. فلم يكن لي بد إلا تحمل المشكلات، اذ لاأحد لي يؤيني أنا اليتيمة البائسة. في الابتداء كانت حياتي المشتركة مع بردان صعبة جدا، لكنني حاولت أن اتأقلم مع الموتى رويدا رويدا. فقد رحت اُلقّن نفسي بان الصناديق مملوءة من الفواكهة، لأزيح من رأسي فكرة الجثث و الموتى لكنني لم انجح يا زائرتي.
في تلك الصناديق الضيقة كان الموتى يعانون اشد المعاناة، ليلا و نهارا، و يصدرون انواع الأصوات. كانت ارواحهم سائبة في أنحاء البيت، تجول و تصول في كافة الغرف. لم يكشف بردان لي عن اسماء الموتى، و عندما أعلم باسم احد منهم كان يزورني روحه ليلا
و يعاتبني و يشتكي من وضعه السيئ ويلعن بردان.
- وفي النهاية هل علمت الى اي مكان ينقل الجثث؟
- أول عمل كان يقوم به بردان عند وصول الرفاة الى البيت هو نزع الاكفان منها، وذلك اذا كان هناك كفنا سليما بعد مرورعام او اكثر على وفاة الشخص. فهو ينتقي العظام الكبار و الطوال و يضعها في كيس ليتمكن من حملها بسهولة ومن ثم ينقلها الى خارج المدينة ليدفنها في الصحراء ليقول بعدها لذوي الميت بانه نقلها الى النجف.
فاذا كان يريد ان يبدي لطفا لأقرباء الميت ينقل الرفات الى منطقة الشلامجة، بين المحمرة والبصرة، للتلميح بأنه ينوي نقلها الى النجف لكنه كان يقذفها في نهرالشلامجة الحدودي بين ايران والعراق دون ان يعبر الحدود ابدا. ايقني يا زائرة بان بردان لايملك عقلا سليما حيث كدت ان اصبح مثله بعد كل هذه الحياة المشتركة معه. فهل يمكن ان يبقى الانسان سليما وهو يعيش مع الاموات؟ فقد انشأ مؤخرا صداقة مع جن اسمه quot; كافورquot; لتمتد مع آخرين من طائفة الجن.
بردان و الجن
كان بردان يحب ابن شقيقه حُباً جمّاً، و كان الطفل يعيش معنا معظم
الاوقات، و ينام في الليل الى جانب عمه بردان على سريره.
وقد توفي هذاالطفل بالسرطان مطلع الشتاء الماضي، كان
طفلا وسيما، لَسِناً، و ذكيا، عمره سبع سنوات، فحزن عليه
بردان كثيرا، لأننا كنا نعده ابنا لنا، ولذا حلف بردان أن ينقل جثته الى
النجف.
قال لي : quot; ساحتفظ بالجنازة هنا في بيتنا خلال زيارة الشاه الى الاهواز لرداءة الأحوال الأمنية وأنقلها بعد ذلك الى النجفquot;.
فكررت عليه :quot; أن هذا الطفل لم يبلغ سن الرشد بعد و ليس هناك حاجة لنقله الى النجف لأنه يعد من طيور الجنة واينما تدفنه يذهب الى الجنة بصورة عفويةquot;.
كان مصرا على ما قاله لي. و في الليلة الاولى وضع جثة الطفل في الفناء الخلفي للبيت، وعندما استيقظ في الصباح رأى الجثة ممدوة الى جنبه على السرير، فدهش و أخذ يصرخ: quot; هل يعقل أن يتحرك الموتى! هل عاد الروح الى ميتنا؟! وويل لي اذا احيي الموتى كلهم!quot; كان يشتم نفسه و يثرثر:quot; هل هذه حياة؟! والله العمل الذي يقوم به غسال الموتى او حفار القبور افضل من عملي هذا. فانت شاهدة عمر يا امرأة على هذا العمل القذر الذي صار نصيبي في هذه الدنياquot;.
وقد وصل الامر بالرجل ان يلعن نفسه. و قلت في قرارة نفسي رغم خوفي منه:quot; أيها الخبيث، انت تكسب الأموال من هذا العمل القذر
و تدفن الرفات في اي ارض تراها مناسبة حتى اذا لم تكن مقبرة وادي السلام في النجف. فقد كان بامكانك ان تستمر في عملك في شركة النفط بمنطقة كمب كريتquot;.
فقد قضى ذلك اليوم مغموما و مهموم. نقل الجثمان الى مكانه مرة اخرى. فهو كان يخشى ان تشتد الرقابة على الحدود الايرانية ndash; العراقية اثر الاعلان عن زيارة الشاه المرتقبة لمدينة الاهواز انذاك. وبما انه قرر ان ينقل الجثمان الى النجف اخذ يتحين الفرص.
في اليوم الثاني استيقظ و الجثمان الى جنبه على السرير مرة اخرى. اصيب بالدوار، اخذ يضرب رأسه بالجدار وهو يكثر الشتائم لنفسه. في الحقيقة انا ايضا دهشت من المشهد. كيف يمكن لجثمان هذا الطفل ان ينتقل من مكان الى مكان؟ فلم تطأ قدم أحد بيتنا في هذه المدة. فهل كان الطفل يحيا في الليل ويجيء لينام في حضن عمه؟ او ان أحدا من الجن ينقل جثمانه من الفناء الى سرير عمه لينتقم منه او يؤذيه؟ وكلما فكرنا في الامر لم نصل الى نتيجة.
لم نستطع ان نبوح بمصيبتنا لأحد،فالكشف عن مشكلتنا يمكن أن يفضحنا. تكرر المشهد خمسة ايام متتاليات،وفي اليوم الخامس جُن بردان، وأخذ يصيح بأعلى صوته:quot; انني كافور، انني كافورquot; ويكرر ذلك مرات و مرات. واذا ناديته باسمه quot; بردانquot; يضربني ضربا مبرحا باحد عظام الموتى. بقيت اخشى ان يتحرك سائر الاموات في بيتنا و يسببوا لي سوءا. حسبتهم يتصورون أنني شريكه في جرائم بردان عليهم، فهربت بسرعة من البيت، والوقت منتصف الليل؛
وتسكعت حتى الفجر في أزقة حي quot;الخزعليةquot;حتى انتهى بي الأمر الى مقبرة quot;السيد جوادquot; وأخذني النوم عند أحد القبور.
وفي الصباح سمعت أصواتا، تصورت أن اللعبة عادت من جديد، لكنني لم اسمع شخيرا و لا نخيرا. الاصوات كانت مجللة و تأتي من وسط المقبرة. والاشباح المكفنة تتحرك و تردد شعارات على الوضع المتردي للمقبرة. وهتفت معهم مع أن شعاراتهم لم تكن مفهومة، و لم أمش شوطا حتى وقعت رجلي اليمنى في ثقب لم اتمكن من إخراجها منه. شعرت بجناحين كبيرين على كتفي؛ تعززت معنوياتي غير أن القبر كان يجذبني. لم اتمكن من النظر الى الثقب المظلم الذي كاد أن يعميني. حاولت أن اطير، كررت الامر عدة مرات؛ لكن قوة أو يدا من وسط القبر كانت تبطل مفعول محاولاتي كلها.
حدقت في وجوه الموتى، رأيتهم يبتعدون عني و رجلي مقيدة في الثقب المظلم.
هذه القصة مأخوذة من كتاب قيد الطبع عنوانهquot; حتة و عيون شربتquot; يحوي على مجموعة قصص للكاتب تمثل جانبا من الادب القصصي في الاهواز.