تجارب من راهن الشّعر المغربي: نبيل منصر

عبداللّطيف الوراري: نُحاول، من خلال هذه المتتاليات القرائيّة، أن نكشف عن أهمّ القضايا المعرفيّة والجماليّة الّتي يحترثُها ديوان الشّعر المغربي راهناً، سواء على مستوى البناء أو اللّغة أو الإيقاع أو المعنى أو الذّات باعتبارها تشكّل أجروميّات الخطاب الشعري. بطبيعة الحال، يعجّ المشهد الشعري المغربي بالكثير من الأصوات والحساسيّات والرُّؤى الّتي يصعب أن نحيط بها جميعاً، ولكنْ رأيْنا أن نقتصر على ما يمثِّل وعْداً، وحْياً، أسلوباً، تاريخاً، جُرْحاً وتخْريماً في وعي القصيدة المغربيّة وأفقها، المتّصِل ـ المُنْفصِل ضمن سيرورة التّحديث الشاقّ والمحلوم به.
المتتالية الرابعة:
الشاعر نبيل منصر في عمله quot;أعمال المجهولquot;: أنا الشّاعر وأعباؤها

يقْدِم إلينا الشاعر نبيل منصر من رحم التسعينيّات الّتي شكّلت، في تاريخ بلده المعاصر، زمناً إنتقاليّاً مسّ، بدرجاتٍ متفاوتة، أطر الفكر والمجتمع والثّقافة، واجترح مفرداتٍ وحساسيّاتٍ جديدة على صُعُد الفنّ والكتابة الأدبيّة، لا تزال تتفاعل وتُعاني الولادات غير التامّة في معترك المغاربة الحياتيّ، حتّى اليوم. ولا داعيَ للقوْل ثانيةً إنّ أهمّ ما صار/سار إليه شعراء تلك الفترة هو الاحْتِفاء بأنواتِهِم في أشواقها، وجراحاتها، وهواجسها الصغيرة خارج الإيديولوجيا الّتي قرعوها بأسئلة الشكّ ومراوغة السّخرية. فإذا كانت للأنا في شعريّات الحداثة العربيّة تجلّيات نبوئيّة متكثّرة ومتنوّعة، إذ يغدو الشّاعر فيها قريناً لرسول المعرفة، وسارق النّار، والثّائر الحالم بالتّغيير، والمسيح الّذي يفتدي الآخرين، والمخلِّص الّذي يوحّد بين الكلمة والفعل، فإنّ الأنا في راهننا الشّعري تجدّف بمعظم هذه الصُّور وتهزأ منها، فيما هي تُحلّ محلَّها صُوَراً تثيرُ الدّهشة والحيْرة حيناً، والتّعاطف والشّفقة حيناً ثانياً، لشاعرٍ بالغ الهشاشة يكابد كلمةً منبوذةً بالعراء، وإن كان ذلك لا ينفي ظهورات رؤيا /رؤى جديدة بين نهلستيّة وعدميّة وميتافيزيقيّة تحتفر في طين المعرفة والحبّ والعزلة والألم.
وكما في laquo;غمغمات قاطفي الموتraquo;[دار قرطبة،1997]، يستأنف الشّاعر نبيل منصر في نُصوص مجموعته الشّعرية الثانية laquo;أعمال المجهولraquo; [منشورات اتحاد كتاب المغرب،2007] مشروعه الخاصّ والمختلف عن كتابة الأنا الّتي توجّهُها حساسيّةٌ محدثةُ مسكونةٌ بهمّيْن: يوميّ وميتافيزيقيّ. وإذا كانت الأنا لا تزْعمُ أيّ دوْرٍ تبشيريّ أو نبوئيّ أو حالمٍ بالتّغيير، إلّا أن ترفض الإذْعان لعصرها الآليّ الذي يشلّ أيدينا وأرواحنا، ولا ترعوي تنْقُضه بسؤالها وحسّها النقدي الّذي يشفُّ عن وعيٍ مستقبليّ يعمل في المجهول، بقدرما هو ضدّي يُعرِّض أعراف العصر ومسلّماته وكليشيهاته المتعاظمة لأسلوبٍ في الكتابة نابِهٍ ومُسْتكشِفٍ. هي أنا الشاعر الّذي لا ينفكّ عن إيقاع زمنه، ويأخذه علم جمال اليوميّ إلى تقفّي آثار العابر والبسيط والآنيّ والزّائل والهشّ، داخل العزلة الّتي يُواجِه منها قدره في الكتابة. يقول الشاعر في مفتتح عمله الشّعري:
quot;مُغْتبِطاً بالكلام
ألقُطه كالزّهر
وأكدّسه بغرفة قديمة
فيحيا، بجوار القطة الّتي تموء
العيْن الّتي تشربُ الظلام، واليد الّتي تتنَفّس.
لمْ أكن مُقْتنعاً كاليوْم
بالقدَر الّذي تصنعه الشّفاه،
وهي ترشق الْمَدى
بحصْوةِ الأعماق.quot;[ كلمة صغيرة، ص.9]
عن هذا الملفوظ الشّعري الدالّ تتناسل كثيرٌ من صورُ العمل ومجازاته التّالية، فهو من جهةٍ يعبّر عن رغبة الشاعر الجامحة في الكتابة كشرْطٍ صعْبٍ لوجودها، ويشفّ عمّا تُعانيه أناه، بصفته تلك، من أعباء تأكل من جوارحِها، وتُنكئ جراحاتِها، وإنْ كانت تقدح المتخيّل وترحيلاته.
وإذا بدا الشّاعر خالقاً لعوالم وأخيلة وحيوانات: quot; أنا الشاعر... أرفعُ كلمةً صغيرةً/ فيُضيءُ الكون،/ ويخرج ما يدبُّ في عروقه من حيواناتquot;[ص.12]، مثلما في قوله: quot;أنزلقُ على التّشبيهات/ ألمُّ الطبيعة/ أجيءُ بالأنْهار مِنْ آخر الكلمة/ أجيءُ بحجر القلق/ مِنْ فجر العلاقة،/ حيْثُ يتفجّر الليل كماء النّبْعquot; [ص.13]، إلّا أنّ لا أحد يُعنى بصنيعه، ولا يصدق ما يخلقه ويُفجِّره من مجازاتٍ. لذلك يظلّ الشّاعر ذلك المشّاء، القلق، المحتمي بquot;حائطquot; الألم والحبّ والمعرفة،quot; متوارياً عن الأنظار/ مُتحسِّساً بيديْه الفراغ كمفتاح،/ مُتجنِّباً المُدْيَةَ الّتي فتكتْ بالمتنبّي/ وأورثتْهُ بيْتاً هائِلاً من الظّلامquot;[ هشّ كانْتِحاب، ص.32]، وأمّا الكلمات الّتي كانت سلفاً quot;تجرح كالسكّينquot;، فقد غدتquot; تتساقط كالشَّعْرquot; [التابوت، ص.37]. وبالنّتيجة، تحتفر الكتابة طيَّ العمل حِسّاً نقديّاً يتحوَّل، من نصّ إلى آخر، إلى دالّ لافتٍ يشفُّ عن وعيٍ ضدّي تتّسم مفرداته بالشكّ والسخرية واللذوعيّة من جهةٍ، ويبتعد عن السنْتمنتاليّة وquot;عاطفة الرّومانتيكيّةquot; من جهة ثانية، ولا يتخلّى من الجهتيْن عن واجب الكتابة كفِعْل وجود يفترضُ شكْلَ مُقاوَمةٍ يؤمن بفاعليّة القصيدة، وإنْ ظهر أنّ quot;لحم الحصان لا يختلفُ عن لحم القصيدةquot;[السّاعة الآن ليست الأبدية، ص.52]، وأنّ quot;القصيدة لا تكفيquot;[ص.54].
في ضوء ذلك، نكتشف كيف يصير للأنا الشعريّة، رغْم ثبات المسار الّذي تُخادعنا به، قُدْرةٌ على التحوُّل والارتقاء بدالّ الكتابة إلى وسيلة معرفةٍ وكشْفٍ، وهي تستعيد ميراث المتنبّي وأبي تمّام وأبي العلاء والتروبادور والرومانتيكيّين ورامبو وملارميه الشّعري نقْضاً وتحويلاً، وتضعه من جديدٍ في مواجهة لحظتها الرّاهنة من عبور الشّعر والأزمنة والكائنات:
quot; الصّحْو صخْرةٌ جميلةٌ حقّاً،/ على ظهْرِها نصطاد/ ونُؤلّف قصائدَ كالكهف/ مَنْ يطأُ أرْضَها تنغلق عليه/ كهذا الشّتاء الذي يُغلِّف بيضتنا،/ ويُقْعي أمامها مثل كلْبٍ/ يُنْصت لهديرٍ بعيد.quot; [ما يُقال لأبي تمام بصدد الصحو، ص.49]
تُعيد الأنا النّظر في العلاقة الّتي تربط بين أدوات إنتاج القصيدة وعلاقات إنتاجها، ويترتّب على ذلك تعديلٌ في الحساسيّة الشعرية، ومن ثمّة تبدُّلٌ في منطق تشكُّل اللغة وجماليّاتها، إذ تشدُّنا اللغة إلى علاقاتها الدلاليّة نفسها، قبل أنْ تشدُّنا إلى شيءٍ آخر، ولا سيّما عندما تغدو هي نفسها quot;المأوىquot;:
كلمتي تُشْبه حجارة البناء/ مَنْ ضاعت منه فقد المأوى.quot; [الكلمات العائدة، ص.100]
مثلما تُعيد الأنا النّظر في علاقتها هي بالعالم على نحْوٍ يؤكِّد فاعليّتَها:
quot; سنلتقي في اللّيْل./ طريقُنا إلى النّرد يبدأ/ من نجومه./ وطريقي إلى الحياة لا ينتهي بهذه الحصاة/ الّتي لا تُحرِّك البرْكة،/ ولا تبعث الرَّنين في الضّحكات.quot;[التحديق في ملارميه، ص.96]
وإذا كان كتاب quot;مهد الثّلجquot;، المؤلِّف لنحو أربعين نصّاً وشذرة، يعكس بالإجْمال أنا الشّاعر الّتي تظلّ تنبض بالأشواق إلى الحياة، وترسل نظراتها الجارحة والرّائية للوجود، وتحمل أعباء همّها الميتافيزيقي في انْدِفاع الأسئلة الممضّة بأمل وحبّ، فإنّ الكتاب الثّاني المُتمّ للعمل والموسوم بquot;بداية تعمل باليدquot; يضيء أوضاعاً ممزَّقة من الأنا الّتي تعبر فضاءات اللّيل والقبر والظلّ والظّلام والدّهليز والكهف، وتكفر بالشُّرفة الكاذبة[ص.91]، وتنزل صخرة الخياليّ والعلويّ، وتقرِّر العمل باليد بدل الاكتفاء بالنّظر، فيما هي تُعالج خيبتها [الجائزة السوداء، ص.88]، الّتي هي خيبة أبناء جيلٍ بمن فيهم le poeacute;te chinois[ص.105]، حتّى باتوا جميعاً يرغبون ب quot;شنق الفنّ بساحات المدينةquot; [ص.95]. ويرجع الشّعور بالخيبة، في جُزْء حاسمٍ منه، إلى تقهقر مشروع الشّاعر ولا جدوى رؤياه في زمنٍ لا شعريّ، شائكٍ ومُظْـلم:
quot; تحمل كماناً على الكتف/ كمنْ يحمل أجنحةً ولا يطير./ تحت الصّخرة ينام العشب/ وتحت الحاجب تضْجَر العَيْن/ من كلّ هذه السماء quot; [تحمل كماناً، ص.93]
وقد يقترن ذلك بالصّمت ومسحةٍ شفيفةٍ من اليأس:
quot; الهواء هنا كالحجر/ عليه كتبْنا أسماءنا/ وضِعْنا بلا أملquot; [ إحذروا الصمت، ص.97]
مثلما يقترن بالتّيه: quot; بقيتُ وحيداً بلا دليلٍ أتحدّثّ إليهquot; [ثيابي الخفيفة، ص.106]، وبالعزلة القويّة [فيلم رديء، ص.110]. وفي سياق ذلك، تتحوّل ورشة الكتابة إلى ظلام [الورشة، ص.50]، وبلا فاعليّة [كرسي الملكة، ص.99]، والكتاب إلى قنديلٍ مريض [قطة الشراشف، ص.86].
داخل نصوص العمل الّتي تُخْلص لقصيدة النّثر وتبتهج بمعرفتها، غالباً ما يجْنحُ الشّاعر نبيل منصر إلى اقتصاد الكلم وتكثيفه المُوحي بثُخونة شديدة للمعنى الشّعري في مسار تدليله، ويحافظ علي لغةٍ قويّة وبسيطة في الوقت نفسه، لا تتكلّمُ من داخل رؤيا المجهول الّتي تُصعِّدها وتعملُ عليها إلّا ما يشي بروح التوثُّب والقلق الّتي لا تنسرب إلى الدّلالة فحسب، بل إيْضاً إلى المبنى المنطقي لنحويّة الجمل الشعريّة، وإلى نظام الرّتبة والمحاكاة الّذي تفترضه، بما يتولّد عنه معانٍ ملتبسة ومركّبة، واستعاراتٌ صادمةٌ وغرائبيّة كما في [مجيء من اليابسة، ص.19]، وفي [السّاعة الآن ليست الأبدية، ص.52]، وفي [بيتنا الجنوبي، ص.75]، وفي [ثيابي الخفيفة، ص.106]، تمثيلاً لا حصراً.
وبالرّغم من خيبة الأنا وعزلتها الّتي تشفّ عن تشقُّقات الكينونة المعاصرة، لكن في وُسْع الشّاعر الّذي ينشغل بمعناه في المجهول، ويرى أنّ القصيدة تُشْرق مثل مصباح، وأنّ اللغة مأوى الكائن الّذي جنّنه الشّعر أنْ يستأهل عذابات القصيدة، وأنْ يُصغي إلى ما تحبل به، الآن أو في الغد.