معرض بيروت الدولي للكتاب العربي
تجليات الحضور والغياب والخمر حل محله الجلاب

شادي علاء الدين من بيروت: حمل معرض بيروت الدولي للكتاب في دورته الحالية إسم الراحل الكبير محمود درويش فتوقعنا أن نجد إحتفالية ضخمة تليق بما كان يمثله هذا الشاعر من قيمة ومن أثر. إحتمى المعرض باسم محمود درويش لينقل لنا خبرا لم نكن نريد أن نعلمه وأن نصدقه ،خبرا يعلن بفظاظة أن الشاعر قد رحل فعلا وأننا لم نستطع أن نلتقط روحه وننشرها في المكان الذي نسميه معرضا للكتاب. ربما ظن الكثيرون أن الملصقات القليلة التي تزين الباب الخارجي للمعرض كافية لإحياء محمود درويش أو أن تلك المحاضرة التي تقدم فيها قراءات من شعره ستفتح الباب واسعا أمام القراءة التي كان ينشدها محمود في حياته والتي لم يحصل عليها.

لقد حصل محمود درويش على كل شيء، حصل على الحب والكره والتكريم والتقدير ولكنه لم يحصل على ما كان يتمناه حقا وهو القراءة. الآن ونحن في لحظة المعرض الذي يحتفي به ويحمل اسمه هل تحققت أمنية محمود درويش وهل نحن أمام حالة درويشية حقا أم أننا نقيم في حضرة الغياب فقط كما كان قد عنون احد كتبه الأخيرة؟

لا يوجد في المعرض ما يوحي أننا في الداخل الدرويشي أو حتى على تخومه نحن في الخارج حقا. لقد مات الشاعر ونحن نرتجل جثته ونزينها بما تيسر من وداع قليل لا يليق بحكايتنا التي اجتهد في كتابتها والدفاع عنها خلال أربعين عاما. كنا نقول فلندع الأعداء يفعلون ما يشاؤون فنحن سننتصر ما دمنا مالكين للكلام وما دمنا نمتلك قصائد محموددرويش وكان الشاعر يصر أن يقول إن الجرح في الجسد وفي الأشجار وفي الطرقات وفي القلوب هو جرح في اللغة وأننا سنفقد اللغة وسنفقد الكلام إذا فقدنا الأرض.

حمل محمود درويش مسؤولية صناعة وطن إفتراضي بديل يصلح بديلا من الوطن الأصلي مع أنه كان يصر دوما أن شعره هو للحنين إلى المكان وليس لنفيه. حُِّمل محمود ما لا تطيقه الجبال من أحلام مع أنه كان يدافع عن الحلم بالأمل ولكننا حولنا حلمه إلى خرائط لبلاد أخرى أضعنا خرائطها. هل يكتب معرض الكتاب سفر الخروج وهل نحن أمام بدايات النسيان التي من أبرز مؤشراتها تحويل محمود درويش إلى وثن ثقافي قابل للإستعمال في كل المناسبات وللتوظيف في الدفاع عن كل العناوين حتى تلك التي نذر شعره لمحاربتها.

ماذا يعني الإحتفاء بمحمود درويش ما دامت الأسئلة لم تطرح وما دامت القراءة لم تبدأ وما دام الدفاع عنه لم يجد صيغة أو هوية؟ لماذا استعمل كلمة الدفاع هنا في هذا المقام ؟أستعملها للتذكير بما تعرض له الشاعر فور وفاته من محاولة جادة لتشويه صورته والقضاء على أثرها من قبل حماس التي أعلنت في موقعها الرسمي عن تقبل التهاني والتباريك بوفاته والتي وجه إلى احد قادتها نقد داخلي لاذع لمجرد أنه قد عزى بالشاعر ولو بكلام بارد.

لما لا يرد المعرض ثقافيا على كل تلك الدراسات والمقالات والبيانات التي أغرقت المواقع الإلكترونية والتي تكفر الشاعر تحت دعوى التطاول على الذات الإلهية والتي تستشهد في ذلك تحت بمقتطفات طويلة من شعره تحت دعوى النقد والتحليل؟ لماذا لم يعمد المعرض إلى فتح ندوة خاصة بدرويش ينتج منها ورشة للقراءة وخاصة أن الكثير من مفاصل شعر محمود درويش لم تقرأ كما يجب حتى الآن ولا تعني غزارة المقالات التي كتبت في العديد من الصحف والدوريات العربية الشيء الكثير في هذا الصدد، لأن قسما كبيرا منها يحمل طابعا إحتفاليا تبجيليا وليس طابعا نقديا وكأن مدح درويش صار علامة على الإنتماء إلى نسق ما تحضر فيه قضية فلسطين بكل تجلياتها التي يكفي مدح درويش حتى يكون المادح مناصرا ومنافحا ومقاتلا في سبيلها.

لطالما قاوم الشاعر هذا النزوع وسخر منه في حياته وانتظرنا أن يكون هذا المعرض فاتحة ولم نطلب منه أن يقدم مشروعا مكتملا نظرا إلى قرب المدة الزمنية بين وفاة الشاعر وافتتاح المعرض ولكن لم يحصل شيء من هذا ولا من ذاك. الشاعر نفسه كان قد قدم اقتراحات كثيرة للقراءة من قبيل دراسة السخرية في شعره، وهو الموضوع الذي لم يعالج حتى الآن في شعر محمود درويش على حد علمي ربما لأن الجميع يصرون أن يروا فيه شاعرا متجهما لذلك رُفض دفاعه الأخير عن التفاصيل الصغيرة والحميمة للحياة التي كرس كتبه الأخيرة لها، وظل الجمهور بغالبيته يحن إلى مراحله الأولى التي كانت تتسم بالكثير من الصراخ والصوت العالي وهي النبرة التي اختفت كليا في شعره المتأخر وحل مكانها نوع من التأمل المتبصر والهادئ والعميق فكان الشاعر يربط قلة الحماسة بقلة الأخطاء ويعتبر أن الشاعر الذي تقل حماسته تقل أخطاؤه ايضا.

ألم يجد المعرض ما يدفعه إلى محاولة تشجيع الناس على قراءة شعر محمود درويش المتأخر بطريقة أكثر وعيا وتبصرا من خلال مساجلات نقدية تؤسس لقراءة جديدة متخلصة من أثر الحماسات التي أعدمت الكثير من القصائد من خلالها وكرست الكثير من القصائد فقط لأنها تحمل وشيها وسمتها؟

إذا تجولنا في معرض الكتاب نجده وكأنه لم يبارح زمنه السابق وكأننا امام متحف للحنين فقط .لا نعترض على الحنين إذا كان يفسر مواد الماضي ويقشر موضوعاته ولكننا نقع في معرض الكتاب في نسخته الحالية على الحنين الصافي فهناك احتفال بالحنين المتجلي في التحيات والتكريمات فعلى سبيل المثال أقيمت ندوة تحت عنوان :quot;تحية إلى الأخوين رحبانيquot; أدارها الشاعر هنري زغيب وساهم فيها الوزير السابق جورج سكاف والموسيقار الياس الرحباني ومي نصر التي غنت للرحابنة وفيروز ياريت إنت وأنا بالبيت واغنية لا تنسني من قديم فيروز وساعدني من مسرحية جبال الصوان. اعتبر الشاعر هنري زغيب أن ألحان الرحابنة وصوت فيروز قد أعاقا إلى حد ما على تلقي السامع لجمال الشعر الرحباني وأصر على قراءة قصائد الرحابنة عارية دون موسيقى وغناء فقرأ يا حلو شو بخاف إني ضيعك ويا رايح عكفرحالا وحبيبي بدو القمر وأصر على التذكير بقصائد الرحابنة الوطنية من قبيل مريت بالشوارع ، شوارع القدس العتيقة التي غنتها في نصر في ما بعد كما أن الموسيقار الياس الرحباني قد قدم مداخلة تحدث فيها عن ذكرياته.

ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو أنه في اللحظة التي يتجه فيها الفكر الفني في العالم إلى نشر الدراسات التي تعنى بمفاهيم وحدة الفنون واشتراكها نجد نفسنا أمام فكر يحاول ان يفرق بين الفنون وأن يجعل كل منها مستقلا بذاته ولا شريك له وربما يعود سبب ذلك في تقديري المتواضع إلى أننا نعيش في بلاد مقسمة تسود فيها الطائفية وغيرها ما أدى في إسقطاته على طرائق التفكير ومنهجيتها إلى تكوين رؤية تنظر إلى كل فن من الفنون على أنه طائفة أو منطقة لا يجوز أن يدخلها الغرباء وإن اصحاب كل فن يحاولون تعميم رؤية خاصة مفادها أن نوع الفن الذي يعملون به هو أرقى الفنون. هكذا يعتبر الشعراء ان الشعر هو أرقى الفنون وكذلك يرى الرسامون والموسيقيون.

رؤية زغيب في هذه المحاضرة لا تخرج عن هذا الإطار فهو شاعر لذلك انتمى إلى هذه الطائفة ودافع عنها متناسيا أن قصائد الأخوين رحباني حفظت وانتشرت بفضل تلك الرافعة الهائلة التي مثلها صوت فيروز فالناس تحفظ الكثير من شعر الرحابنة مغنى وما كان له أن يصل وينتشر بهذه القوة لو انه بقي مسجونا في الكتب وحدها ثم أن الغناء يضيف إلى الشعر ابعادا مؤثرة وفاعلة وجديدة لكننا لم نصل بعد إلى التفكير في الوحدة والتآلف ولم نبرح حدود التقسيم والتجزئة.

أقيم أيضا مؤتمر الناشرين العرب في حفل افتتاح اقتصر حضوره على الناس دون المثقفين. نظم المؤتمر الذي يتخذ مناسبة له إعلان بيروت عاصمة عالمية للكتاب دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع وديوان الكتاب للثقافة والنشر بالتنسيق مع وزارة الثقافة اللبنانية وإتحاد الناشرين العرب ونقابة إتحاد الناشرين في لبنان والنادي الثقافي العربي .شارك في المؤتمر العديد من الشخصيات من قبيل الشيخ فضل مخدر منسق عام المؤتمر وعمر فاضل رئيس النادي الثقافي العربي والسيدة سميرة عاصي رئيسة نقابة إتحاد الناشرين في لبنان وبشار شبقلو أمين عام إتحاد الناشرين العرب وعمر حلبلب مدير عام وزارة الثقافة. المداخلات كانت بمعظمها عرضا لواقع الكتاب العربي والمشاكل التي يعاني منها في الأسواق الأجنبية وعدم توفر الدعم الكافي للثقافة من قبل الدول والمؤسسات الكبرى كما عرضت لمشكلة نسبة القراءة المتدنية.

غاب عن ذهن المحاضرين أن المشكلة ليست في نسبة القراءة المتدنية فقط ولكن في نسبة الأمية التي تشير الدراسات إلى أن نسبتها في العالم العربي الكريم تبلغ الخمسين في المئة أي 100 مليون أمي كما غاب عن ذهنهم أيضا تلك الدراسات التي تعلن أن اللغة العربية بكامل جلالها مهددة بالإنقراض كون اصحابها توقفوا منذ فترة طويلة عن إنتاج الفكر. لا يمكن تلمس حالة البيع في المعرض بشكل واضح فبعض دور النشر تنعي حظها وبعض الدور الاخرى تشهد إقبالا جيدا ولكننا نشهد في هذا المعرض بعض الحيل التسويقية الجادة فقد عمدت الكثير من دور النشر إلى استقدام كميات كبيرة من الكتب القديمة وطرحتها في المعرض بأسعار زهيدة ما كثف من عملية الإقبال عليها كما أن هذه العملية شجعت الناس وخاصة ذوي الدخل المحدود على الإطلاع على بعض العناوين الجديدة وإقناعهم بشراء بعضها.

المؤشرات المالية تقول إن بعض دور النشر قد تحقق أرباحا في حين أن بعضها الآخر سوف يكتفي بالمشاركة آملا الا يخسر.المنطق الذي يسيطر على المعرض هو كما كان سابقا منطق الكبير والصغير فالأمكنة الأساسية الكبرى تحتها دور النشر الكبرى في حين تتوزع دور النشر الصغيرة على الأطراف ناهيك عن أن المؤسسات التي تمثل الدول والتي لا تبيع الكتب بل تعرضها فقط كان لها حصة مميزة وواضحة ومسيطرة على مساحة المعرض.

بعض دور النشر رفعت أسعار كتبها الصادرة في السنوات الماضية بحجة غلاء أسعار الورق وبعض دور النشر العربية رفعت أسعارها بشكل كبير وخاصة دور النشر السورية حيث ازداد سعر كتب فراس السواح مثلا 6دولارات عن العام الماضي علما أن هذه الكتب لم تطبع حديثا بل هي قديمة لذا فإن هذه الزيادة الضخمة في الأسعار غير مبررة على الإطلاق. دور النشر التي تعنى بكتب الاطفال كانت قليلة هذا العام كما ان الكثير من دور النشر الإسلامية غابت عن المعرض لأسباب ليست واضحة بدقة وإن كان السبب السياسي هو السبب المرجح.

الحضور الاكثر قيمة برأيي الشخصي كان لكتب المنظمة العربية للترجمة التي يشرف عليها الباحث التونسي الدكتور طاهر لبيب والتي يوزعها مركز دراسات الوحدة العربية إذ إنها قدمت في هذا المعرض العديد من الكتب الأساسية في الفكر الغربي إلى القارئ العربي بأسعار معقولة.

الهمروجات الخاصة بتوقيعات الكتب كانت سيدة المشهد وصانعة الحراك في المعرض وخاصة الهمروجات الخاصة بالسياسة من قبيل كتاب الوزير غازي العريضي .هناك همروجات خاصة بتواقيع الروايات وكتب الشعر وخاصة عند دار النهضة العربية التي كانت قد طبعت مؤخرا أكثر من عشرين ديوانا شعريا لشعراء من لبنان والعالم العربي وأقامت حفل توقيع للعديد منهم ونجحت في صناعة أكبر حشد إثر توقيع الشاعر عصام العبدلله لديوانه مقام الصوت المرفق بكاسيت مع موسيقى مصاحبة له لزياد الرحباني.

أوجد في المعرض في هذا العام مصلى للنساء مغطى بساتر من القماش كما أن الخمر التي إعتادت الكثير من دور النشر تقديمها غابت هذا العالم ليحل مكانها الجلاب ما يطرح أسئلة عديدة عما إذا كان التطبيع السياسي مع القوى الإسلامية قد ألحق بتطبيع ثقافي.

يبقى ان نقول إن المكان الوحيد الذي حرص على التركيز على حضور محمود درويش كان جناح دار رياض الريس للنشر والتوزيع حيث احتلت جدرانه لوحات تعرض لسيرة الراحل وصور تجمعه مع الزعيم أبو عمار وتؤرخ لأبرز المحطات في شعره إضافة إلى صور تجمعه مع الناشر كما أن الدار كانت قد طبعت كتابا يتضمن مختارات من شعر درويش وقدمته مجانا. هناك الكثير مما أحببناه في هذا المعرض ولكن هناك الكثير مما يوجعنا أيضا.