معرض جوسلين صعب الفوتوغرافي

شادي علاء الدين من بيروت: ليست الأيقونة جسدا ولا يمكن لها أن تحمل شبهة الإشارة إلى ما هو جسدي فهي لا تفارق حالها أبدا. تسكن في أبدية النور والتعالي مفارقة للبعد السياسي للجسد الذي يحيا في تماس مع الحوادث ومع العالم والذي يحتاج دوما إلى إعادة إنتاج علاقته به. هكذا لا يكون الجسد قابلا للتحديد ما لم يكن في تماس مع السياسي ولعل الجسد السياسي هو من أكثر المواضيع إثارة للجدل والتي لم تتقدم سيرورة الافكار والمفاهيم إزاءها إلا بقدر كبير من البطء.
يدخل الجسد في السياسي ليكون صاحب أحوال أما حين يتأيقن فإنه يفقد القدرة على التحرك وعلى العيش فيصبح مادة للموت كما هي حال النجوم الذين يظهرون جثثهم الأيقونية إلى العالم بوصفها مادة مشعة على الدوام ولكنها لا تقبل لكي تبقى في هذه الحال باقل من الموت. يموت النجوم وتحيا أيقوناتهم.
الجثة هي إذا علامة الايقونة ومجالها وخطابها. تشحن الايقونات بالجثث بقوة لا يمكن إزاءها للقراءة إلا ان تكون ذلا وتوسلا واستعطافا لا تفكيكا وانزياحا خاصة أننا شعوب تقيم داخل الفضاء السردي للموتى الذي يعني تأبيد سلطة الأيقونة.
تعمد جوسلين صعب في معرضها الذي أقيم في صالة كوكب الإكتشاف في ستاركو على دفع الأيقونة باتجاه السياسة وجعلها مادة يستعيد من خلالها الجسد المطمور فضاءه وحسه ويجد نفسه مجبراعلى الدخول في علاقة مع العالم بغض النظر عن طبيعة هذه العلاقة. تعلم المخرجة والمصورة الفوتوغرافية أن الايقونات لا تحتمل الخفة والمزاح ولا حتى الإيروتيكية فهي نسق من صلاة مفتوحة ما أن يهاجمها العالم بصلاته وألعابه وضروراته حتى تتكسر. سرها في المفارقة وقوتها في الإبتعاد ولذلك يكون تأويلها مستعصيا لانها بلا علامات ولا إشارات فهي تتشكل من الإيعاز والإيحاء فقط وليس من الحوار.
تدخل جوسلين الأيقونات في الحوار وتجبرها على التعاطي مع السياسي بكافة تجلياته. تقوم بلعبة ساخرة فهي تحافظ على حضور الأيقونة بما هي عليه ولكنها تحيطها بالعلامات والحيل فتجعلها بلا سلطة وتجعل من ثبوت معناها مستحيلا أمام الهجوم الفسيفسائي للتفاصيل المرصوصة بعناية توليفية وتأليفية عالية.هنا يدخل العقل إلى اللعبة بصفته حارسا للجنون وليس مضادا له فيقوم بترتيب العناصر الداخلية للصور الفوتوغرافية المركبة كمن يرسم خريطة لبلاد اندثرت منذ قرون سحيقة ولكننا نعرفها بيقين غامض لا يمكن الدفاع عنه بالعقل نفسه ولكنه وحده القادر على جعلنا نرصده.هذه المفارقة تؤسس لسمة داخلية تتفشى دالخل أعمال جوسلين صعب الفوتوغرافية التي يضمها المعرض وهي تعلن ببساطة أن الجنون لا يستطيع أن يلاحظ إلا بواسطة العقل فالعقل هو الشاهد عليه ولكن الخاص عند جوسلين هو حرمانها للعقل من حق الإدانة والحكم وجعله صاحب نظام مواز للجنون يمشي معه ويتحالف معه على رصد سيلان الأيقونات وذوبانها إزاء عصف العالم المثقل بالسياسي.
تعلن جوسلين أنه ممنوع على الأيقونات أن تجرح وتقتل بعد الآن وممنوع عليها أن تحمل الغياب بل عليها الدخول في الحضور والحلول في مجال جسدي سياسي يجعل منها معلما حيا قابلا للنقاش والقراءة واللمس وكل تدخلات الحواس والمشاعرلذا كان إسم معرضها عقل وأيقونات وأحاسيس.
هذا الحوار بين هذه الاقانيم الثلاثة والذي يبدو عادة مستحيلا صار مع جوسلين نظام علاقات ونظام تبادل وخطاب معرفة وقراءة.عقل الأيقونة يسيل مشاعر. أحاسيس العقل تبارك الجنون وترعاه.يتأيقن الحس و الأيقونات تحس وتعقل وبذلك تصبح شخصية وخاصة فتتداعى وتتهاوى سلطتها القاسية دفعة واحدة.
أيقنة الرعب:
تحت سقف القبل التاريخية التي تغرق الساحة اللبنانية الآن بأجواء العيد المفتوح الذي يستطيع ما أن يحل إلغاء كل الواقع وصناعة واقع إفتراضي يتألف من أيقونة السلام مسجونة في عين الكاميرا قررت شركة سوليدير منع عرض مجموعة من الصور التي يضمها المعرض تحت حجة الحرص على عدم إثارة النعرات والحساسيات في هذه المرحلة. مُنع عرض تسع صور تتعلق بالمواضيع السياسية المباشرة لبنانيا وعربيا . منعت صورة تمثل الغضب الشعبي إزاء الصراع العربي الإسرائيلي اللبناني وتحمل عنوان مساحة اللعبة الإسرائيلية الأميركية وأخرى تتناول موضوع الحرب في العراق تبرز أوراقا نقدية تلف صورة الرئيس صدام حسين كما منعت صورة يظهر فيها المسيح والسيد حسن نصر الله على منصة في سوق الأحد يشرفان جنبا غلى جنب على مقبرة مشتركة للطائفتين وصورة للسيد المسيح مصنوعة من بلاستيك ذي مصدر بترولي.
يطرح هذا المنع في هذه اللحظة سؤالا خطيرا يتعلق بماهية هذه البلاد التي لا تستطيع إحتمال نزول أيقوناتها إلى ارض الواقع لتتعاطى مع جمهورها المستعد للموت من أجلها. يطرح المنع سؤال السياسة بسخرية قل نظيرها فإذا كان السلم الأهلي المتين والمجمع عليه قابل للإنهيار بمجرد أن ينتقد أو يتم التعاطي معه بالفن فإن استنتاجا مرحا يتركب من هذه المعطيات وهو يقول إن الشخصبات التي يتم تصويرها سواء أكانت شخصيات سياسية او دينية تستطيع الوجود في غياب العلاقة معها فقط وإن كل محاولة لخلق علاقة معها هي علاقة تنذر بالخطر العام الذي يطال كل الطوائف بشكل موحد. تجيد الطوائف في بلاد العناقات هذه أن تدافع عن حدودها بالحديد والنار وهكذا يمكن لتأويل إفتراضي يعلن بأن هناك في معرض معين ما من شأنه أن يثير غضب هذه الطوائف أن يكون مدخلا للمنع.
الفن يكون في هذه الحالة أسير إرهابين هما إرهاب السلم وإرهاب الحرب ففي الحرب لا يستطيع الفن إلا التلعثم فالشاشات أثناء الحرب لا ترى في الفن إلا تراجعا عن ضرورة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة وفي السلم كما هي الحال لبنانيا تمنع الصور مثلا لدواع تتعلق بضرورة صون السلم الاهلي.
الفن ضعيف في بلاد الطوائف ولا يملك بيانات ولا لغة امام بيان النار والحديد ناهيك عن أن الطوائف بدات بمحاولة السيطرة على الفن في لبنان فصارت صور الزعماء أيقونات تدخل في اللوحات فتسرق من المتلقي عينه كما كان الزعيم يسرق منه حياته وهكذا تكتمل المجزرة تماما فالمشاهد إزاء لوحة تمثل الزعيم أو أمام صورته هو مشاهد أعمى واخرس فهذه الصورة لا تخبر عن الفن ولا عن السياسة بل عن الرعب وعن الرعب فقط.
أيقونات الرعب المتجمدة في الصور تسيطر على البلاد.لا مجال للعب والرقص والغناء لا مجال للسرد والقراءة.لا مجال للمزاح والإشتهاء أي ببساطة لا مجال للفن أمام سطوة الأيقونات القاتلة.
عمارات الريح:
تخصص الفنانة جزءا من معرضها لعرض تصور خاص لبنية الخيمةوالقماش في علاقتها مع معنى ترحالي متنقل يرفده الضوء وتشابك الخيوط بنظام دلالي يتركب من فنتازيا إيحائية متحالفة مع عناوين شعرية.
هذه العمارة الخفيفة تصلح لبناء الرموز الممتده والتي تستطيع عبور الزمن لتصير سردا يحمل دائما إحالة مركبة من السياسي والنفسي والثقافي. هشاشة هذه العمارات تقول في السياسة الكثير فهي تحجب المرء عن رؤية العالم الخارجي وما يحدث فيه ولكنها تتركه عرضة لكل مؤثراته وبذلك لا تكون سكنا حاملا لصفة المنزل النفسية والتي تدل في معناها العميق على الأمن والإستقرار بل تبدو وكأنها عبارة عن منفى إختياري كان الكائن العربي يسكنه ولا زال حتى اليوم مقيما في نفس إحالاته الدلالية أي في العماء والحيرة وغياب التأثير في العالم وعدم القدرة على صد الرياح الأجنبية التي ما أن تعصف حتى تصبح هذه العمارات وأهلها رهائن لديها لا يستطعيون من أمرهم شيئا.
لا تحصر الفنانة لعبتها القماشية في هذا الحيز فقط بل تترك الضوء يتخلل القماش أحيانا ليرسم أحوال العاشق في سكره وألمه ونشوته في صور مركبة تحمل الكثير من سمات اللعب المبني على لعبة تشابك القماش وتسلل النور إلى عتماته بطريقة تختلف مع كل صورة وتخلق بنية معنوية تصر الفنانة على تكثيفها بالشعر من خلال العناوين التي تحرص على دفعها إلى حدود الغلو مما يجعل علاقتها بالمشهد البصري الماثل في الصورة صعبة ومعقدة وربما مستحيلة لكن هناك دائما ما يدفعك للدخول في لعبة التأويل الخاص الذي لاتتنازل عنه جوسلين أبدا ففي المسافة بين العنوان المفتوح والصورة التي مهما كانت دلالتها فإنها تبقى محاصرة بالحدود تنبثق المتاهة وتثب لتنتصب في وجه المشاهد مجبرة إياه على صوغ سستام دفاعي جديد وليد اللحظة. هنا لا يستعيد المشاهد أو يتذكر بل يناقش وينفعل ويغضب ويحتج ويد فع عن نفسه هذا الهجوم بالقراءة. ليس من الضروري أن تمشي هذه القراءة في نفس الخط الذي رسمته الفنانه ولكنها ما أن تحدث حتى تكون اللعبة التي ينشد المعرض تعميمها قد انتشرت وتفشت وصارت مرضا جميلا ومعديا.
لا استشراق ولا استغراب في معرض جوسلين صعب إنما سخرية صارمة تتغذى على مباهج التحوير وهكذا تصبح باربي والأمراء وكامل محمول الجنس والموقف من المرأة مجرد عناصر متشتتة تجد معناها في ذلك المنفى الساخر الذي فتحته الفنانة وهو الصورة المصنعة فنيا والحاملة على الدوام لنزوع سياسي.