عبداللطيف الوراري: نُحاول، من خلال هذه المتتاليات القرائيّة، أن نكشف عن أهمّ القضايا المعرفيّة والجماليّة الّتي يحترثُها ديوان الشّعر المغربي راهناً، سواء على مستوى البناء أو اللّغة أو الإيقاع أو المعنى أو الذّات باعتبارها تشكّل أجروميّات الخطاب الشعري. بطبيعة الحال، يعجّ المشهد الشعري المغربي بالكثير من الأصوات والحساسيّات والرُّؤى الّتي يصعب أن نحيط بها جميعاً، ولكنْ رأيْنا أن نقتصر على ما يمثِّل وعْداً، وحْياً، أسلوباً، تاريخاً، جُرْحاً وتخْريماً في وعي القصيدة المغربيّة وأفقها، المتّصِل ـ المُنْفصِل ضمن سيرورة التّحديث الشاقّ والمحلوم به.
المتتالية الثانية:الشاعر حسن نجمي في ديوانه quot;على انفرادquot;: صيرورة الذّات المُتلفّظة في عُزْلَتِـها.
بدْءاً من quot;لك الإمارة أيّتها الخزامىquot;1982، مروراً ب quot;سقط سهواً quot;1990، وquot;الرياح البُنّيةquot;[ بالاشتراك مع التشكيلي محمد القاسمي] 1993، وquot;حياة صغيرة quot;1995، إلى quot;المستحمات تليها أبدية صغيرة quot;2002، لم يأْلُ الشاعر حسن نجمي جُهْداً في نحْت تجْرِبتِه وتطْويرها مُنْذ بِدايات الثّمانينيات، الّتي يعضدها بِرُؤية معْرفية وفنيّة للشّعر ومفهوماته مادامَ quot;أنّ كتابة الشِّعر تظلُّ دائماً بحاجةٍ إلى وعْيٍ نقديٍّ ومعرفةٍ جماليّـةٍquot;، مثلما يقُول الشّاعِرُ نفْسُه في كتابه [الشاعر والتجربة، دار الثقافة، الدارالبيضاء، ط.1، 1999].
في عمله الشّعري الجديد quot;على انْفراد quot;[منشورات عكاظ، ط.1، دجنبر 2006./دارالنهضة العربية، ط.1، 2007]، يُواصل الشّاعر سيرورة تحديثه للقصيدة المغربية، إذ يبدو للقارئ quot;عملاً شِعْريّاًquot; يخْتزِنُ خِبْرةً شديدة الحَساسيّة بكِتابة قصيدة النّثْر، وتوْقاً دفيناً لِترْتيب أشْجار النّسب الشِّعْريّ المَغْربيّ في تنْويعاتِه الْكِتابيّة والْجَماليّة.
من التّفْصيل التّشكيلي للَوْحة الغِلاف، والإهْداء الأَكْبر المُفارِق، والتَّصْديرات الّتي يفْتتِح بِها الدِّيوان أقْسَامَه الأَرْبعة على اخْتِلاف مَصادِرِها البانية، كَما العَناوين الّتي تَسِمُها الإيحاءات الأخّاذة لكُل قصيدةٍ من قصائِده الْمُهْداة، في مُجْملِها، إلى أصْدِقاء أحْياء ومْوتى، عَدا التّدبير الْجَماليّ اللّافت للصّفْحة الشِّعْريّة الّتي تشعّ بعلاماتِها الأَيْقونيّة كأنّها quot;احْتِفالquot;. إلى ذلك، يشعُّ ظهْر الْغِلاف بهذ1النصّ الشِّعْريّ كأنَّه quot;كوْكبة نجومquot; وسط غسق اللأَلْوان والْتِباسِها:
quot; يَضَعُ يَداً عَلَى يَدٍ.
صَارَتْ غَيْمَتُهُ بَعِيدَةً.
وَنَدَبَتُهُ عَزْلَاءَ، ـ
كَأَنَّهَا جُرْحُ رُخَامٍ عَلَى أَنْفِ تِمْثَالٍ قَدِيمٍ.
صَامِتاً...يُدَارِي دَمْعَتَهُ الخَائِبَةَ.
بِلَا صَحَابَةٍ ـ
قَدْ أَصْبَحَ لَهُ يَأْسُ الأَنْبِيَاءِ الضَّجِرِينَ. quot;
في زَعْمي أنّ النّصّ ـ الّذي لمْ يرِدْ في ثَنايا الدّيوان ـ يُلخِّص الْمُتَخيّل الشّعْري في العمل، الّذي جعله الشّاعر ـ لا النّاشر ـ دلِيلاً أبْيَض في ليْل القصيدة، ومحْرقيّة لافِتة لا أقول أنّ العَمَل الشّعْري يتفكّكُ منْ خِلالِها ـ مثلما يزْعم التّفكيكيّون، لأنّ الشّعْر أشقّ على أنْ يتفكّك أوْ ينْحلّ مِنْ تِلْقاء نفْسِه ـ، ولكِنّها أشْبه، بعيداً عن الوُثُوقيّة، بquot;بلّوْرquot; يعْكس الأضْلَاع المُتقابِلة لِلْمُتخيّل. ولهذا نحْن نُثمّن اخْتِيار الشّاعر، كما نحْتفظ لأنْفُسنا بالْحذر من أنْ نذْهب ضحيّته.هو ضوْءٌ بقدْرما عَتَمة.إيضَاحٌ و إغْماضٌ.
في كلّ بؤرةٍ من عمل الدّيوان الشّعْري تتحرّك الذّات الشّاعرة الّتي تبْسُط ظلالها في أحيازه الكَثِيفة الّتي، برغْم محْدوديّتها، تشعّ بأطْياف مُتخيّلها الْعابِرة في الْقصيدة، والْحياة، والتّاريخ، والطّبيعة السّخية والصّداقات. في لُغةٍ تتقصّدُ الشفّافية في التّعْبير عنْ حيواتِها، المُنْحازة إلى سرْد التّفاصيل الصّغيرة للذّات، حَيْث الإحتفاء شعريّاً باليومي، وبالتفاصيل العابرة، التي لا يُدركها إلا النّظرُ الْحادّ الْمُنْتَبه لِشاعرٍ مُنْحازٍ للْعرضي والْبَسيط والْمُهمّش والْيَوْميّ كاسْتراتيجيّة يُراهِن عليْها في البحث عن أفق مغاير للتعبير الشعري الّذي يَميلُ إلى كِتابةٍ نابِعَةٍ مِن التّجْربة داخل جَماليّات قَصِيدة النّثْر منْ جِهةٍ، وفي عُبور الذّات نحْو الآخر منْ جِهةٍ ثانية. فالشِّعْر، بتعبير حسن نجمي، هو quot;تمثُّل العابر والعرضي والجزئي. ومن ثم تظلُّ الدّهشة هي سمتهُ الأساسية.. وهذا معناه أننا نسعى لأن نجعل من الدّهشة صيغة للعبور نحو الآخر.quot;[الشاعر والتجربة، مرجع سابق، ص. 41].
هذه الشّعرية، الّتي يُمْكن نعْتُها بشعريّة الدّهْشة، تسْرح في الدّيوان عَلى نحْو بازِغ لَا تُخْطِئُه الْعيْن، وهي بقدْرِما تكْشِف هَشاشتَها بِقَدْرما تحْتَفي بِما حَوْلَها منْ كائِناتٍ ومُمْكِناتٍ ذاتِ قَرابةٍ رَمْزيّة ومادِّيّة بِذات الشّاعر وسيرتِه بدْءاً من الإنْصِراف حتّى الْحَيْرة الْكُبْرى.نُعايِنُها في الصّداقات الحيّة الّتي تُشيِّدُها الذّات في زخم عُزْلتِها مع شبِيهيها أمْثال لويس بورخيس و ريتسوس و برودوسكي ودرويش وأدونيس ومحمدشكري إدريس الخوري وعزيز أزغاي، في الْكِتابة والْحياة عَلى نحْوٍ يرْفد الميثولوجيا الشّخْصية للذّات ويتقاطع معَها دون ادّعاء بالتّطابق، سواء quot;الصداقة التي تنصت وتبدي وجهة النظرquot;، و quot; الصّداقة التي لا تُصادر ولا تستحوذ، ولا تُفاضِلquot;، وquot; الصّداقة الحُرّة التي لا تلقِّن بل تعْرض نفسها في بساطة وتلقائية وصمْتquot;.[المرجع نفسه، ص.142]. ونُعاينُها في الْوَمضات الّتي تنْثُرها quot;شِبْه أُوطُوبْيُوغْرَافْياquot; تسْتعِيدُها الذّاتُ بِما يُشْبِه حنِين الْخَسارةِ وحِكْمَتها حيْثُ لَا أجْمل مِنْ مسْقِط الرّأْس، ومنْ quot;امْرأةٍ كانتْ تَبيعُ الْخُبْز في quot;بنْ احْمَدْquot; في جِلْبابِها الْبُنّي الْقَديم، ومنْ ترْبيّة الْحُبّ الأوّل الّتي تقْتَسِم معَ الْحُلْم quot;كُلّ شيْئquot;، ومن الأصْدِقاء الّذين خُطِفوا مِن الْحياةِ أوْ وقَفُوا عَلَى شَفاها، في سِياق الإِسْتِعادة تُواجِه الذّات حَقائِقَها quot;على انْفِرادquot;، سَواء بِالنّظر فيquot;ألْبوم العائِلةquot;، أوبالتَّذَكّر الْمُمِضّ للزّمن الْجَميل، أ أوْبِعَزاء النّفْس عبْر التّماهي مع الشّبيه يُوسف في قِصّته، و مِن خِلال اسْتِعارة تِقْنيّات الرّمز الطّبيعيّ[الْماء، الظّل، اللّيل]والثّقافيّ[الْمِرْآة، التّمثال، الْكُرسيّ]، الّتي تشِفّ عنْ مأساتِها وهي تعْكِسُ مابِأعْماقِها مِنْ خيْبة، وندَم، وذُبول وتشظٍّ.لا تَصِل الْمَأساة إلى ذِرْوتِها إلّا عِنْدما يُكثّف الشّاعر تاريخَ الذّات الْمجَازي مِن خِلال اللّيْل وعَبْره:
quot; أظْلَمْتُ كاللَّيْلِ.
أَنا الآنَ لَيْلٌ في اللَّيْل.quot;لَيْلي تَاريخُ اللّيْلquot;!
نفَسي يخْتَنِقُ.وأحْلُمُ بِكَتيبَةٍ مِنْ ريحٍ.quot;[أظْلَمتُ كاللّيْل، ص.105]
هُو الشّاعِر الأعْمى الّذي يُصادِق اللّيْل بِما هُو مُعادِلٌ للْعَمى والْعَتَمة والصّمْت والْعُزْلة أحْياناً، والْكِتابة والْحنين والْمودّة والإنْتِشاء أحْياناً أخْرى. ليْل الشّاعر، وليْل الْحبيبة، وليْل الْقصيدة.الْمُعْتم والمُضيء، الْفَارِغ والْمُمْتلئ.
وممّا يتصيّده نظر الشّاعر الحادّ المُـنْتبه ما يُدوِّنه، أيْضاً، في quot;دِفْتر الشّذراتquot;، الّذي ينْقلنا، بكَثافَتِه واقْتِصاد عَلامَاتِه الأيْقونيّة، إِلى شَظايا الذّات الّتي انْتهَتْ، في صَيْرورَتِها، إلى ما يُشْبِه quot;خُلاصَات حِكْمةquot; مِنْ نفْسِها ومِمّا حَوْلها، تجْمع بيْن الإيحَاء بِهُموم الْجَمَاعة، والإرْتِفاع بِشعْر الْحُبّ في مقامِ الصّفاء، والإصْغاء لصَريخ الذّات وهي تَسْتحيلُ إلى quot;حجَر وحِيد ـ تَتَأكَّلُهُ العُزْلَةُ.quot;، حتّى أنْطقت لِسان الشّاعر في صَوْت ـ إِطْباق:
وحْدي فِي الغُرْفَةِ.
أُسْمِعُ أُذُنَيَّ صَوْتَ قَصيدَتي الأَخِيرَة
....
أصْبَحْتُ أتَهَيَّبُ مِنْ كَلِماتي!quot; [ صَوْت، ص.126]
بالشّعْر الّذي يحْتفي بدهْشَته البانية مِن خِلال التّرْكيز على اليوْميّ والْبسيط، يرْسم الشّاعر بورتريهاتٍ، ويُعيد بِناء علاقاتٍ، ويلْتَقِط شَوارِد، ويسْتَخلص مُشاهداتٍ وأسْفاراً في الضّوْء والظّلام.الْحياة والْمَوت. الصّمت والصّريخ.الْغِبْطة والْحِداد وغيْرها مِن مُفْردات التّجربة الذّاتية الّتي يحْياها دون أنْ ينْحدِر بِها في الْمُبْتذل، أوْ يَتعالى بِها عنْ دَلالاتِها الْمُحايِثة الْحيّة بِما يَتحقّق التواصل الإنساني الحقّ.من هُنا الحاجة التي تتمثل في القبض على التفاصيل الصّغيرة التي توجد خارج quot;الإقتناعات الكبرى، في الغربة والمنفى، في العُزلة والوحدة، في المتخيل والذّاكرة، في الزّائل والمهمّشquot;[الشاعر والتجربة، ص.17]. مِنْ صّداقة الشُّعراء وصداقة الْفراغ(ص.68)، إلى صداقة اللّيْل الّذي يتذكّر الشّاعِر في عُزْلتِه فـيصيرُ مِثْلَه: quot;أظْلَمْتُ كاللَّيْلquot;[ص.104].
إنّنا، في زخم التّجْربة الّتي يبْسُطها العمل الشّعْري، أمام الأطوبيوغرافيا الشّعْرية للذّات، أي تِلْك الّتي تتحرّك عَموديّاً باتِّجاه التّعْبير عن أحْوالِ عُزْلتِها قبْل الإنْصِراف وبعده الّذي فتَح الطّريق إلى الناس حتّى الْحَيْرة الْكُبْرى.نكْتشف هذا الزّخم في عدد الْعلاقات، ونوْعِيّتها، ومُسْتوياتِها، والإيحاءات الْمُتولِّدة عنْها وآثارها في بِناء الْمُتخيَّل الشّعْري؛ وذلك في الْقوس الرنّان الّذي يشُدّ الّذات بِآخرها لِحاجَتِها إلَيْه، روحيّاً ومادّياً.في الذّات يُقيم الآخر الّذي يصيرُ في اخْتِلافِه شَبيهاً لها دون أنْ يكُون مُطابِقاً. بِدايةً من الأصْدقاء الشّعراء الّتي تُقيم معهم ميثاقاً لفهْم التّجْربة وتعلُّمها في التّصْديرات أوْ داخِل النّصوص، وبخاصّة بورخيس الّذي يُفْتتحُ به الدّيوان ويُكرّسه كحَالةٍ مخْصُوصة تتجاوب معها ذاتُ الشّاعِر كأنّها تتطابقُ معَها:
لسْتُ أقلّ عَمىً مِنْكَ.
ومِثْلَكَ أعْرِفُ كيْفَ اُسدّدُ خطْويَ.
[...] لا أُحبُّ أنْ أرى مَا يُرى.
أعْمى مِثْلُكَ ـ [بورخيس، ص.13]
وفي سياقٍ تالٍ نقْرأ:
هذهِ الْقصيدة ليْستْ لي ـ
هُو الآنَ يُمْليها عَلَيّ بِصَوْتٍ أجَشَّ سُرْعان ما يَتَلاشى.[أنا وبورخيس، ص.15]
تستَمِرّ هذه الْعلاقة مِنْ وإلى الذّات في علاقتها بالْآخر على نحْوٍ دالّ في نُصوص الْقِسْم الثّاني[ مَرايا:تَصْريحٌ بِالتّطابُق]، عِنْدما تنْفَتحُ على عوالِم أخْرى تهُمّ هوِيّة الذّات وتقَلُّبها فيها، بَدْءاً مِن الكَيْنونة الّتي كانَها الطّفْل في ارْتِباطاته الصّافية مع الأمّ وأشْياء الطّبيعة وصُور الْوجود والْحُبّ الأوّليْن، والْمُتغيّرة في توتّرات الْواقِع الّذي يرْثي التعهُّدات، ويفْضحُ quot;الْجُثّةquot;، وينْدُب الْحبّ، ويبْكي مِحْنة الْمُهاجرين الْمغارِبة، فلمْ يعُدْ من الطّفْل إلّا وجْهُه:
وحْدكَ الآنَ، هُنا ـ
لمْ تعُدْ تَنامُ كِفايةً.وتَفيقُ نظْرتُك مُبكِّراً...[وجْه الطّفل، ص.68]
مِن هُنا، لنْ تَلْتمس الذّات الْعَزاء إلّا في شبيهَها: في يُوسف معَ إخْوتهِ الْغادِرين، وفي الظّلّ الْمُتماهي في مُخْتلف توتُّراتِها، وفي المِرْآة الّتي تسْترضيها حتّى تجمع شظاياها، وفي الْكُرْسيّ الْفارِغ، وفي الْتّمْثال، وفي اللّيْل، وفي الحجر الّذي تتأكّلُه الْعُزْلة.
وفي جميع هذه السّياقات وإبْدالاتِها تعْكِس الذّات لا ـ وحْدتها، ولا ـ تجَانُسها، ولا ـ كُلّـيّتها.في كُلّ لحْظةٍ ما تفْتأُ تَتجاوزُ نفْسَها.حتّى الآخر لَا ياْتي منْ خارِج وإنّما يُقيم في الذّات يضيئها من الدّاخِل ويُفجِّرها في صيْرورة المُتخيّل الّذي تبْنيه الْحقول الإسْتعاريّة والتّيماتيّة للْعمل إذا كان هذا الآخر معْروفاً بحَمُولتِه الدّلاليّة والتّخْييليّة المُسْبقة دُون أنْ يبْقى ثابِتاً فيها بلْ يتحوّلُ فيها.كُلّ مِن الذّات والآخر يسْكُن إلى بعْضِهما الْبَعض دون أنْ يتطابقا، وأنْ يتشابَها.إنّ خاصّية الشّبيه أو السّيمولاكر Le simulacre هي اللّاتشابُه، مِثْلما يرشدنا إلى ذلك جيل دولوز.
في عُزْلتِها تعْبُر الذّات:
quot; وملْفوفاً بالصّمْت أُتابِعُ السّيْرَ عَلَى انْفِراد.quot; [ص.90]
لَا هِي تُحاكي الْيَوميّ في مُشاهداتِها، ولا هِي تتطابَقُ مع آخَرها. لا مُحاكاة. لاتَطابُق.
وَلا أخْطر على الذّات مِنْ أنْ تتَقيَّد في نموذج ثابت، وأنْ تستقِرّ في كيْنونة مُغْلقة. منْ ذاتٍ إلى ذاتٍ. صيرورة الذّات المُتلفّظة في خِطابِها أوْسع من ذاتِ الشّاعر الأَصْلِيّة حتّى وإنْ كان عُنْوان الدّيوان ـ مِثْلما يلْفِتُنا إلى ذلك الْغِلاف أيْقونِيّاً ـ quot;حسن نجْمي على انْفِرادquot;.
في عمله الشّعري الجديد quot;على انْفراد quot;[منشورات عكاظ، ط.1، دجنبر 2006./دارالنهضة العربية، ط.1، 2007]، يُواصل الشّاعر سيرورة تحديثه للقصيدة المغربية، إذ يبدو للقارئ quot;عملاً شِعْريّاًquot; يخْتزِنُ خِبْرةً شديدة الحَساسيّة بكِتابة قصيدة النّثْر، وتوْقاً دفيناً لِترْتيب أشْجار النّسب الشِّعْريّ المَغْربيّ في تنْويعاتِه الْكِتابيّة والْجَماليّة.
من التّفْصيل التّشكيلي للَوْحة الغِلاف، والإهْداء الأَكْبر المُفارِق، والتَّصْديرات الّتي يفْتتِح بِها الدِّيوان أقْسَامَه الأَرْبعة على اخْتِلاف مَصادِرِها البانية، كَما العَناوين الّتي تَسِمُها الإيحاءات الأخّاذة لكُل قصيدةٍ من قصائِده الْمُهْداة، في مُجْملِها، إلى أصْدِقاء أحْياء ومْوتى، عَدا التّدبير الْجَماليّ اللّافت للصّفْحة الشِّعْريّة الّتي تشعّ بعلاماتِها الأَيْقونيّة كأنّها quot;احْتِفالquot;. إلى ذلك، يشعُّ ظهْر الْغِلاف بهذ1النصّ الشِّعْريّ كأنَّه quot;كوْكبة نجومquot; وسط غسق اللأَلْوان والْتِباسِها:
quot; يَضَعُ يَداً عَلَى يَدٍ.
صَارَتْ غَيْمَتُهُ بَعِيدَةً.
وَنَدَبَتُهُ عَزْلَاءَ، ـ
كَأَنَّهَا جُرْحُ رُخَامٍ عَلَى أَنْفِ تِمْثَالٍ قَدِيمٍ.
صَامِتاً...يُدَارِي دَمْعَتَهُ الخَائِبَةَ.
بِلَا صَحَابَةٍ ـ
قَدْ أَصْبَحَ لَهُ يَأْسُ الأَنْبِيَاءِ الضَّجِرِينَ. quot;
في زَعْمي أنّ النّصّ ـ الّذي لمْ يرِدْ في ثَنايا الدّيوان ـ يُلخِّص الْمُتَخيّل الشّعْري في العمل، الّذي جعله الشّاعر ـ لا النّاشر ـ دلِيلاً أبْيَض في ليْل القصيدة، ومحْرقيّة لافِتة لا أقول أنّ العَمَل الشّعْري يتفكّكُ منْ خِلالِها ـ مثلما يزْعم التّفكيكيّون، لأنّ الشّعْر أشقّ على أنْ يتفكّك أوْ ينْحلّ مِنْ تِلْقاء نفْسِه ـ، ولكِنّها أشْبه، بعيداً عن الوُثُوقيّة، بquot;بلّوْرquot; يعْكس الأضْلَاع المُتقابِلة لِلْمُتخيّل. ولهذا نحْن نُثمّن اخْتِيار الشّاعر، كما نحْتفظ لأنْفُسنا بالْحذر من أنْ نذْهب ضحيّته.هو ضوْءٌ بقدْرما عَتَمة.إيضَاحٌ و إغْماضٌ.
في كلّ بؤرةٍ من عمل الدّيوان الشّعْري تتحرّك الذّات الشّاعرة الّتي تبْسُط ظلالها في أحيازه الكَثِيفة الّتي، برغْم محْدوديّتها، تشعّ بأطْياف مُتخيّلها الْعابِرة في الْقصيدة، والْحياة، والتّاريخ، والطّبيعة السّخية والصّداقات. في لُغةٍ تتقصّدُ الشفّافية في التّعْبير عنْ حيواتِها، المُنْحازة إلى سرْد التّفاصيل الصّغيرة للذّات، حَيْث الإحتفاء شعريّاً باليومي، وبالتفاصيل العابرة، التي لا يُدركها إلا النّظرُ الْحادّ الْمُنْتَبه لِشاعرٍ مُنْحازٍ للْعرضي والْبَسيط والْمُهمّش والْيَوْميّ كاسْتراتيجيّة يُراهِن عليْها في البحث عن أفق مغاير للتعبير الشعري الّذي يَميلُ إلى كِتابةٍ نابِعَةٍ مِن التّجْربة داخل جَماليّات قَصِيدة النّثْر منْ جِهةٍ، وفي عُبور الذّات نحْو الآخر منْ جِهةٍ ثانية. فالشِّعْر، بتعبير حسن نجمي، هو quot;تمثُّل العابر والعرضي والجزئي. ومن ثم تظلُّ الدّهشة هي سمتهُ الأساسية.. وهذا معناه أننا نسعى لأن نجعل من الدّهشة صيغة للعبور نحو الآخر.quot;[الشاعر والتجربة، مرجع سابق، ص. 41].
هذه الشّعرية، الّتي يُمْكن نعْتُها بشعريّة الدّهْشة، تسْرح في الدّيوان عَلى نحْو بازِغ لَا تُخْطِئُه الْعيْن، وهي بقدْرِما تكْشِف هَشاشتَها بِقَدْرما تحْتَفي بِما حَوْلَها منْ كائِناتٍ ومُمْكِناتٍ ذاتِ قَرابةٍ رَمْزيّة ومادِّيّة بِذات الشّاعر وسيرتِه بدْءاً من الإنْصِراف حتّى الْحَيْرة الْكُبْرى.نُعايِنُها في الصّداقات الحيّة الّتي تُشيِّدُها الذّات في زخم عُزْلتِها مع شبِيهيها أمْثال لويس بورخيس و ريتسوس و برودوسكي ودرويش وأدونيس ومحمدشكري إدريس الخوري وعزيز أزغاي، في الْكِتابة والْحياة عَلى نحْوٍ يرْفد الميثولوجيا الشّخْصية للذّات ويتقاطع معَها دون ادّعاء بالتّطابق، سواء quot;الصداقة التي تنصت وتبدي وجهة النظرquot;، و quot; الصّداقة التي لا تُصادر ولا تستحوذ، ولا تُفاضِلquot;، وquot; الصّداقة الحُرّة التي لا تلقِّن بل تعْرض نفسها في بساطة وتلقائية وصمْتquot;.[المرجع نفسه، ص.142]. ونُعاينُها في الْوَمضات الّتي تنْثُرها quot;شِبْه أُوطُوبْيُوغْرَافْياquot; تسْتعِيدُها الذّاتُ بِما يُشْبِه حنِين الْخَسارةِ وحِكْمَتها حيْثُ لَا أجْمل مِنْ مسْقِط الرّأْس، ومنْ quot;امْرأةٍ كانتْ تَبيعُ الْخُبْز في quot;بنْ احْمَدْquot; في جِلْبابِها الْبُنّي الْقَديم، ومنْ ترْبيّة الْحُبّ الأوّل الّتي تقْتَسِم معَ الْحُلْم quot;كُلّ شيْئquot;، ومن الأصْدِقاء الّذين خُطِفوا مِن الْحياةِ أوْ وقَفُوا عَلَى شَفاها، في سِياق الإِسْتِعادة تُواجِه الذّات حَقائِقَها quot;على انْفِرادquot;، سَواء بِالنّظر فيquot;ألْبوم العائِلةquot;، أوبالتَّذَكّر الْمُمِضّ للزّمن الْجَميل، أ أوْبِعَزاء النّفْس عبْر التّماهي مع الشّبيه يُوسف في قِصّته، و مِن خِلال اسْتِعارة تِقْنيّات الرّمز الطّبيعيّ[الْماء، الظّل، اللّيل]والثّقافيّ[الْمِرْآة، التّمثال، الْكُرسيّ]، الّتي تشِفّ عنْ مأساتِها وهي تعْكِسُ مابِأعْماقِها مِنْ خيْبة، وندَم، وذُبول وتشظٍّ.لا تَصِل الْمَأساة إلى ذِرْوتِها إلّا عِنْدما يُكثّف الشّاعر تاريخَ الذّات الْمجَازي مِن خِلال اللّيْل وعَبْره:
quot; أظْلَمْتُ كاللَّيْلِ.
أَنا الآنَ لَيْلٌ في اللَّيْل.quot;لَيْلي تَاريخُ اللّيْلquot;!
نفَسي يخْتَنِقُ.وأحْلُمُ بِكَتيبَةٍ مِنْ ريحٍ.quot;[أظْلَمتُ كاللّيْل، ص.105]
هُو الشّاعِر الأعْمى الّذي يُصادِق اللّيْل بِما هُو مُعادِلٌ للْعَمى والْعَتَمة والصّمْت والْعُزْلة أحْياناً، والْكِتابة والْحنين والْمودّة والإنْتِشاء أحْياناً أخْرى. ليْل الشّاعر، وليْل الْحبيبة، وليْل الْقصيدة.الْمُعْتم والمُضيء، الْفَارِغ والْمُمْتلئ.
وممّا يتصيّده نظر الشّاعر الحادّ المُـنْتبه ما يُدوِّنه، أيْضاً، في quot;دِفْتر الشّذراتquot;، الّذي ينْقلنا، بكَثافَتِه واقْتِصاد عَلامَاتِه الأيْقونيّة، إِلى شَظايا الذّات الّتي انْتهَتْ، في صَيْرورَتِها، إلى ما يُشْبِه quot;خُلاصَات حِكْمةquot; مِنْ نفْسِها ومِمّا حَوْلها، تجْمع بيْن الإيحَاء بِهُموم الْجَمَاعة، والإرْتِفاع بِشعْر الْحُبّ في مقامِ الصّفاء، والإصْغاء لصَريخ الذّات وهي تَسْتحيلُ إلى quot;حجَر وحِيد ـ تَتَأكَّلُهُ العُزْلَةُ.quot;، حتّى أنْطقت لِسان الشّاعر في صَوْت ـ إِطْباق:
وحْدي فِي الغُرْفَةِ.
أُسْمِعُ أُذُنَيَّ صَوْتَ قَصيدَتي الأَخِيرَة
....
أصْبَحْتُ أتَهَيَّبُ مِنْ كَلِماتي!quot; [ صَوْت، ص.126]
بالشّعْر الّذي يحْتفي بدهْشَته البانية مِن خِلال التّرْكيز على اليوْميّ والْبسيط، يرْسم الشّاعر بورتريهاتٍ، ويُعيد بِناء علاقاتٍ، ويلْتَقِط شَوارِد، ويسْتَخلص مُشاهداتٍ وأسْفاراً في الضّوْء والظّلام.الْحياة والْمَوت. الصّمت والصّريخ.الْغِبْطة والْحِداد وغيْرها مِن مُفْردات التّجربة الذّاتية الّتي يحْياها دون أنْ ينْحدِر بِها في الْمُبْتذل، أوْ يَتعالى بِها عنْ دَلالاتِها الْمُحايِثة الْحيّة بِما يَتحقّق التواصل الإنساني الحقّ.من هُنا الحاجة التي تتمثل في القبض على التفاصيل الصّغيرة التي توجد خارج quot;الإقتناعات الكبرى، في الغربة والمنفى، في العُزلة والوحدة، في المتخيل والذّاكرة، في الزّائل والمهمّشquot;[الشاعر والتجربة، ص.17]. مِنْ صّداقة الشُّعراء وصداقة الْفراغ(ص.68)، إلى صداقة اللّيْل الّذي يتذكّر الشّاعِر في عُزْلتِه فـيصيرُ مِثْلَه: quot;أظْلَمْتُ كاللَّيْلquot;[ص.104].
إنّنا، في زخم التّجْربة الّتي يبْسُطها العمل الشّعْري، أمام الأطوبيوغرافيا الشّعْرية للذّات، أي تِلْك الّتي تتحرّك عَموديّاً باتِّجاه التّعْبير عن أحْوالِ عُزْلتِها قبْل الإنْصِراف وبعده الّذي فتَح الطّريق إلى الناس حتّى الْحَيْرة الْكُبْرى.نكْتشف هذا الزّخم في عدد الْعلاقات، ونوْعِيّتها، ومُسْتوياتِها، والإيحاءات الْمُتولِّدة عنْها وآثارها في بِناء الْمُتخيَّل الشّعْري؛ وذلك في الْقوس الرنّان الّذي يشُدّ الّذات بِآخرها لِحاجَتِها إلَيْه، روحيّاً ومادّياً.في الذّات يُقيم الآخر الّذي يصيرُ في اخْتِلافِه شَبيهاً لها دون أنْ يكُون مُطابِقاً. بِدايةً من الأصْدقاء الشّعراء الّتي تُقيم معهم ميثاقاً لفهْم التّجْربة وتعلُّمها في التّصْديرات أوْ داخِل النّصوص، وبخاصّة بورخيس الّذي يُفْتتحُ به الدّيوان ويُكرّسه كحَالةٍ مخْصُوصة تتجاوب معها ذاتُ الشّاعِر كأنّها تتطابقُ معَها:
لسْتُ أقلّ عَمىً مِنْكَ.
ومِثْلَكَ أعْرِفُ كيْفَ اُسدّدُ خطْويَ.
[...] لا أُحبُّ أنْ أرى مَا يُرى.
أعْمى مِثْلُكَ ـ [بورخيس، ص.13]
وفي سياقٍ تالٍ نقْرأ:
هذهِ الْقصيدة ليْستْ لي ـ
هُو الآنَ يُمْليها عَلَيّ بِصَوْتٍ أجَشَّ سُرْعان ما يَتَلاشى.[أنا وبورخيس، ص.15]
تستَمِرّ هذه الْعلاقة مِنْ وإلى الذّات في علاقتها بالْآخر على نحْوٍ دالّ في نُصوص الْقِسْم الثّاني[ مَرايا:تَصْريحٌ بِالتّطابُق]، عِنْدما تنْفَتحُ على عوالِم أخْرى تهُمّ هوِيّة الذّات وتقَلُّبها فيها، بَدْءاً مِن الكَيْنونة الّتي كانَها الطّفْل في ارْتِباطاته الصّافية مع الأمّ وأشْياء الطّبيعة وصُور الْوجود والْحُبّ الأوّليْن، والْمُتغيّرة في توتّرات الْواقِع الّذي يرْثي التعهُّدات، ويفْضحُ quot;الْجُثّةquot;، وينْدُب الْحبّ، ويبْكي مِحْنة الْمُهاجرين الْمغارِبة، فلمْ يعُدْ من الطّفْل إلّا وجْهُه:
وحْدكَ الآنَ، هُنا ـ
لمْ تعُدْ تَنامُ كِفايةً.وتَفيقُ نظْرتُك مُبكِّراً...[وجْه الطّفل، ص.68]
مِن هُنا، لنْ تَلْتمس الذّات الْعَزاء إلّا في شبيهَها: في يُوسف معَ إخْوتهِ الْغادِرين، وفي الظّلّ الْمُتماهي في مُخْتلف توتُّراتِها، وفي المِرْآة الّتي تسْترضيها حتّى تجمع شظاياها، وفي الْكُرْسيّ الْفارِغ، وفي الْتّمْثال، وفي اللّيْل، وفي الحجر الّذي تتأكّلُه الْعُزْلة.
وفي جميع هذه السّياقات وإبْدالاتِها تعْكِس الذّات لا ـ وحْدتها، ولا ـ تجَانُسها، ولا ـ كُلّـيّتها.في كُلّ لحْظةٍ ما تفْتأُ تَتجاوزُ نفْسَها.حتّى الآخر لَا ياْتي منْ خارِج وإنّما يُقيم في الذّات يضيئها من الدّاخِل ويُفجِّرها في صيْرورة المُتخيّل الّذي تبْنيه الْحقول الإسْتعاريّة والتّيماتيّة للْعمل إذا كان هذا الآخر معْروفاً بحَمُولتِه الدّلاليّة والتّخْييليّة المُسْبقة دُون أنْ يبْقى ثابِتاً فيها بلْ يتحوّلُ فيها.كُلّ مِن الذّات والآخر يسْكُن إلى بعْضِهما الْبَعض دون أنْ يتطابقا، وأنْ يتشابَها.إنّ خاصّية الشّبيه أو السّيمولاكر Le simulacre هي اللّاتشابُه، مِثْلما يرشدنا إلى ذلك جيل دولوز.
في عُزْلتِها تعْبُر الذّات:
quot; وملْفوفاً بالصّمْت أُتابِعُ السّيْرَ عَلَى انْفِراد.quot; [ص.90]
لَا هِي تُحاكي الْيَوميّ في مُشاهداتِها، ولا هِي تتطابَقُ مع آخَرها. لا مُحاكاة. لاتَطابُق.
وَلا أخْطر على الذّات مِنْ أنْ تتَقيَّد في نموذج ثابت، وأنْ تستقِرّ في كيْنونة مُغْلقة. منْ ذاتٍ إلى ذاتٍ. صيرورة الذّات المُتلفّظة في خِطابِها أوْسع من ذاتِ الشّاعر الأَصْلِيّة حتّى وإنْ كان عُنْوان الدّيوان ـ مِثْلما يلْفِتُنا إلى ذلك الْغِلاف أيْقونِيّاً ـ quot;حسن نجْمي على انْفِرادquot;.
التعليقات