الصيغة الأثرية وادراكاتها الذاتية في أعمال الفنان التشكيلي قاسم السوداني
علي النجار من مالمو(السويد): تبرز معظم محاولات الفنان السوداني المقيم في الرباط (المفرب) قاسم السوداني التجريبية شخوصا تتخفى أو تنبثق خلل فظاءات أعماله(رسوماته) وهو المتعالق بتفاصيلها التي غالبا ما تفاجئه تضاريسها. وبالرغم من كل محاولاته للانفلات من سطوة الموروث الأيقوني بملامح جغرافياه الأفريقية، ومع كل نشواته المصاحبة لاكتشافاته أو العابة التكنيكية التي توفرها له المادة الصباغية(وهو مولع بها) فثمة عناصر أدائية غالبا ما تستحوذ على ذهنيته ضمن هاجس يراوغ مألوفية تصورية تحدد أو تعيق أحيانا ولعه الاستكشافي. مع كل ذلك فان طغيان الإرث الثقافي الصوري (السوداني) غالبا ما يستحوذ عل العديد من تضاريس هذه الرسومات. وان كان الخطاب الثقافي عموما يتمحور حول تيمه أو موضوع، والخطاب التشكيلي كذلك، فان ثمة ثلاثة محاور صورية تتمحور ضمنها أعمال هذا الفنان وغير بعيدة عن فخاخ التجريب وسيولة أو صلابة مواد صباغته.
إن كانت أعمال الفنان (قاسم السوداني) تجريبية وهي كذلك بحدود نفاذ التجربة لعمق ادراكاته وليس لمجرد الولع التجريبي، وهي سمة مشتركة للعديد من التجارب التشكيلية المعاصرة. مع ذلك فان منطقة اشتغالاته بتنوع سبلها الأدائية وحتى الافتراق ألمناطقي أحيانا تخفي ذاتا تضمر التمرد على السائد رغم محدودية الأدوات أو اختزالها في منطقة التلوين والتعبير ألصباغي. لنعاين افترا قات سبل تجريبيته:
1 - تتسم صوره التشخيصية الذاتية (البورتريت) بمقاربات قريبة أو بعيدة من اسلبه النحات الحداثي(جياكومتي). لكني اعتقد أن هذه المقاربة الأسلوبية لا تتعدى المظهر، رغم افتراقاتها في رسوم تشخيصية أخرى. وما اكسبها هذه الهيئة المضغوطة أو المجردة بهاجس اختزالي، هو مصدرها الأنثروبولوجي للهيئة الجسدية للشخوص السودانية النحيفة المتطاولة. وهي هيئة تشترك فيها ميزات معظم شخوص القارة الأفريقية عموما. ولم تستطع طمس هذه الهيئة كل محاولاته التجريدية التي يدثر بها بعض من تضاريس هذه الشخوص الإنسانية. وعلى الرغم من أن هذه المحاولات الواعية لتغيير التنصيص الصوري للشخوص تتماشى وولعه الحفري بما هو متخف خلف الواقع الذي أظنه يعتبره هشا وقابلا للانحلال. مما اكسب هذه الأعمال التشخيصية هيئاتها المتحللة والبعيدة عن صرامة وكثافة مادتها الفيزيائية.
2- المشهد الخلوي بمقاربات تضاريسية وفولكلورية:
خارج مألوفة المشهد الخلوي، رغم كونها تحمل هيئته، تندرج أعماله الأخرى. مساحتها أو فضائها المفتوح على الأفق يؤكد انتمائها لطوبوغرافيا الطبيعة. لكنها تبقى طبيعة خاضعة لنوايا مناوراته باختلاط سحناتها وسحنات أجساد هي الأخرى تنتمي لموروثة الخطي الأثري. وان اشتغلت هذه الرسوم على الملونة الطبيعية. فإنها ملونة خاضعة للتحليل الفضائي الفيزيائي وبإحالات للطقس المداري الملتهب، مع اللعب على حواملها الدلالية والتزينية في آن واحد. والفنان (قاسم) حاله حال العديد من فنانينا الشرقيين يفتض الفراغ الذي لا يطيق صفاءه أو سرمديته بحفرياته التي لا يمل من تفاصيلها ولتشكل مع شخوصه المحلية(والأثرية في نفس الوقت) ثلاثية شكلانية تعتمد التجريد الفضائي بإحالات طقسية، والتشخيص بمنحى الأنسنة، والتجريد الحفري لكسر السكونية. لقد حقق في هذه الأعمال بالذات كشفا تشكيليا مرجعيا لا يستهان به مثلما حقق منحى تعبيري إجرائي بموازاة مصادره البيئية والذهنية.
3- أعماله الأخرى، بالرغم من انتمائها بشكل من الأشكال لمنجزه، فإنها تبتعد عنه بمسافة غير قليلة وإن تكن متماسة مع بعض منها. هذه الأعمال بخلوها المطلق من أية علامة تشخيصية. تحيلنا أيضا لتلصيق(كولاجي) طبيعي. بتضادات العتمة والنور وما بينهما. وبإيقاعاتها وبهواجسها السايكولوجية التي تتخفى خلف كهوف العتمة وبوح الضوء. فللتضاد هنا مفعوله السحري والصادم أو المحتدم في إثارته لخبايا المتضادات الداخلية الحيوية وغير بعيد عن كهوف ذاكرتنا الملتبسة أو المعمورة بشظايا جزئيات ذهانية تثير حفيظتنا الإدراكية المحصنة بنوايا كبح البوح وإرجاءه إلى المجهول. وكون خروقات مساحات هذه الأعمال المعتمة لا تكف عن محاورتنا بإيحاءات المجهول. فان ولع الفنان أو منحاه الثقافي الإجرائي الدراماتيكي يبقى منفذا أو ممرا لضوء ورغبة بوح ملحاحة يحاول أن يعمر بها كهوف ذاكرته هو الأخر.
أخيرا تبقى لمتلقي أعمال هذا الفنان مساحة من ترميم ذاكرته بموازاة ذاكرتها الجمعية. ومجالا للتأمل بعيدا عن افتراضات وإجراءات التأويل الجاهز. وصولا لاكتشافات أو ترددات مشتركة يطمح أن يحققها له الفنان. ما دامت مساحة مناطق اشتغالاتها متشعبة بمسالكها الأدائية وبوضوحها الصوري وبمواربات سبل تصوراتها وإحالاتها الذهنية.