الخروج عن الأوصاف والأعراف
سوف عبيد:
يمثل الأديب صالح القرمادي ثالث ثلاثة كان لهم الفضل في تطور الأدب التونسي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين و أعني بهم الأساتذة منجي الشملي وتوفيق بكار وصالح القرمادي و يضاف إليهم فريد غازي الذي توفي في عز شبابه بعد عودته من فرنسا وهم جميعا من مواليد مطلع الثلاثينات من القرن العشرين ونهلوا من ينابيع الثقافة العربية و اِمتلكوا من ناحية أخرى ناصية اللغة الفرنسية بالإضافة إلى ما تيسر لهم من اللغات الأوروبية الأخرى فتخرجوا من السربون في باريس حاذقين اِختصاصات جديدة في دراسات الأدب العربي تشمل الأدب المقارن والمدارس النقدية الحديثة واللسانيات والترجمة وغيرها من المجالات الأدبية الأخرى.
عشرون قصيدة فقط ... ولكنها كافية لتجعل صالح القرمادي يمتاز بمكانته المتفردة في الشعر العربي المعاصر ـ بتونس على الأقل رغم كثرة منتقديه ـ غير أن الدّارس المنصف للحركة الشعرية في تونس لا يسمح لنفسه أن يمر دون الوقوف عند ديوانه ـ اللحمة الحيّة ـ الذي ظهر سنة 1970.
إن صالح القرمادي بحكم اِختصاصه في الدراسات اللغوية و علم اللّسانيات في كلية الآداب بتونس و على مدى عشرين سنة قد أثر تأثيرا مباشرا في أفواج طلبته سواء منهم أولئك الأدباء و الشعراء أو أولئك النقاد والأكاديميين و لقد أثرت كذلك آراؤه الجريئة في الحركة الأدبية والثفافية بتونس حيث ساهم في إصدار وتحرير مجلة ـ التجديد ـ في أوائل الستينات مع الأستاذين توفيق بكار والمنجي الشّملي وغيرهما فكانت منبرا لمفاهيم وأطروحات جديدة ساعدت على بروز كتابات نقدية و إبداعية مثلت منعرجا آخر للأدب التونسي بعد الرتابة التي خيمت على مرحلة ما بعد فترة جيل الشابي الثرية.
الملاحظة الأساسية التي تلوح في أشعار القرمادي أنّها تختلف اِختلافا جذريا مع متن شعراء جيله من اللّذين ظهروا في نفس المرحلة تقريبا وهي تمثل مرحلة ظهور واِكتساح نمط قصيدة التفعيلة بما فيها من غنائية والتزام بالمضامين الاِجتماعية بينما قصائد ـ اللحمة الحية ـ ذات مواضيع أخري تنطلق من مشاعر الإنسان المأزوم والمهموم بالمواضيع البسيطة و الثقيلة في أوزارها كما هو منشغل بالأسئلة الكبيرة في الحياة والموت.
إن القاموس الشعري لدى صالح القرمادي يختلف عن القاموس الشعري المستعمل في ستينات القرن العشرين ومن صفاته تلك ، مخالفة الذّوق السّائد مثل قوله:
ألا ليت الدّجاج يعود يوما
فأخبره بما فعل المبيض
ومخالفته للذوق السّائد تصل إلى السّخرية من بعض المفاهيم القديمة وعاداتها الشكلية المتحجرة وهذه مسألة والحق يقال أثارت عليه كثيرا من الخصوم من منطلقات إديولوجية فالرّجل ـ رحمة اللّه ـ متّهم لدى البعض في إخلاصه للّغة العربية ومتهم أيضا حتّى في اِنتمائه إلى الثقافة الوطنية ولكنه كان يردّ عليهم بأنه درّس علم اللّسانيات العربية حينما كان هذا العلم في عداد المجهول عند الكثيرين و كان يردّ كذلك أنه عرّب عشرات المصطلحات التي تشمل المفاهيم اللّغوية الدقيقة وكم كان يفاخر منتقديه بأنه هو الذي نقل إلى العربية الفصحى كتاب كونتنو في علم الأصوات العربية الذي صدر عن الجامعة التونسية سنة 1966 و كان يشعر بالاِعتزاز لتعريبه البعض من كتب الأدباء المغاربة تلك التي كتبوها في الأصل بالفرنسية فجاءت بلغة عربية فصيحة...
إنّ صالح القرمادي يختلف في مسائل جوهرية مع الذين يدافعون عن سلامة اللّغة العربية فهو يراها تستطيع أن تهضم بسهولة الكلمات الجديدة لأن تاريخها الزاخر يثبت أنها لغة متطورة متفاعلة مع الظّروف التاريخية الجديدة وهو يرى أن الشعر أوسع من العروض لذلك لا يحفل في شعره بالقافية والتفعيلة.
قصائد صالح القرمادي خارجة عن المألوف فهي تصدم القارئ لغرابتها وقد تنطلق القصيدة من شيء مالوف عند النّاس كقصيدة النشرة الجوية التي يضمنها تعبيرا عن الواقع المأزوم حيث يقول :
وأما طقس الغد ففي اِستقرار
ثم تنزل أمطار ناريّة
تنبت لها أشجار وحشيّة
وأما البحر فدعوة متحركة إلى الهيجان
وشعر صالح القرمادي لا يصور العوالم الجميلة بل إنّه يشوش الصور التّي طالما زخرفها الشعراء مثل صورة الحب لديهم وذلك عندما يقول يقول:
حبّ لا يضطجع تحت أفنان الأشجار
حبّ محتار
حبّ لا ينجو إلاّ إذا اِخترق البحار
حبّ عرق ليس بفوّاح
حبّ أسنانه ليست كغر الأقاحي
فالشعر عنده مسلك غريب في اللغة وتهديم للسائد الذوقي عند النّاس وتخريب للقاموس الشعري المتداول وهو في كلّ ذلك يتناول الكلمة الفصيحة الضاربة في القديم و لا يتحرج أيضا في اِستعمال الكلمات المتداولة فتضفي على شعره حلاوة الواقع اليومي وضراوته أيضا فيقول:
حب قفص
حب ليس يغتنم الفرص
حب نصف عمومي
نصف خفيّ
حب طريّ شهيّ
ككتف العلوش على الكسكسي
ذلك هو صالح القرمادي: شعره ليس أحلاما بين الورد والحرير أو ترنما بالقوافي الرنانة ... إنه نص مأزوم لا يوحي بالهناء طالما هناك بلبل واحد في قفص فإنه يعتبر أن بلابل الدنيا في خطر وكذلك يصور التفاح عندما يجعله في قفص الاتهام باكيا صائحا في وجه الحكام لأنه يرى الحديقة العمومية ميلئة بالمشانق حيث يجعل الأشجار قطّاع طريق و تلوح الأزهار عفاريت أماالمتنزهون ففي بعض قصائده ليسوا إلا مجرد أعمدة كهربائية لا حركة لهم ولا استطاعة !... والواقع عند صالح القرمادي مليء بالمتناقضات ففيه الأطفال اللاّعبون بعربة الخبار فيه الّذين لا ينامون إلا سكارى وفيه المريض بعكازه و العجوز التي تصلي على النبي وفيه كذلك المزابل والكلاب والمقعدون وفيه البول والكفيف الفوّاح وفيه الجنازة والمصلون هي إذن شاعرية غريبة جديدة ونادرة الوجود في الشعر العربي قديمه وحديثه.
وقد اِحتفل صالح القرمادي بالموت في مرثيتهه لنفسه فجاءت مليئة بالمعاناة وبالألم حيث يبدو أنه صاحب تجرية صوفية وجودية خاصة إذا نحن قرأنا قصائده باللّغة الفرنسية وهو في أشعاره كلّها صاحب نفس راضية مطمئنة لكنه يبدو من ناحية أخرى أنه صاحب جرح أبدي ضارب في الغربة ... يقول في قصيدته ـ دعوني لشأني:
دعوني لشأني
واقفا وقفتي المجروحة
أمام القبول المفتوحة
إن لي مع الموات وعدا
وجدالا
وكلاما
قد يبدو لكم محالا

وهو القائل كذلك في قصيدته : نصائح إلى أهلي بعد موتي
إذا متّ مرّة بينكم
وهل أموت أبدا
فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين
فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض
ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي
فقد كانا أشهي أطعمة حياتي
ولا تذروا على قبري حبوب التّين
لتأكلها طيور السّماء
فالأحياء بها أولى
ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي
فقد اِعتادت أن تبول على جدار بيتي
كل يوم خميس
فلم تزلزل الأرض زلزالها
ولا تزوروني في كل سنة مرّة
فليس لديّ ما به أستقبلكم
ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون
ولا حتى وأنتم كاذبون
فصدقكم وكذبكم عندي سواء
ورحمتي لا دخل لكم فيها
ولا تقولوا في جنازتي أنتم السابقون ونحن اللاّحقون
فليس هذا السّباق من رياضاتي
إذا متّ بينكم
وهل أموت أبدا
فضعوني في أعلى مكان من أرضكم
واحسدوني على سلامتي

والأديب صالح القرمادي كتب كذلك الشعر بالفرنسية بالإضافة إلى القصة والدراسات النقدية واللغوية زيادة على التعريب و ترجمة مختارات من الأدب التونسي إلى الفرنسية لذلك فهو أديب شامل و أكاديمي هشم البرج العاجي بمساهاماته في دفع الحياة الثقافية إلى التجديد والتطور وتلك هي ميزته الخاصة...

نعم / بلا
نحن نحيا
نحن نبكي
وأحيانا نحن نبتسم
بالصداقة أو بلا صداقات
بالخبز المبارك نحيا
أو بلا قوت
بالحرية نحيا
وبلا حريّة نحن نموت
مع البنين نحيا وبلا اِبن نحيا
بالعقل أو في الجهل نحيا
في الحرب نحيا أو في السلام
والمرء تسحقه رحى الأيّام
ثقيلة رتيبة
والأعوام!
المرء ndash; أمام الجلاّد ndash; قد يجعل
من الخنافس أصدقاء
فليس بوسعه أحيانا
إلا أن يعشق العفاريت
في الفضاء
مع أو بلا أمل النّصر نحيا
مع أو بلا خفقان الصّدر نحيا
مع أو بلا حرفة الحبر نحيا
فهؤلاء السّعداء أصحاب الألقاب
منحتهم شهادة ابتدائية
بلا حساب
أكثر من جائزة نوبل
للآداب!
بالضمير أو بلا سفر نحيا
على خطأ أو بلا غلط نحيا
والمرء يستنشق شذى الفطائر
عائدا من دفن الأحبّة
في المقابر
مع شقائق النّعمان
أو بلا ريحان نحيا
بالاِستحسان أو بالاِستنكار نحيا
فالمرء يعود كلّ يوم إلى بيته
ولم يعبّر بحرّية
عن رأيه!
بالحبّ أو بلا أحباب
سنحيا
في الأفراح في الأتراح
سنحيا
بالأمل في الإياب
أو مع طول الغياب
سنحيا
نحن نحيا
نحن نبكي
وأحيانا في اللّجام نبتسم
برغم المصيبات
والهرم
لنعيش الحياة على هوانا
برغم الممات
برغم العدم!
* أصل القصيدة بالفرنسية AVEC OU SANS