شادي علاء الدين من بيروت: يُطلب من الرقة أحيانا ما لا تستطيعه من سكون وصمت حتى تظهر وكأن عريها من الخطاب هو دليل شعريتها الاكثر بروزا ووضوحا. أسرت الرقة في هذا النزوع الذي شاهدناه يتراكم في نصوص عديدة اسس تكرارها الدائم لسلطة مفاهيم ترى الرقة ضما لعناصر الإنكسار والسلبية والعمى.
تبحث الشاعرة الكردية ﮐﮋال أحمد في ديوانها quot;قصائد تمطر نرجساquot; الصادر حديثا عن دار المدى في أول ترجمة لها إلى العربية قام بها صلاح برواري عن رقة ترى وتسأل وتملك خطابا واضحا ومساجلا دون ان تتخلى عن صفاتها بل تضخمها وتكثفها وتنشرها بصيغة نقد سياسي وإجتماعي يحرص على النجاة من لغة البيانات والخطابات.
سؤال الرقة عند الشاعرة الكردية يترافق مع سؤال الذاكرة والهوية فينشأ سرد مكثف يعمل على إستعادة الماثور والمكنوز من القص الكردي ليصبه في قلب الأحداث الجارية على شكل رموز مكثفة عميقة وشفافة في الآن عينه.
يعلن الموروث الشعبي الكردي على سبيل المثال أن رش الملح داخل حذاء الضيف غير المرحب به سيعجل في رحيله.تستعمل الشاعرة هذا المأثور بطريقة خاصة.
تقول في قصيدة بعنوان حفنة ملح:quot;في كل يوم/كنت أدس حفنة ملح / في خف شوك مغفَّل/ _كنت احبه كثيرا_ /على أمل أن تغادر مسرعةً!/لأني كنت أعرف أنّه/ضيف لا يناسب أبدا/ مرحلة عمري،/ وسيقضي عليَّ/ مع أشعاري!quot;
تدس الملح في خف الشكوك كي تعجل في رحيل الألم والأسى.الحركة التكرارية للفعل المتمثلة في( كل يوم) يجعل من هذه المهمة طقسا أسطوريا يهدف إلى جعل الشخص يتمثل مع الفعل ومع معناه الرمزي.
إنه دخول الذات في لعبة الدلالة وجعلها ذاتا مشاركة معاينة فالشاعرة تنطلق من مأثور ثابت ومألوف لتصنع استعمالا مدهشا وجديدا. هكذا تندرج مجمل الحكاية الكردية في هذه الذات الدالة التي أفصحت عن سيرتها في كناية رعاية الأمل والرغبة في التخلص من الألم والشكوك. ماذا يفعل الشعب الكردي سوى ذلك؟ إنه يرش الملح داخل أحذية الشكوك طمعا في رحيل الشوك الحياتي الذي من الممكن ان تنفتح كناياته إلى حدود شاسعة. يمكن دوما قراءته على ضوء السياسة وتثبيت شخصية سياسية محددة أو عهد معين بوصفه صاحب الشوك والشكوك والكناية عنها ومن الممكن ان يكون الزمن والقدر هو صانع الشوك وصاحبه.
تسمح القصيدة بكل هذه الإحالات فتبدو جامعة لبعدي الضيق والمباشرة والإنفتاح والترميز في لقطة واحدة ومشتركة بحيث لا يمكن فصل هذين البعدين عن بعضهما البعض.هكذا تجمع الشاعرة بين ضرورات النظر المباشر في الحدث وبين ضرورة تجاوزه اللازمة لصنع لا زمنية الشعر. تتخذ من التاريخ والمأثور ذريعة لصناعة سيرة ونبوءة.
الشكوك شوك لا يناسب مرحلة عمرها كما تقول وستقضي على الذات وعلى الشعر لذلك فإن طردها هو عودة للذات إلى التآلف مع العشق الصافي المطهر بقوة الأمثال المملوكة من جديد بواسطة جدة التوظيف وخصوصيته.
متاهة العشق والجغرافيا:
لقد صارت الجغرافيا الوطنية محملة بطابع جسدي بحت وينتمي إلى عالم الأمومة. رسخت تلك الثنائية التي تسمى بالأنماط الأولية ذلك الربط الكوني بين الأم والأرض مما فتح الباب واسعا أمام تداخل الوطن بالجسد في لعبة التوحد هذه التي طالما استعملت دون أن تستهلك وتضيع.
حين يكون الشعب معرضا لتشتت جغرافي فإن بناه العشقية والجسدية ستكون متشتتة بدورها وستكون دوما في دوامة البحث عن تمثل وعن ترميز يسمح لها بتكوين نسق حضور في الجغرافيا تمهيدا لتحقيق الحضور في العشق وفي الجسد.
جسد العاشق مأهول دوما بالكنايات ولعل الكناية الاكثر إلحاحا في حالة الغربة هي كناية الشهادة كتحقيق لغياب كامل يصنع عودة كاملة إلى حضن الجغرافيا الأم /الأرض.هكذا لا يصل العاشق إلى الإشباع بل يعيش الذروات.
نستطيع أن نلمح في البنية الإغرائية لعالم اللذاذات الغيبية كما عرضها التراث الإسلامي نوعا من هذا الغلو المسرف والمغوي حين يتحدث عن عالم حافل بلذاذات دائمة في حين أن عالمنا الأرضي لا يهب في أحسن الأحوال إلا لذاذات محدودة وجزئية وعابرة.
إذا الموت عشقا هو نزوع إلى إختراق محدودية اللذة والدخول في عالم الإسراف والتوحد مع الجغرافيا الأصلية للأرض الأم المعشوقة الوطن.
تقول الشاعرة في قصيدة بعنوان عاشق غر:quot;ها... اليوم ايضاً/ وضعت أمي قشرة البصل/ على رأسها، وقالت له:/ أيها البصل/ سأتزوجك... فلا تبكني،/ لم أنت حريف هكذا/ كأن أقرع سقاك/!../ ما أشد إشفاقي على البصل!،/ لأنه ينخدع / بوعود كل تلك النساء الوقورات، /حين يعدنه / قبل نحره،/ بأن يكن له!./ولأنه.../ ما من مرةٍ/ يتردد فيها، هذا العاشق الغر/ في وضع رأسه/ تحت سكين / معشوقاته المخادعات/ اللائي... لا يترددن أبدا / في نحره!.quot;
للبصل بنية حجاب تتراكم فيها الطبقات وراء بعدها فلا تصل إلى الطبقة الأخيرة منها إلا بعد تحقق فعل الإهدار. يتلازم الكشف التام مع التلف التام فتبنى سيرة العاشق كما تحاول الشاعرة تبيانها في هذه القصيدة.
العاشق قرين الإهدار وهو لا يكنز بل يهب على الدوام.لذا لا مجال أمامه للتدبير والتروي. إنه سيرورة دائمة لا تكف عن الجريان حتى تصل إلى ما تشتهيه من صمت خلاق هو مستقر المعنى ومصيره الجدلي.
البصل كناية العاشق عن نفسه. يرعى وعود الوصال ويدفعها نحو كمال أقصى. لا يخرجها من نفسها ولا يسعى إلى تحققها بل إلى المحافظة على توترها وعلى حالة القرب الذي لا يسمح أبدا بالوصال ولكنه يسمح بوصفه والشوق إليه.
هكذا يندفع العاشق دوما نحو موته دون تردد فهو قد سلم نفسه مسبقا للسكين وقبل مقايضة موته بالمعنى وارتضى أن يكون دمه المهدور تكثيفا اصليا ونهائيا لعشقه. يغيب فيبدأ الشعر.
أصرت الشاعرة الكردية على تحميل قصيدتها بالتاريخ والسياسة ولكنها في الآن نفسه نفضت حضورهما القاسي وفتتته بالصور ولم تسمح له بالتمركز في قلب القصيدة بل حصرت إقامته في كونه إحالة ممكنة ولكنها ذائبة في النسيج العام. لذا كانت القصائد التي أصرت فيها على ذكر أسماء معينة أو أحداث بعينها مغلفة دائما بنسيج عام من الصور والإحالات المفتوحة التي تمسح محدودية الأحداث ومداها المغلق.
تذكر الأنفال في قصيدة بعنوان كسَّرت المرايافتقول:quot;فتاة في قافلة أنفال حزينة / لا تملك مرآة/ فتاة فقدت حبيبها وديارها وعشقها/ ما حاجتها إلى مرآة؟!./ أنا أيضا بدونك،/ أجزائي/ لا تشبهني أبدا.
ذكر الأنفال لم يأخذ القصيدة إلى مدار التحليل السياسي ولم تسمح الشاعرة لصورة هذه المجزرة أن تكون وحيدة ومكللة بالطابع الإخباري بل استعملتها كمقدمة لتطوير صورة أوسع تجعل منها مأساة مفتوحة.
إنتفاء الحاجة إلى المرآة هو إنكار للوجه ورفض للنظر ولإعمال الحواس العليا في إدراك العالم والتفاعل معه.العالم بلا مرآة بالنسبة للفتاة هو عالم منذور للنفي الشامل الذي يضم الذات والموضوع. ينتفي الوجه فيغيب الوجود الذي يمثل موضوع الرغبة التي تتطلب الحاجة إلى مرآة لكي يتم تدبيرها والتحايل عليها.
أمام المأساة لا تدبير ممكنا ولا حاجات فالنسيان مستحيل والذاكرة ثابتة ولا مجال فيها لأستقبال صور جديدة في حين أن المطلوب من المرآة أن تقول في كل مرة تستعمل فيها كلاما جديدا عن الوجه القديم.
ﮐﮋال أحمد قالت كلاما جديدا عن وجع قديم وحاولت أن تزرع في أرض صور المأساة الثابتة صورا جديدة مولفة من ذاكرة تسبق المأساة وتتعالى عليها. تهزمها بورد لا زال مصرا على أبتكار أسمائه وعلى اكتشاف وجهه في مراياه الخاصة الواضحة والمتواضعة والمتفائلة.