محمد الحمامصي من القاهرة: إنها الشاعرة سوزان عليوان التي ـ تقريبا ـ تابعت تجربتها منذ إصدارها الأول عصفور المقهي 1994، ليس باعتبارها الشاعرة اللبنانية الأقرب إلي التجربة الشعرية المصرية حتى ليعدها البعض تجربة مصرية ولكن كونهالم تنس قط وهي قريبة تعيش في القاهرة أو وهي بعيدة تعيش في بيروت أن ترسل بنسخة من نصها الجديد إلي كل الشعراء الذين ربطتهم بها التجربة والصداقة، وأشهد أنني لم أر شاعرا أو شاعرة من جيلي الثمانيني أو جليها التسعيني أكثر ارتباطا والتحاما وعشقا وتتيما بتجربته الشعرية مثلها، ففي زحمة الحياة وضجيجها وقهرها وإرهابها الدائم علي الروح والجسد نبتعد أحيانا كثيرة عن الشعر رغم حاجتنا الملحة له، لكنها أبدا لم تبتعد عنه وكان لها الروح والجسد والحياة الأقرب، إنها تعيش معه ومع مفرداته، فما أن تنتهي من تجربة تجدد فيها من رؤاها وتعمق من مفرداتها حتى تدخل في أخرى، لتظل دائما في اشتباك متصل بالشعر حياة ولغة وأسلوبا وتقنية، وها هي تقدم لنا إضافة جديدة في سياق تجربتها الخصبة الولود تحمل عنوانا (كل الطرق تؤدي إلي صلاح سالم) وصلاح سالم لمن لا يعرف أحد أطول شوارع القاهرة، يخترق أحياء فقيرة جدا تطل منها بيوت فقيرة وأخرى غنية تطل منها القصور جدا، وكثيرا ما يجمع ما بين الفقر والغني في منطقة واحدة كمنطقة البساتين ومنطقة المقطم هذا الجبل العظيم، يخترق صلاح سالم مقابر القاهرة وما يتخللها من عالم يعيش علي الهامش في المقابر، كما يمر بمدينة نصر ومصر الجديدة أرقي أحياء القاهرة، وينتهي بطريق مطار القاهرة، وكذلك أقصد صلاح سالم أحد قادة ثورة 23 يوليو 1952 في مصر وكان له دور فاعل وأساسي.
المقابر القريبة
الجبل الواطئ كنسر
العمر الشارد في إشارة ممحوة
قدمان من رماد
بالطبع ليس الأمر أمر شارع لم تشر الشاعرة إلي اسمه إلا مرة في عنوان الديوان ومرة داخل النص، ولا أمر إنسان يمثل جزءا من تاريخ مصر المعاصرة، لكنها الحياة التي تعتمل في الروح والقلب وتحتفي الشوارع / الطرق بجزء حيوي من تشكيلهما الإنساني، حيث يكتسب كل ما تمر به الطرق والشوارع ويسكن فيها من نوافذ وشبابيك ومباني وقبور وأسوار وأحجار وأشجار وظلال وظلام روحا إنسانية تتحاور وتتفاعل مع أهله من المارة سواء كانوا يمشون علي أقدامهم أو يمرون سراعا بعيونهم عبر نوافذ السيارات أو يجلسون علي أحد جوانبه، كما تتفاعل وتتحاور مع العمق الزمني والتاريخي لذاكرة الذات وذاكرة الوطن سواء كان قصرا أو قبرا دون السقوط في المباشرة، بل الحياة في أوج تألقها صخبا يتم تشكيلها ونسجها بلغة تتوهج مفرداتها بالحياة.
صلاح سالم يصغي
نظارة سوداء
كتفان بنجوم كثيرة
في صدأ نياشينه
ما يضئ خسائرنا
ما لم تقله الوردة
في وحلها تدركه الدموع
إن (صلاح سالم) بالفعل شارع فريد في تناقضاته فعلي جانبيه القصور بثرائها الفاحش والقبور وسكانها من البشر الأحياء بفقرهم المدقع، الفقراء الذين يلتحفون الغبار والعراء والأثرياء الذين يلتحفون التكيفات في السيارات كما في غرف النوم، جبل المقطم بشموخه وقلعة صلاح الدين الأيوبي، والعمارات الخرسانية، المهم أن مرورا واحدا بشارع صلاح سالم كفيلا بكشف كثير من تناقضات الحياة في الإنسان، وبراعة الشاعرة أنها استطاعت أن تحمل كل هذه التناقضات وتشتغل عليها مع تناقضاتها وتناقضاتنا وتخلق في النهاية عالما دراميا يتحاور فيه الحلم مع الحب مع الأمل مع الانكسار مع الهزيمة مع الفقد.
إننا في (كل الطرق تؤدي إلي صلاح سالم) نعبر من صورة إلي أخرى لا توقفنا إشارة، وكل صورة لا تتركك دون أن تحفر عالمها أو لنقل علاماتها، دون أن تلقي بظلالها علي الصورة التالية لها مشتبكة معها ومتحاورة، هذه الصور كلها تجمع الذات الشاعرة وذات الشارع وذات الحياة في هذا الشارع، لنمضي في النهاية بين حيوات عدة تتداخل وتتشابك حتى ليصعب الفصل بينها لتخلق هذا العالم شديد الخصوصية.
عارية بجناحين ناهدين
عاهرة لولا أنها تشبه أمهاتنا
هيكل عظام علي الأسفلت يتهاوي
إن ما يميز تجربة سوزان عليوان حيث يتواصل ويتصل هو كونها لا تتخلي عن منح الحياة لكل ما يحيطها من عوالم ومفردات، لكل ما هو غير ناطق، من جماد وحيوان ونبات ومطر وماء وثلج ونور وظلام، لكل ما تلمسه أو يلمسها أو تراه أو يراها أو تتنفسه أو يتنفسها، وهذا ربما يكون سرا من أسرار خصوصية وحياة تجربتها الشعرية وهذا هو الالتحام الروحي والجسدي لها بالشعر.

سبع سماوات بين ساق وسبيل
أصل الليل بالنهار ولا أصل
براءتي خاتم في بئر
قدمي في صوتك
السماوات تمر
لو كنت أعلم
إلي أي خراب ستقودنا الطرق
لما قطعتها
لقطعت قبل أعناقها شراييني
وقد أصدرت سوزان عليوان دواوينها جميعها في طبعات خاصة علي نفقتها بدءا من (عصفور المقهى) و(مخبأ الملائكة)و(لا أشبه أحدًا)، ومرورا بـ (شمس مؤقتة) و(ما من يد) (كائن اسمه الحبّ)و(مصباح كفيف (و(لنتخيّل المشهد (و(كراكيب الكلام) وانتهاء بـ (كل الطرق تؤدي إلي صلاح سالم) باستثناء (بيت من سكّر) وهو مختارات صدرت ضمن سلسلة quot;آفاق عربيّةquot; عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2007