حاوره عبد العزيز جدير من الرباط: محمد البحتوري، كتب الشعر قبل القصة القصيرة والرواية، وقبل أن يلقي به عشقه للألوان بين أحضان النقد التشكيلي. لكن ملكة الحكاية لا يخطئها مجالسه. ذاكرة مشتعلة، تختزن نوادر الحقل الثقافي المغربي، والأساطير الحقيقية التي دونتها مدينته quot;وادي زمquot; وساكنتها. المدينة التي دقت مسمار نهاية الحماية الفرنسية للمغرب، ومنعت فرنسا تدشين أي مشروع بالمدينة ما ينيف عن ربع القرن، بعد رحيلها. والمشاريع التنموية التي ولدت بعد ذلك تمت تصفيتها.. حب جارف للقراءة، وآخر للكتابة، وثالث للتواصل مع الناس. قد تكون السياسة خذلت البحتوري، هو المناضل منذ ريعان شبابه، لكن عشق الحياة عوضه عن الخيبات السياسية وانتهازييها. جلستان، واحدة بالمحمدية والثانية بالرباط، استمعت إليه وهو يبوح كشلال ينزل ماؤه الزلال من قمة الجبل ليسقي الأفئدة العاشقة للسرد والحكاية وينشر بعض المتعة.
-كيف أتيت إلى الكتابة؟
-في الحقيقة، هوس الكتابة نشأ منذ الطفولة، ذلك أنني كنت بمدرسة قصبة الطرش لا ألعب مع أقراني وأنزوي لوحدي أنقل ما يوجد في الكتب بخط يدي وأحلم أني في يوم ما ستكون كتبي هكذا. وما أذكى هذا الإحساس هو لعبنا كأطفال في بادية قبيلة السماعلة فوق الطرقات نخطط بالعصي أو بغصون الأشجار الجافة رسما أو صورا أو كتابة. وكانت الطرق، آنذاك، واسعة وكانت كصفحات بيضاء خاصة أن لون التربة كان أصفر. فتظهر تلك التخطيطات كلوحات تشكيلية لازلت أشعر إلى الآن أنها واضحة وجلية في ذاكرتي وأني أراها الآن أمام عيني. ولهذا كنت أحب الأشجار كثيرا، وتغنيت بها في روايتي. وقد استطعت في طفولتي بمفردي أن أنقذ، ذات يوم، أشجار سفح في غابة السماعلة جوار المكان المسمى الوطيات بحيث لاحظت في الصباح، وكان الزمن لحظة عطلة الربيع، أن مجموعة من الأشخاص أتوا راكبين على خيولهم يحملون السواطير والحبال ليقتلعوا أرواح تلك الأشجار. تسللت من الوجه الآخر للجبل وانتظرت حتى وصلوا قمة الجبل ووضعوا أسلحتهم وعادوا لربط دوابهم مخافة أن تفضحهم. تابعت خطوي وسرقت السواطير والحبال وذهبت بها إلى مكان آخر من السفح. حينما عادوا لم يجدوا شيئا فأصبحوا كالمجانين وهكذا انقدت هذه الأشجار. ويوجد فصل في روايتي يثير هذا الحدث. لم أخبر والدي بالأمر بالرغم من أن والدتي قد ظلت تنادي علي وأنا أقوم بذلك الفعل ولم أرد على ندائها إلا بعد أن أنهيت المهمة ورحل الحطابون وأنقذت الأشجار. ولما بلغت الخمسين من عمري، ذهبت إلى ذلك المكان وكانت الأشجار قد اختفت فذرفت دموعا حارة. يا للمصير المظلم الذي أصاب تلك الغابة الجميلة! وما زلت أذكر كيف فر الحارس الفرنسي غداة الانتفاضة من مكان إقامته المسمى بير بعيز قرب طريق مولاي بوعزة. وللأسف لا يوجد من إشارة تحمي ذاكرة هذا المكان التاريخي إلا قطعة خشبية تشير إلى الطريق الذاهبة إلى تلك الإقامة. وللأسف، أيضا، أن حراس الغابة المغاربة الذين التحقوا بالعمل ذاته بعد ذلك الفرنسي تركوا عامة الناس ينهبون خيرات تلك الغابة وأصبحت الجبال صلعاء. وللأسف، مرة ثالثة، الأشجار التي كانت واقفة هناك هي من نمط خاص لا أظن أنها توجد في مكان آخر داخل أو خارج المغرب: البْطُم، الجَبّوج، تِيزْغَة.. هذه الطبيعة شكلت مخيالي وشغفي بحب الكتابة وحب التشكيل. وكنت أعرف أنني لا أستطيع أن أكون كاتبا ورساما لهذا قررت أن أربي شقيقي عبد الكبير، منذ صغره، ليكون فنانا تشكيليا كبيرا. وأحمد الله على أنني توفقت في هذه المهمة كرسالة واستجبت بذلك لتطبيق الوصية التي قلدني بها والدي قبل شهر من وفاته. حيث قال لي، ذات يوم ثلاثاء، تعالى معي نجلس خارج المسكن لنتحدث. ودخل باب الحديث متسائلا عن اسم اليوم. قلت quot;الثلاثاءquot;، وسأل عن اسم الغد. قلت: quot;الأربعاءquot;. وباح بنبوءته: quot;بعد شهر، ابتداء من يوم الغد، سوف أدخل إلى قبري. والآن أوصيك، أولا، أن لا تنقطع عن الدراسة، وتحرس، ثانيا، على أن يدرس إخوتك بالمدرسة، وتقوم بالمهمة الثالثة وهي الحصول على كناش الحالة المدنيةquot;. كان ذلك في شهر غشت من سنة (1960). ثم أضاف الرجل الذي كان يشتم رائحة الموت، لا شك في ذلك: quot;أنك ستكون شيئا مهما إذا بقيت تخطط على الأوراق، كما أراك دائما، فأنت لا تلعب على الأوراق البيضاءquot;. هذه الوقائع من الطفولة هي المرجعية التي تجعلني لا أجد متعة إلا في قراءة الرواية أو القصة القصيرة أو الشعر أو النقد التشكيلي.

-بدأت الكتابة عبر بوابة القصة القصيرة، هل هي قدر أم حمار الكتابة كما بحر الرجز بالنسبة لكتابة الشعر..
-كنت في البداية أكتب الشعر، وفي ثانوية النهضة كانوا يسمونني quot;الشاعر الأخضرquot; لأنني كتبت قصيدة بعنوان quot;طفلة خضراءquot;. هذه القصيدة ذهب بها محمد عباس القباج أستاذ الفلسفة إلى الشاعر العربي الكبير نزار قباني حين زار المغرب بدعوة من رئيس اتحاد الكتاب، محمد عزيز الحبابي، وفوجئ أستاذي بإعجاب نزار بهذه القصيدة ونقل إلي الخبر. ومنذ ذلك اليوم انهمكت كثيرا في كتابة الشعر. وفي قسم الباكالوريا، كنت أقرأ قصائدي على زميلي في القسم محمد المالكي، وكانت لغته مشعة وخطه جميل. وذات يوم مساءً، وهو يسمع أغنية quot;ماذا أقول له إن جاء يسألنيquot; لنجاة الصغيرة وشعر نزار، جوار ثانوية ابن الخطيب بسلا، أطفأت المذياع لأقرأ عليه القصيدة الجديدة التي كتبتها للتو. هي القصيدة التي سيجيز نشرها الشاعر محمد السرغيني المشرف على صفحة quot;أصواتquot; بجريدة quot;العلمquot;. وأستطرد لأقول إنه خلال ندوة تكريمية للشاعر محمد السرغيني، شاركت فيها فتحدثت عن تجربته في الإشراف على هذه الصفحة. فقد كان الرجل يتكبد مشقة السفر من فاس إلى الرباط ليقرأ النصوص.قلت له، بعد نهاية الندوة، لماذا توقفت الصفحة فأجاب بكلام يثير فيض الدموع. قال هناك أناس في جريدة quot;العلمquot; انتابتهم الغيرة مني فأخذوا يضايقونني لتتوقف الصفحة. سألته وهل كان يحصل على تعويض من هذا العمل الشاق، قال: quot;أبدا. كان كل شيء من جيبي ومع ذلك رفضوا أن يستمر دوري في خدمة تنشئة كتاب شبابquot;. بعد هذا التكريم بشهر التقيت بشاعر من فاس كان حضر الندوة وقدم مداخلة تخص التجربة الشعرية للسرغيني، فأخبرني أنه والمحتفى به، مباشرة بعد الحفل، توجها في سيارة إلى طنجة وقال: quot;ظل السرغيني طيلة الرحلة من الرباط إلى طنجة يتحدث عن مداخلة محمد البحتوريquot;. وما فاجأت به السرغيني، يومها، هو إشارتي إلى أمر غير معروف وهو أنه كان عضو جماعة تشكيلية في بغداد حينما كان طالبا هناك. وهو في الحقيقة أحد المؤسسين لقصيدة الحداثة في العالم العربي. وما فاجأني به السرغيني، في حفل تكريمه، هو أنه كان يتزعم دق المسمار الأخير في نعش جامعة القرويين ليتحرر تلامذتها من الدراسة بها وتعطى لهم منح ليسافروا قصد الدراسة بالخارج لأن تعليم القرويين أصبح غير مجد وغير نافع لهذا العصر ولا يكرس إلا التخلف في المغرب. وبعد مظاهرة، وهو تلميذ بها، منحه الحزب الشيوعي المغربي منحة ليذهب إلى باريس ثم الشرق [العراق] للدراسة. وكان صديقا لبلند الحيدري والبياتي.. ولما تساءلت
عن سبب الظل الذي عاش تحته السرغيني.. كان جوابه quot;إن المنابر الحزبية تقتل الطاقات والقدرات ونحن كمبدعين لا نملك أسلحة لمواجهة هذا الطاغوتquot;. وقد أخبرني ذلك الشاعر أن السرغيني قال له لم أكن أتوقع أن أسمع هذا الكلام في الرباط من شخص اسمه البحتوري وكم أنا مسرور لأنني أجزت نصه للنشر سنة سبعة وستين تسعمائة وألف. معنى ذلك أنني كنت صائبا في اختياري لذلك النص. بعد استماعي لحكم صديقي المالكي توقفت، في الحقيقة، عن كتابة الشعر ودخلت مرحلة تأمل وفي نيتي أن أغامر بكتابة القصة القصيرة. وبقيت إلى أن مرت الحملة الانتخابية للمجالس الجماعية في نوفمبر ست وسبعين تسعمائة وألف، تلك الحملة التي كانت بمثابة مدرسة عرت على تناقضات التصورات في المجتمع المغربي حيث يمتزج الماركسي بالأسطوري بالخرافي بالمؤمن بالشعوذة.. فقد كنا نجد في بعض المنازل صورة سحرية خرافية إلى جانب صورة تشي غيفار أو المهدي بن بركة. بل إن بعض المرشحين من الأحزاب التقدمية يذهبون عند فقيه ليمنحهم حرزا [تميمة] يمكنهم من النجاح في الانتخابات! بل يذهب آخرون بالشموع إلى الأضرحة أو بالدجاج قربانا وتسولا من ولي صالح للفوز في الانتخابات!.. أشياء تروع الضمير وترعب كل ذي نفس وتخيف كل آدمي حقيقي. في دائرة آزمور وجدت شخصا يلبس جلباب امرأة كي يصوت حيث رضي الرجل أن يكون نقيضه المرأة في لحظة ما. ولكن الغريب هو أن الوعي الذي ظل طافيا على السطح، واضحا ومتيقظا هو ذاك النابع أو الكامن في فؤاد الفلاحين الصغار. لهذا كتبت أول قصة قصيرة عن سوق في دكالة تحت عنوان quot;العصا محل تقبيل اليدquot; تستوحي هذا الواقع المعقد، وأنا غير متيقن هل هي قصة قابلة للنشر أم غير قابلة. أرسلتها إلى جريدة quot;المحررquot; وكان، القاص والروائي، أحمد المديني هو المشرف على الصفحة. بعد أسبوع فوجئت بها منشورة. أول رد فعل جاء من شخص شعبي له مقهى كنت، كل مساء، أذهب عنده ندردش قليلا وهو يجهز براريد الشاي. سألني quot;ما أخبار الشريف؟quot; قلت له لقد ذهب إلى الدار البيضاء، فقال لي لقد سألتك عن أخبار الشريف، قلت له تقصد الشريف المعاشي البناء، وهو مناضل في حزب الاتحاد، لقد ذهب إلى مدينة الدار البيضاء وربما قضى ليلة البارحة في فيلا الوديع الآسفي في زنقة النخيل ورقمها (44). فأعاد السؤال عن أخبار الشريف بوخبزة. ذهلت لأن الشريف بوخبزة هو بطل القصة. كيف استطاع هذا الإنسان الشعبي أن يتفاعل مع قصتي هذه وهي الأولى. في تلك اللحظة دخل متسول كان أهل مدينة الجديدة يسمونه بالفقيه، أسنانه مسودة، قال لصاحب المقهى أعطيني جطك [نصيبك]. فأعطاه شيئا من المال. خرج المتسول وسرعان ما عاد ينادي علي بالإشارة لألتحق به خارج المقهى. ظننت أنه يريد مني صدقة فإذا به يضاعف دهشتي وذهولي حين قال لي: quot;ألم يعتقلوك بعد؟quot; قلت له: quot;لماذا؟quot; رد قائلا: quot;لأنك كتبت قصة ونشرت اليوم في الجريدة الفلانيةquot;. كان كلماته كحجر يسقط على رأسي: متسول يقرأ الإبداع في مجتمعنا الذي نراه متخلفا؟ طمأنته وودعته وعدت وسألت صاحب المقهى quot;ما الدافع الذي دفعك لقراءة القصة؟quot; quot;أعجبتني السطور الأولىquot;، رد الرجل، quot;فهمت في قراءة القصة وحين عثرت على اسمك في النهاية عرفت أنك كاتبهاquot;. بعدها بأيام، كان اجتماع اللجنة المركزية لحزب الإتحاد. أول من رأيته من المناضلين محمد الوديع الآسفي، سألني هل أنت الذي كتبت quot;العصا محل تقبيل اليدquot;. قلت له نعم. أجابني بالحرف quot;يا أخي لأول مرة أراك تعمل عقلكquot; قلت له: quot;هل كنت، من قبل، مجنونا؟quot; قال quot;بالفعل كنت مجنونا لأنك كنت تكتب شعرا لا يعجبنيquot; كان الوديع الآسفي فقيها سلفيا، خريج القرويين، يكتب شعرا عموديا. ظننت أن المسألة تتعلق بالصراع بين الشعر التقليدي، الذي يكتبه، والمعاصر،الذي أكتبه. لكنه أكد لي أن القصة رائعة وهي تجمع ظواهر مختلفة لواقع عالم البادية. بالصدفة، التقيت بعده مباشرة بالأستاذ محمد ملوك، أستاذ الفلسفة والفكر المعاصر، سألني نفس السؤال: quot;هل أنت من كتب القصة؟quot; قلت له: quot;نعمquot;.. قال بالحرف، quot;إنها شي حاجة.. أعجبتني كثيراquot;. ومن طبع ملوك أن لا يطيل الكلام كثيرا. فارقت الثلة وقصدت العمارة لكي أصعد إلى مكان الاجتماع، فصادفت صعود عبد الرحيم بوعبيد. فسحت له المكان حتى يصعد قبلي. بعد خطوات التفت وسألني نفس السؤال: quot;هل أنت الذي كتبت العصا؟quot; قلت: quot;نعم أناquot;. قال لي: quot;واش تتخور في ذاك الشعر.. هذا الذي يجب أن تكتبه. هنا مكانتكquot;. خمسة مواقف مختلفة، من صاحب مقهى شعبي إلى متسول ففقيه سلفي ثم أستاذ فلسفة فزعيم مساهم في التحليل السياسي. عرفت أن هذه الإشارات تضيء لي الطريق إلى كتابة القصة والرواية. بعد الاجتماع ذهبت إلى مدينة وادي زم. في القيصارية، دخلت إلى المكتبة سألني صاحبها عليّ: quot;هل أنت الذي كتبت تلك القصة؟quot; قلت: quot;نعمquot;. قال لي: quot;لقد تسببت في إغلاق متجر بوادي زمquot;. لماذا؟ quot;لأنك ذكرت فيها غداش. والمتجر، الذي أغلق، هو لأسرة أولاد غداش من السماعلة حينما سمعوا بالقصة خافوا من رجال السلطة فأغلقوا المتجرquot;. بعد هذه القصة، كتبت قصة قصيرة عنوانها quot;وجوه متعددة في مرآة متكسرةquot;، نشرت بمجلة quot;أقلامquot; المغربية وquot;الأقلامquot; العراقية وبجريدة quot;المحررquot;، استثمرت فيها لوحة تشكيلية لرسام مغربي عرض أعماله في منتصف الستينيات بقاعة quot;النادرةquot; بالرباط، كانت اللوحة عبارة عن مرآة متشققة.كل الشقوق كانت منبعثة من نقطة المركز، وفيها نقطة دم، وحين تنتظر إلى اللوحة تفاجأ أنت بوجهك متشققا ومتعددا وكل جزء منه لا يشبه الجزء الآخر. اللوحة أصبحت معبرة عن حال المجتمع المغربي بعد انتخابات نوفمبر المحلية لست وسبعين ويونيو سبعة وسبعين تسعمائة وألف البرلمانية. بعدما أرسلتها في البداية إلى جريدة quot;المحررquot; لم أكن أتوقع أنها ستحدث ما أحدثته بعد نشرها. أذكر يوم جمعة، على الساعة الواحدة، كنت جالسا في منزلي بالجديدة زنقة طارق بن زياد. كنت ألاعب طفلي نور الشعر سمعت دقات على الباب، استغربت من يدق بابي في هذه الساعة يقينا لن يكون إلا أحد الفلاحين لأنني كنت صديقا لهم في كل بوادي دكالة. لما فتحت الباب لم أجد أحدا لصقه، بل رأيت صديقا معلما يقف على مسافة من الباب. سألته عمن كان يدق الباب، أجابني أنه هو، وقال لي quot;هنيئاquot; قلت quot;شكرا، عن أي شيء تهنئني؟quot; quot;عن قصتك quot;وجوه متعددةquot;. ولكن أرجو أن تأتي لنتكلم قليلاquot;. حينما وقفت بجواره سألني: quot;أرجوك أن تصارحني عمن كتبتها؟ من كان حاضرا في ذهنك وأنت تكتب؟quot; لبلادتي ضحكت لأنني فهمت تلقائيا أنه بفعل توجساته وشكوكه هو بطل القصة، لأنه كان قد حصل على الإجازة وغير مساره النقابي والسياسي وذهب إلى نقابة وزير التعليم، يومها وهو من حزب الاستقلال، عز الدين العراقي لينقله إلى التدريس بالثانوي وأصبح أضحوكة المدينة. أجبته بعد ضحكتي، في الحقيقة، لا أقصد أحدا بالذات ولكن قد تنطبق على كل شخص فيه تلك الأوصاف. وما كنت أتوقع أن السيد سيتأثر ويصاب بمرض يلزمه الفراش مدة شهر كامل.. وكلما ذهبت إلى الجديدة، إلى الآن، ورآني انتابه الارتعاش واصفر وجهه وأصبح ممتقعا. هكذا يتضح أن الإبداع الأدبي له قوة التأثير في المجتمع وله قوة على إحداث التغيير في البنية الذهنية. قصصي، كان الفلاحون يشترونها والناس البسطاء. بعد هذه القصة كانت قصة أخرى quot;الحاج غيداش تحت سكين الرباعquot;، عن فضاء طريق مدينة الوالدية وبالذات المكان الذي سيتحول جزء كبير منه إلى مكان يعرف اليوم باحتضان منشآت ميناء quot;الجرف الأصفرquot;. كنت، شخصيا، أعايش كيف يستغل الفلاح الكبير الفلاحين الصغار بل بلغ به الأمر درجة أنه يحول زوجاتهم خليلات له علانية.. وأعرف أسراً كثيرة تشردت جراء هذا الفعل الشنيع.كبيرهم هناك كان يتصرف كما أشباهه في القرون الوسطى. يملك الأرض وما عليها ومن عليها. وفي هذا الموضوع بالذات، كاتب مغربي وحيد كتب قصة عن هذه المنطقة هو المرحوم محمد زفزاف عنوانها quot;بئر الأفاعيquot;، لأن هذا الإقطاعي كانت له عصابة تتحرك في الليل كالخفافيش تخطف كل فلاح صغير قال شيئا ضده في الحملة الانتخابية. تحمله في كيس من الخيش وتلقي به في ذلك البئر المليء بالأفاعي لتفتك به. وبعد هذا كتبت قصصا أخرى كثيرة ستكون في مجموعتي القصصية التي تحمل عنوان quot;أزهار الجمرةquot; استعارة لانتفاضة مدينة وادي زم. والجمرة نوارة توجد بكثرة في قبيلة السماعلة وفي مناطق كثيرة بالمغرب لونها يشبه لون الجمر المشتعل. وحينما سمع محمد جدير هذا العنوان سألني هل استقيته من quot;أزهار الشرquot; لبودلير.
-كنت في البداية أكتب الشعر، وفي ثانوية النهضة كانوا يسمونني quot;الشاعر الأخضرquot; لأنني كتبت قصيدة بعنوان quot;طفلة خضراءquot;. هذه القصيدة ذهب بها محمد عباس القباج أستاذ الفلسفة إلى الشاعر العربي الكبير نزار قباني حين زار المغرب بدعوة من رئيس اتحاد الكتاب، محمد عزيز الحبابي، وفوجئ أستاذي بإعجاب نزار بهذه القصيدة ونقل إلي الخبر. ومنذ ذلك اليوم انهمكت كثيرا في كتابة الشعر. وفي قسم الباكالوريا، كنت أقرأ قصائدي على زميلي في القسم محمد المالكي، وكانت لغته مشعة وخطه جميل. وذات يوم مساءً، وهو يسمع أغنية quot;ماذا أقول له إن جاء يسألنيquot; لنجاة الصغيرة وشعر نزار، جوار ثانوية ابن الخطيب بسلا، أطفأت المذياع لأقرأ عليه القصيدة الجديدة التي كتبتها للتو. هي القصيدة التي سيجيز نشرها الشاعر محمد السرغيني المشرف على صفحة quot;أصواتquot; بجريدة quot;العلمquot;. وأستطرد لأقول إنه خلال ندوة تكريمية للشاعر محمد السرغيني، شاركت فيها فتحدثت عن تجربته في الإشراف على هذه الصفحة. فقد كان الرجل يتكبد مشقة السفر من فاس إلى الرباط ليقرأ النصوص.قلت له، بعد نهاية الندوة، لماذا توقفت الصفحة فأجاب بكلام يثير فيض الدموع. قال هناك أناس في جريدة quot;العلمquot; انتابتهم الغيرة مني فأخذوا يضايقونني لتتوقف الصفحة. سألته وهل كان يحصل على تعويض من هذا العمل الشاق، قال: quot;أبدا. كان كل شيء من جيبي ومع ذلك رفضوا أن يستمر دوري في خدمة تنشئة كتاب شبابquot;. بعد هذا التكريم بشهر التقيت بشاعر من فاس كان حضر الندوة وقدم مداخلة تخص التجربة الشعرية للسرغيني، فأخبرني أنه والمحتفى به، مباشرة بعد الحفل، توجها في سيارة إلى طنجة وقال: quot;ظل السرغيني طيلة الرحلة من الرباط إلى طنجة يتحدث عن مداخلة محمد البحتوريquot;. وما فاجأت به السرغيني، يومها، هو إشارتي إلى أمر غير معروف وهو أنه كان عضو جماعة تشكيلية في بغداد حينما كان طالبا هناك. وهو في الحقيقة أحد المؤسسين لقصيدة الحداثة في العالم العربي. وما فاجأني به السرغيني، في حفل تكريمه، هو أنه كان يتزعم دق المسمار الأخير في نعش جامعة القرويين ليتحرر تلامذتها من الدراسة بها وتعطى لهم منح ليسافروا قصد الدراسة بالخارج لأن تعليم القرويين أصبح غير مجد وغير نافع لهذا العصر ولا يكرس إلا التخلف في المغرب. وبعد مظاهرة، وهو تلميذ بها، منحه الحزب الشيوعي المغربي منحة ليذهب إلى باريس ثم الشرق [العراق] للدراسة. وكان صديقا لبلند الحيدري والبياتي.. ولما تساءلت

-تهتم قصصك القصيرة بوضع الفلاح، وبعضها بالانتفاضة التي هزت أركان الاحتلال الفرنسي بمدينة وادي زم، حتى سماها الفرنسيون quot;ديان بيان فو الثانيةquot; أو المغربية. ثم خصصت روايتك الأولى لهذه الانتفاضة المؤسسة لاستقلال المغرب..
-[مقاطعا]، الانتفاضة، شغلت ذهني ووجداني لأنني شاركت فيها كطفل إلى جانب والدي، لذلك احتلت الذاكرة منذ صغري ورغم ذلك، مهما حاولت أن أمسك بصورة الانتفاضة وصفا لا أستطيع أن يكون الوصف مستوفيا لها: فقد تحولت كثير من الشوارع بوادي زم إلى أنهار من النار والدم، وكانت أجزاء كثيرة من المدينة مفروشة أو مغطاة بالجثث. وكانت أفعال غرائبية قد لا يصدقها عقل الإنسان تحدث. مثلا، كانت أفعال قام بها ديكة، كان الديك يأخذ شيئا من الهري [مخزن] به نار ويذهب به إلى هري آخر لتشتعل النار؟ هل كان مدركا لما يفعل؟ قد يدعي أحد أن هذا مجرد تخرف أو افتعال أو مبالغة.. لكن لا يزال كثير من الناس شاهدوا الحدث، أحياء يحكون عنه، وهذه الشهادات حاسمة. وهناك مسألة أخرى، فالناس واجهوا أسلاك الكهرباء ذات التيار المرتفع من دون خوف. فقد رأيت بعيني هاتين فلاحا من قبيلة السماعلة يقف فوق صهوة حصانه الواقف أسفل أسلاك الكهرباء ويضرب تلك الأسلاك ببندقيته وتتقطع ولا يصاب بأي أذى. هذا الفعل الخارق لا يستطيع العلم التجريبي أن يعطي عنه تفسيرا عدا أن خشب البندقية هو السر المانع من احتراق الفلاح. ثم هذا الحشد الكبير للجماهير التي زحفت على المدينة، كيف تشكل؟ للأسف لا أحد يذكر الحشد الجماهيري وللأسف لا أحد إلى الآن يذكر ذلك المكان الذي لعب دورا كبيرا في هذه الانتفاضة. فأهل ذلك المكان كانوا مظلومين، لأنه لم يعط لهم ذكر في التاريخ نظرا للدور الذي لعبوه في التهييء للانتفاضة. المكان هو سوق ثلاثاء الگفاف، وستغير سلطات الحماية يوم قيامه واسمه مباشرة بعد أسبوع من الانتفاضة. حولته إلى يوم أربعاء وبقى هذا الأمر ساري المفعول إلى اليوم! قرار استعماري لطمس أثر هذا السوق يبقى مستمرا إلى اليوم! وإذا لم يكن ما أقوله صحيحا فلم غيرت السلطات الاستعمارية اسم ويوم انعقاد السوق؟ كان الفلاحون من أقصى السماعلة جوار نهر گرو، وهو اسم فرنسي من المعمرين لا يزال إلى اليوم ملتصقا بهذا النهر الجميل أحد روافد نهر أبي رقراق.. كان هؤلاء الفلاحون يقومون بما يسمونه التقديم، أي المجيء إلى ذلك السوق قبل يوم أو يومين بماشيتهم وبهائمهم على الأرجل يسوقونها لأنه لم تكن وسائل لنقلها. المقاوم الفقيه البصري، قال للّجن المنظمة، المناشير لا يجب أن توزع بمدينة وادي زم، بل المكان الملائم هو الثلاثاء لأن الفلاحين يقضون ليلة الاثنين هناك. لجنة المقاومة دفعت الفلاحين إلى القسم على المصحف لحمل منشور في شكارة كل فلاح، وحينما يعود يفتعل عرسا أو عقيقة ويجمع أعضاء أفراد دواره ويفسر مضمون المنشور الذي يقول بالحرف إن كل من تأخر يوم السبت المقبل عن الذهاب إلى مدينة وادي زم فهو خائن بل هو كافر لأنه لم يساهم في محاربة الكفار. وهنا استغلال الحس الديني، ولكن الطريقة كانت ناجحة. عالم الانتفاضة هذا بقي يتمخض في عمقي ويضغط علي حتى خرج جزء منه في أول قصة قصيرة هي quot;أزهار الجمرةquot;، نشرت بمجلة quot;البداية الجديدةquot; بوادي زم ثم قصة طويلة أخرى تحت عنوان quot;بوابة الزلزالquot;، وبعدهما كنت ما أزال أشعر بأن غليلي لم يشف بعد. إلى أن كتبت روايتي quot;شجرة النجدquot;، التي هي عبارة عن خمسة أجزاء وقد شاهد الأستاذ محمد جدير الأجزاء الأربعة التي لم تنشر في كتب بعد.
-[مقاطعا]، الانتفاضة، شغلت ذهني ووجداني لأنني شاركت فيها كطفل إلى جانب والدي، لذلك احتلت الذاكرة منذ صغري ورغم ذلك، مهما حاولت أن أمسك بصورة الانتفاضة وصفا لا أستطيع أن يكون الوصف مستوفيا لها: فقد تحولت كثير من الشوارع بوادي زم إلى أنهار من النار والدم، وكانت أجزاء كثيرة من المدينة مفروشة أو مغطاة بالجثث. وكانت أفعال غرائبية قد لا يصدقها عقل الإنسان تحدث. مثلا، كانت أفعال قام بها ديكة، كان الديك يأخذ شيئا من الهري [مخزن] به نار ويذهب به إلى هري آخر لتشتعل النار؟ هل كان مدركا لما يفعل؟ قد يدعي أحد أن هذا مجرد تخرف أو افتعال أو مبالغة.. لكن لا يزال كثير من الناس شاهدوا الحدث، أحياء يحكون عنه، وهذه الشهادات حاسمة. وهناك مسألة أخرى، فالناس واجهوا أسلاك الكهرباء ذات التيار المرتفع من دون خوف. فقد رأيت بعيني هاتين فلاحا من قبيلة السماعلة يقف فوق صهوة حصانه الواقف أسفل أسلاك الكهرباء ويضرب تلك الأسلاك ببندقيته وتتقطع ولا يصاب بأي أذى. هذا الفعل الخارق لا يستطيع العلم التجريبي أن يعطي عنه تفسيرا عدا أن خشب البندقية هو السر المانع من احتراق الفلاح. ثم هذا الحشد الكبير للجماهير التي زحفت على المدينة، كيف تشكل؟ للأسف لا أحد يذكر الحشد الجماهيري وللأسف لا أحد إلى الآن يذكر ذلك المكان الذي لعب دورا كبيرا في هذه الانتفاضة. فأهل ذلك المكان كانوا مظلومين، لأنه لم يعط لهم ذكر في التاريخ نظرا للدور الذي لعبوه في التهييء للانتفاضة. المكان هو سوق ثلاثاء الگفاف، وستغير سلطات الحماية يوم قيامه واسمه مباشرة بعد أسبوع من الانتفاضة. حولته إلى يوم أربعاء وبقى هذا الأمر ساري المفعول إلى اليوم! قرار استعماري لطمس أثر هذا السوق يبقى مستمرا إلى اليوم! وإذا لم يكن ما أقوله صحيحا فلم غيرت السلطات الاستعمارية اسم ويوم انعقاد السوق؟ كان الفلاحون من أقصى السماعلة جوار نهر گرو، وهو اسم فرنسي من المعمرين لا يزال إلى اليوم ملتصقا بهذا النهر الجميل أحد روافد نهر أبي رقراق.. كان هؤلاء الفلاحون يقومون بما يسمونه التقديم، أي المجيء إلى ذلك السوق قبل يوم أو يومين بماشيتهم وبهائمهم على الأرجل يسوقونها لأنه لم تكن وسائل لنقلها. المقاوم الفقيه البصري، قال للّجن المنظمة، المناشير لا يجب أن توزع بمدينة وادي زم، بل المكان الملائم هو الثلاثاء لأن الفلاحين يقضون ليلة الاثنين هناك. لجنة المقاومة دفعت الفلاحين إلى القسم على المصحف لحمل منشور في شكارة كل فلاح، وحينما يعود يفتعل عرسا أو عقيقة ويجمع أعضاء أفراد دواره ويفسر مضمون المنشور الذي يقول بالحرف إن كل من تأخر يوم السبت المقبل عن الذهاب إلى مدينة وادي زم فهو خائن بل هو كافر لأنه لم يساهم في محاربة الكفار. وهنا استغلال الحس الديني، ولكن الطريقة كانت ناجحة. عالم الانتفاضة هذا بقي يتمخض في عمقي ويضغط علي حتى خرج جزء منه في أول قصة قصيرة هي quot;أزهار الجمرةquot;، نشرت بمجلة quot;البداية الجديدةquot; بوادي زم ثم قصة طويلة أخرى تحت عنوان quot;بوابة الزلزالquot;، وبعدهما كنت ما أزال أشعر بأن غليلي لم يشف بعد. إلى أن كتبت روايتي quot;شجرة النجدquot;، التي هي عبارة عن خمسة أجزاء وقد شاهد الأستاذ محمد جدير الأجزاء الأربعة التي لم تنشر في كتب بعد.

-انطلاقا من الراوي إلى المواضيع. فالراوي الأساس هو الجد، عايش خمسة ملوك علويين. قاتل ضد بعض القبائل كما ضد الملك مولاي عبد العزيز، وظل قوي البنية خاصة أن جدي المرحوم العربي بن الصالح، الذي لم يمت إلا بعد أن أكمل مائة وخمسين سنة من عمره كان حكاء عن هذا القرن والنصف من حياته. حكاياته كانت قد شحنت فكري وربما هي التي جعلتني حكاء وراويا بالفعل كما قال صديقي محمد المالكي. كان قد جعل لي مخيالا كبيرا عن المنطقة، التي كانت بها معارك تعتبر بمثابة ملاحم. مثلا معركة قام بها شيخ في منطقة لا تزال إلى اليوم في قبيلة السماعلة تسمى سيدي قطيب. كان هذا الرجل لا يذهب إلى السوق لأنه شيخ مسن وزعيم المنطقة، نصبه الناس زعيما لرصيده في التجربة والعقلانية. ولكن بعد عودتهم من السوق ينادي عليهم جميعا ويسألهم عماذا وقع في السوق. فما يسمعه منهم كان هو البوصلة لديه على ما سيحدث في الأيام المقبلة للمنطقة. وذات يوم عاد أفراد القبيلة من السوق وسألهم كالعادة فقالوا له لقد بَرّح بَرّاح، في السوق، بأن الفرنسيين quot;سَيُحَيِّحونquot; بعد ثلاثة أيام من أجل صيد الأرانب. وستبدأ عملية quot;التحييحquot; من سيدي قطيب. ضحك الرجل العجوز ضحكة سخرية وقال كلمة لا زالت إلى اليوم تعتبر مثلا شعبيا رائعا: quot;إيه شحال فيك أسيدي قطيب من أرانبquot;. قال هذا لأنه لم تكن أرنب واحدة في سيدي قطيب. فهم الرجل بفضل تجربته الحياتية أنهم سيغتصبون خيرات هذا الدوار أو القبيلة. فقال لهم بعدما نطق بهذه الحكمة غدا سأرفع الراية البيضاء عالية ليجتمع كل سكان المنطقة وأعطيكم الأمر الملزم بالتنفيذ. وفي الغد، بعدما رفع الراية واجتمعوا قال لهم quot;عليكم بطيّ خيامكم وشد الرحال إلى داخل ذلك الحصن البعيد. نتحصن داخله نحن وأمتعتنا وبهائمنا وكل ما نملك. وحين حانت ساعة التحييح كان الصيادون الفرنسيون يحملون بنادقهم متجهين صوب سيدي قطيب، فوجدوا المكان فضاء فارغا.أصيبوا بخيبة وفشل. قالوا لن يكون صاحب هذه الفعلة سوى ذلك الشيخ الملعون. مثل هذه الحكاية وحكايات أخرى عن مكان يسمى فدان الفار، وتيميستي، أو المحل المسمى بالعكلة، أو نهر شعف، أو جبل سيدي قطيب أو جبل زق الطير.. وحكاية أخرى عن الفضاء الذي بنيت به المدينة التي تسمى وادي زم. يحكى أن هذا الوادي كان يسمى وادي الغزلان، وبعد مجيء موسى بن نصير لفتح المغرب دخل من الصحراء ومر بوادي سوس، ثم بالمكان الذي توجد به اليوم مدينة أوروز، قاصدا جبل توبقال، في طريقه لاحظ وجود مجموعة من الناس يصلون فتساءل quot;ياعجب! نحن متوهمون! ظننا أننا ندخل الإسلام إلى المغرب فإذا الناس يصلون هنا، لننتظر إلى أن ينهوا صلاتهمquot;. بعد ذلك، أخبروه قائلين: quot;لقد أرسلنا وفدا زار النبي محمد وأرسل معنا وفدا علمنا الصلاة والقرآنquot;. وبقي هذا المكان، إلى اليوم، يسمى باب المؤمنين وبه مدرسة فرعية لمجموعة مدارس المتنبي. بعد ذلك، وصل موسى بن نصير إلى وادي الغزلان، جلس يستريح ومن معه، قدموا ماء وعلفا للخيول في الصباح لاحظ أن حالتها تحسنت كما لم يحدث من قبل. هذا حصل للخيول بفعل جودة الهواء والماء والمرعى. فدعا أن يبقى هذا المكان جنة للخيول. ومنذ ذلك الوقت، عرفت مدينة وادي زم بالخيول الجيدة بل إن أول مركز أنشأه الفرنسيون بالمدينة مركز لتربية الخيول ولا يزال إلى اليوم. وادي زم سوق للخيول إلى اليوم، وازدهار التبوريدة [سباق الخيول]. لكن لماذا تحول هذا الفضاء من اسم وادي الغزلان إلى وادي زم؟ يحكي جدي أنه كان مكانا لا تعيش فيه إلا الغزلان. قطعان كثيرة كان جدي يسوق بعضها لذبحها والتزود بلحمها فاشتمت رائحتها، ذات يوم، الأسد التي كانت في الأطلس خاصة ببني ملال وأحنصال فاقتفت أثر الرائحة فاهتدت إلى هذا الوادي. فعاثت فيها فرسا. فرت الغزلان من هناك إلى غابة السماعلة ثم إلى المناطق الأخرى فتحولت تسمية الوادي من وادي الغزلان إلى وادي زم (وادي الأسد). مثل هذه الحكايات لعبت دورا كبيرا في تشكيل الرواية سواء ما قبل الانتفاضة أو بعدها..
-اتخذت الرواية شكلا يوحي بالاشتغال عليه دون العناية بالمضمون وحده. وقد يشعر القارئ بالنفس الشعبي يقطر رحيقا بين ثنايا الفصول والحوارات والأحداث..
-في الأصل، كتبت الرواية قصة قصيرة، وحين هممت بدفعها إلى النشر راجعتها فأصبحت نصا من ثلاث حلقات أعلنت عن عدد الحلقات هذا في الحلقة الأولى المنشورة بجريدة quot;المنعطفquot;. لكنني فوجئت بتدفقها في الكتابة. وسرت حسب نصيحة بعض الأصدقاء الذين يتهمونني دائما بأنني أمارس الرقابة والإلجام على حريتي في الكتابة. ولهذا أعطى هذا التدفق المتحرر، التقنية أو التخطيط الأصلي أكله: أن يكون عالم النص يتشكل وفق جريان أحداث سيرة الأسرة وسيرة الشخصية وسيرة القبيلة وسيرة مدينة quot;وادي زمquot; انطلاقا من الانتفاضة مع التأرجح بين حاضر وماضي جدي العربي بن الصغير. كنت أمارس الرقابة والإلجام أثناء الكتابة. وكان هذان الداءان تسربا إلي من أستاذي الذي أعشق شخصه كشاعر يلزم نفسه بالفكر والمعجم والرؤيا أثناء الكتابة وهو محمد الخمار الگنوني لأنه كان يقضي تسعة أشهر في كتابة قصيدة واحدة من ثلاث صفحات. ثلاثة أشهر يخصصها لتأمل المعجم والتقنية والرؤى وتشكيلها وثلاثة أشهر أخرى في كتابة القصيدة والثلاثة أشهر الأخيرة في التنقيح. وفي النهاية، تأتي قصيدة الخمار معجزة. وتصبح صعبة على الفهم. مثلا قصيدته quot;هوامش على الخريف الورقيquot; المنشورة في الملحق الثقافي لجريدة quot;العلمquot; وفي مجلة quot;الوحدةquot; لا أحد في المغرب أدرك أن الشاعر يهجو فيها صديقه الحميم الشاعر الكبير المجاطي لأنه نال جائزة الدولة، بل الغريب والمدهش أن المجاطي لم يفهم هذا الأمر بدليل أنه هو الذي ألح عليه كثيرا ليسلمه نسخة من القصيدة وينشرها في مجلة quot;الوحدةquot; وهو في حالة سرور وفرح. بينما أمامي كان الخمار يتهكم عليه في خفاء. وكنت الوحيد إلى جانب محمد الوهابي اللذين نعرف باطن هذه القصيدة والظاهر. فيما بعد سيسر لي: quot;كنت على خطأ في حق الجائزة. هو أيضا يستحقهاquot;. يقصد الشاعر المجاطي. لكنه كان يرى أنه أحق بها أولا.. هكذا كانت قصصي القصيرة فيها غموض وفيها نضج مثل أستاذي الگنوني. لكنني تمردت على نفسي، فيما يخص كتابة الرواية ربما لأن الخمار الگنوني مات منذ أمد طويل. وحتى القصيدة التي يشتم فيها حزب الاتحاد الاشتراكي (قصائد على ذاكرة من رماد) وهي ما قبل الأخيرة في الديوان لا أحد فهم مغزاها بدليل أن جريدة quot;الاتحاد الاشتراكيquot; ستنشرها وتخصص لها الصفحة الأخيرة كلها. في فرح وحبور بعودة هذا الشاعر إلى الساحة بعد غيابه لمدة اثنا عشر سنة. وقصة نشرها في جريدة quot;البلاغ المغربيquot; تطول إذ أنه كان يبحث عن منبر لنشرها يسميه بيضة quot;الاتحاد الاشتراكيquot; أي جريدة متفرعة عن الاتحاد. اقترحت عليه quot;البلاغ المغربيquot; ترك لي القصيدة خلال عطلة الربيع لتنشر في يوم خاص لمعنى وغاية في نفس يعقوب. وسافر هو إلى القصر الكبير. ذهبت بالقصيدة إلى محمد بن يحيى [مدير الجريدة] رفض نشرها لأنه لا يوجد خطاط جريدة quot;الميثاق الوطنيquot; وخطاط جريدة quot;العلمquot; مسافر. أصبحت في ورطة إلى أن التقيت ذات مساء بمحمد بوخزار جوار المقهى الايطالي قبالة محطة القطار في الرباط أخبرته بالأمر لم يصدق عودة الخمار إلى الإبداع. حكيت له ما وقع بيني وبين بنيحيى فقال لي بالحرف quot;بن يحيى أحمق لأنه عاد من منفاه للتو ولا يعرف خبايا الساحة المغربيةquot;. كان ذلك سنة (1986). ثم أضاف quot;لقاؤنا يكون في الساعة الثامنة بمقر الجريدة وستراني ما أنا فاعل ببنيحيىquot; وبالفعل، في الوقت المحدد حضر السي محمد بوخزار. ثار في وجه بنيحيى الذي خضع في الأخير لإرادة بوخزار. قال لي quot;أمنحك (48) ساعة لتبحث عن خطاطquot; تذكرت صديقا درس مع الخمار أصبح مدرسا للفلسفة، هو السي محمد الزاهر [يشتغل اليوم في اليابان مترجما باليونسكو] كان خطاطا ماهرا ومترجما بارعا على درجة كبيرة من الإتقان جعلت مدير وكالة أنباء quot;المغرب العربيquot; يوظفه وهو طالب وكان يحصل على حوالتين. اشترط عليّ الزاهر شرطين: محبرة المداد وقصبة غير منجورة. في الغد أتيت بما طلب وفي مكتبه نجر القصبة إلى أن أصبحت قلما وخطط القصيدة حينما دخل رئيس قسمه ووجده يخطط قال له: quot;لماذا لا تكتب التقرير والاجتماع قريبquot; فناوله التقرير مكتوبا، ثم أكملنا التخطيط وحملني على متن سيارته إلى مقر جريدة quot;البلاغ المغربيquot;. وهناك شاهدت مفاجأة أخرى: حدث لأول مرة بين الزاهر وبنيحيى لقاء بعد الفراق الذي امتد منذ كانا تلميذين في ثانوية النهضة بسلا. وأخيرا خرجت القصيدة إلى الوجود في بداية الأسبوع. حمل طلبة تكوين المكونين بكلية الآداب بالرباط القصيدة إلى حصة الأستاذ عباس الجيراري بعدما ناول أحد الطلبة الجريدة للأستاذ قرأها ثم شرع يبكي أمام الطلبة قال لهم: quot;أنا بنفسي موجود في هذه القصيدةquot;. في حصة الناقد محمد مفتاح، أصبحت القصيدة موضع دراسة ثم كتب عنها بحثا بمجلة quot;دراسات أدبية ولسانيةquot;. وهكذا تشعبت تفسيرات القصيدة ولا أحد أدرك أنها تنتقد حزبا سياسيا بارزا. ويموت الخمار وتأتي سنة (2007) وتمر الانتخابات البرلمانية ونشاهد صدق حدوس هذه القصيدة خاصة البيت الذي يقول فيه: quot;ها أنت أيها البرق تنطفئ لتصبح مجرد رمادquot; وكذلك نقف على صدق فراسة الشاعر بالمطلع: quot;راية غدت رايتين غدت مزقا، غدت تغزل الدم بالدم الهمجي...quot; مشيرا قبل الأوان إلى انقسام الحزب بسبب تضارب مصالح المنتمين والانتهازية.. غياب الخمار طيلة هذه المدة، دون شك، لعب دورا كبيرا في تحرري من الفرملة أثناء الكتابة فأطلقت العنان لقلمي. وفي نص الرواية جملة تشير إلى ذلكquot; لا أنصت الآن إلا لخرير ذاتيquot;. وهكذا وقع استرسال الحلقات فاحتضنتها رواية quot;شجرة النجدquot;، ثم توالت الكتابة حتى استوت الرواية في خمسة أجزاء لم تر الأربعة النور بعد..
-في الأصل، كتبت الرواية قصة قصيرة، وحين هممت بدفعها إلى النشر راجعتها فأصبحت نصا من ثلاث حلقات أعلنت عن عدد الحلقات هذا في الحلقة الأولى المنشورة بجريدة quot;المنعطفquot;. لكنني فوجئت بتدفقها في الكتابة. وسرت حسب نصيحة بعض الأصدقاء الذين يتهمونني دائما بأنني أمارس الرقابة والإلجام على حريتي في الكتابة. ولهذا أعطى هذا التدفق المتحرر، التقنية أو التخطيط الأصلي أكله: أن يكون عالم النص يتشكل وفق جريان أحداث سيرة الأسرة وسيرة الشخصية وسيرة القبيلة وسيرة مدينة quot;وادي زمquot; انطلاقا من الانتفاضة مع التأرجح بين حاضر وماضي جدي العربي بن الصغير. كنت أمارس الرقابة والإلجام أثناء الكتابة. وكان هذان الداءان تسربا إلي من أستاذي الذي أعشق شخصه كشاعر يلزم نفسه بالفكر والمعجم والرؤيا أثناء الكتابة وهو محمد الخمار الگنوني لأنه كان يقضي تسعة أشهر في كتابة قصيدة واحدة من ثلاث صفحات. ثلاثة أشهر يخصصها لتأمل المعجم والتقنية والرؤى وتشكيلها وثلاثة أشهر أخرى في كتابة القصيدة والثلاثة أشهر الأخيرة في التنقيح. وفي النهاية، تأتي قصيدة الخمار معجزة. وتصبح صعبة على الفهم. مثلا قصيدته quot;هوامش على الخريف الورقيquot; المنشورة في الملحق الثقافي لجريدة quot;العلمquot; وفي مجلة quot;الوحدةquot; لا أحد في المغرب أدرك أن الشاعر يهجو فيها صديقه الحميم الشاعر الكبير المجاطي لأنه نال جائزة الدولة، بل الغريب والمدهش أن المجاطي لم يفهم هذا الأمر بدليل أنه هو الذي ألح عليه كثيرا ليسلمه نسخة من القصيدة وينشرها في مجلة quot;الوحدةquot; وهو في حالة سرور وفرح. بينما أمامي كان الخمار يتهكم عليه في خفاء. وكنت الوحيد إلى جانب محمد الوهابي اللذين نعرف باطن هذه القصيدة والظاهر. فيما بعد سيسر لي: quot;كنت على خطأ في حق الجائزة. هو أيضا يستحقهاquot;. يقصد الشاعر المجاطي. لكنه كان يرى أنه أحق بها أولا.. هكذا كانت قصصي القصيرة فيها غموض وفيها نضج مثل أستاذي الگنوني. لكنني تمردت على نفسي، فيما يخص كتابة الرواية ربما لأن الخمار الگنوني مات منذ أمد طويل. وحتى القصيدة التي يشتم فيها حزب الاتحاد الاشتراكي (قصائد على ذاكرة من رماد) وهي ما قبل الأخيرة في الديوان لا أحد فهم مغزاها بدليل أن جريدة quot;الاتحاد الاشتراكيquot; ستنشرها وتخصص لها الصفحة الأخيرة كلها. في فرح وحبور بعودة هذا الشاعر إلى الساحة بعد غيابه لمدة اثنا عشر سنة. وقصة نشرها في جريدة quot;البلاغ المغربيquot; تطول إذ أنه كان يبحث عن منبر لنشرها يسميه بيضة quot;الاتحاد الاشتراكيquot; أي جريدة متفرعة عن الاتحاد. اقترحت عليه quot;البلاغ المغربيquot; ترك لي القصيدة خلال عطلة الربيع لتنشر في يوم خاص لمعنى وغاية في نفس يعقوب. وسافر هو إلى القصر الكبير. ذهبت بالقصيدة إلى محمد بن يحيى [مدير الجريدة] رفض نشرها لأنه لا يوجد خطاط جريدة quot;الميثاق الوطنيquot; وخطاط جريدة quot;العلمquot; مسافر. أصبحت في ورطة إلى أن التقيت ذات مساء بمحمد بوخزار جوار المقهى الايطالي قبالة محطة القطار في الرباط أخبرته بالأمر لم يصدق عودة الخمار إلى الإبداع. حكيت له ما وقع بيني وبين بنيحيى فقال لي بالحرف quot;بن يحيى أحمق لأنه عاد من منفاه للتو ولا يعرف خبايا الساحة المغربيةquot;. كان ذلك سنة (1986). ثم أضاف quot;لقاؤنا يكون في الساعة الثامنة بمقر الجريدة وستراني ما أنا فاعل ببنيحيىquot; وبالفعل، في الوقت المحدد حضر السي محمد بوخزار. ثار في وجه بنيحيى الذي خضع في الأخير لإرادة بوخزار. قال لي quot;أمنحك (48) ساعة لتبحث عن خطاطquot; تذكرت صديقا درس مع الخمار أصبح مدرسا للفلسفة، هو السي محمد الزاهر [يشتغل اليوم في اليابان مترجما باليونسكو] كان خطاطا ماهرا ومترجما بارعا على درجة كبيرة من الإتقان جعلت مدير وكالة أنباء quot;المغرب العربيquot; يوظفه وهو طالب وكان يحصل على حوالتين. اشترط عليّ الزاهر شرطين: محبرة المداد وقصبة غير منجورة. في الغد أتيت بما طلب وفي مكتبه نجر القصبة إلى أن أصبحت قلما وخطط القصيدة حينما دخل رئيس قسمه ووجده يخطط قال له: quot;لماذا لا تكتب التقرير والاجتماع قريبquot; فناوله التقرير مكتوبا، ثم أكملنا التخطيط وحملني على متن سيارته إلى مقر جريدة quot;البلاغ المغربيquot;. وهناك شاهدت مفاجأة أخرى: حدث لأول مرة بين الزاهر وبنيحيى لقاء بعد الفراق الذي امتد منذ كانا تلميذين في ثانوية النهضة بسلا. وأخيرا خرجت القصيدة إلى الوجود في بداية الأسبوع. حمل طلبة تكوين المكونين بكلية الآداب بالرباط القصيدة إلى حصة الأستاذ عباس الجيراري بعدما ناول أحد الطلبة الجريدة للأستاذ قرأها ثم شرع يبكي أمام الطلبة قال لهم: quot;أنا بنفسي موجود في هذه القصيدةquot;. في حصة الناقد محمد مفتاح، أصبحت القصيدة موضع دراسة ثم كتب عنها بحثا بمجلة quot;دراسات أدبية ولسانيةquot;. وهكذا تشعبت تفسيرات القصيدة ولا أحد أدرك أنها تنتقد حزبا سياسيا بارزا. ويموت الخمار وتأتي سنة (2007) وتمر الانتخابات البرلمانية ونشاهد صدق حدوس هذه القصيدة خاصة البيت الذي يقول فيه: quot;ها أنت أيها البرق تنطفئ لتصبح مجرد رمادquot; وكذلك نقف على صدق فراسة الشاعر بالمطلع: quot;راية غدت رايتين غدت مزقا، غدت تغزل الدم بالدم الهمجي...quot; مشيرا قبل الأوان إلى انقسام الحزب بسبب تضارب مصالح المنتمين والانتهازية.. غياب الخمار طيلة هذه المدة، دون شك، لعب دورا كبيرا في تحرري من الفرملة أثناء الكتابة فأطلقت العنان لقلمي. وفي نص الرواية جملة تشير إلى ذلكquot; لا أنصت الآن إلا لخرير ذاتيquot;. وهكذا وقع استرسال الحلقات فاحتضنتها رواية quot;شجرة النجدquot;، ثم توالت الكتابة حتى استوت الرواية في خمسة أجزاء لم تر الأربعة النور بعد..
التعليقات