عرض إبراهيم غرايبة: يرصد المؤلف أيمن عبد الرسول في هذا الكتاب quot;في نقد المثقف والسلطة والإرهابquot; مقولات المثقف من الغزالي إلى أركون، ومن سلامة موسى إلى فرج فودة، ولا ينسى نقد دور السلطة في تدجين المثقف، ولا نقد دور المثقف في تدشين السلطة، ليتساءل عن منبع الإرهاب، والتصدي لمقولاته. فالكتاب هو من جهة نقد للمثقف بسلبيته وانتقائيته وتناقضاته في أغلب الأحيان، ونقد للإرهاب الديني بطرح قضايا محل النقاش على مائدة التشريح لما أسماه المؤلف بالإسلام الوضعي ومحاولة تجديد الخطاب الديني.

المثقف بين القتل والانتحار
لماذا أصبح المثقف إشكالية؟ وبالنسبة لمن تحديدا؟ يجيب المؤلف أيمن عبد الرسول ويقول لأنه دائما ما يدعي أنه الأكثر وعيا، والأكثر استنارة والأكثر تقدمية وعقلانية وثورية إلى آخر تلك الادعاءات التي تتحطم على صخرة الواقع. فالواقع يصدمه في وعيه بما لا يعيه، فيبدو مشوها أمام ظواهر كان أولى به أن يتعرض لها وأن يتفهمها وأن يحاول تقديم العلاج لها.
والجدل العملي يكشف أن الاستنارة قد تنحرف فلا تقبل الاختلاف، وتطالبنا -الآخرين- بالتسامح بينما لا تقدم هي نموذجا له، والتقدمية تصبح الرهان على تقدمية ما مضى سواء بالاستعانة بتراثنا العربي أو الاستدانة الثقافية من تراثنا الغربي، وكلاهما بالفعل تراثنا الإنساني المشترك لكنهما في النهاية تراث (مخلفات الآخرين الذين مروا من هنا).
موت المثقف مقولة شاعت مع شيوع مقولات النظام العالمي الجديد وهي مقولة لا تخص الغرب وحده بصفته منجز الإبداع الإنساني المعاصر وقد تناولها بعض مفكرينا العرب.
فإذا كان المثقف الغربي انتهى دوره لأنه أوصل مجتمعه إلى بر الأمان والمعلومات والمعارف الذي لم يعد تحتاج من الإنسان الغربي سوى الضغط على أزرار ليحصل على ما يريد دون وساطة، فإن المثقف العربي انتحر عندما آمن بأن دوره هو نسج قصائد تلحس قدم الخليفة وتمجد عرش السلطان فآثر العزلة والتقوقع، وأخيرا مات منتحرا بالأيدولوجيا والفلسفات المغتربة على روح الجماهير. وحتى أولئك الذين زعموا أنهم مثقفو الشعب، رفضهم الشعب ولم يتقبل وصايتهم على الحقيقة التي يوفرها له الدين والواقع العملي المعاش.

المثقف والسلطة
هنا يفرق الكاتب بين المثقف التقليدي والمثقف الثوري، فالمثقف التقليدي هو في أكثر حالاته نضوجا كنموذج ليبرالي يؤمن بالتغير التدريجي ويقف ضد الثورية ويؤمن بضرورة الثبات بدعوى الاستقرار، فبقاؤه على كرسي الوعظ مرتبط ببقاء النظام الذي نصبه وصيا وحيدا على المجتمع، ولكن عندما تتأزم علاقته بالسلطة السياسية نجده يتفق مع عدوه الثوري في حتمية التغيير والاختلاف. وهو كما يرى الكاتب يبدو واسعا في نقطتي الدين والجنس وتضيق مساحته كلما اقترب من الساحة السياسية، فالإخوان المسلمون واليسار مثلا كتيارات فكرية يهمها زوال الوضع الراهن رغم اختلاف المناهج والأساليب، لكنهما لا يتفقان فيما عدا ذلك.
أما المثقف الثوري فهو أكثر شيوعا في ثقافة التهميش الرسمية والأكثر جرأة، وهو دائم الجدل مع كل أشكال السلطة حتى ليظن البعض أن هذا النمط يكره السلطة كراهية مبدئية لا أيدولوجية، بمعنى أنه يريد عالما بلا سلطات لا يمارس فوضاه كما يدعي مخالفوه.
ولكن باختراقاته لا يمارس سوى نقل قيم مجتمع آخر (الأميركي أو الأوروبي) الذي تتلمذ على أيدي مفكرين علمانيين، فكل ما هنالك حالة استبدال (ربما لاواعية) لقيم مجتمعه الذي يتمرد عليه بقيم مجتمع آخر ربما أكثر ليبرالية من وجهة نظره.

الأنسنة الملاذ الأخير
الدين الذي يهمل الاجتهاد الفكري المبدع والناقد لجميع ما ينتجه العقل يصبح لا محالة آلة خطرة يستغلها المتلاعبون بالنفوس والقامعون للحريات الأساسية التي يتطلبها كل إنسان كي يرتقي إلى درجة الأنسنة.. هذه مسلمة أركون التي اتخذها ركيزة لافتتاح عدد من التساؤلات والإشكالات.
ويزعم أركون أن الإسلام الكلاسيكي شهد الأنسنة قبل أن تشهدها أوروبا في القرن السادس عشر أثناء النهضة، ولكن هذه الحركة الناتجة عن مزج الفلسفة الإغريقية بالدين الإسلامي أجهضت ولم تدم طويلا. هذه الأنسنة التي يمثلها الجاحظ والتوحيدي بالتزام قضايا الإنسان كإنسان بغض النظر عن استغلال معالجة تلك القضايا لأغراض شخصية أو أيدولوجية أو مادية، فالأنسنة كما فهمها وجسدها التوحيدي مثلا تثور على الإنسان عندما يصبح العدو الأخطر للإنسان.
مصطلح الأنسنة يلفت الانتباه إلى تلك الأبعاد الغائبة بعد ازدهارها في عهد الأدب والأدباء، بما يعني الدعوة بإلحاح إلى ضرورة إحياء الموقف الفلسفي في الفكر العربي بخاصة والفكر الإسلامي بعامة، ولا سبيل إلى الاعتناء بمصير الإنسان اعتناء شاملا نقديا منيرا محررا بدون التساؤل الفلسفي في التأصيل الفكري النقدي للنزعة الإنسانية، ولا بد من ذكر الموقف الديني الذي يعتني بمصير الإنسان وهدايته إلى الطريق المستقيم.
لقد ذهبت المناظرات الفكرية رفيعة المستوى التي كانت تجري بين مفكرين كبار ينتمون إلى مذاهب مختلفة ويتقنون علوما متعددة، بل ويعتقدون أديانا متعادية أو متنافسة، وحل مكانها ضجيج أيدولوجي وإعلامي، فالاعتراف بالتعددية كان سائدا ومقبولا في فجر الإسلام وضحاه.

المثقف والأنثى
ترى الأنثى علاقة المثقف بها علاقة استهلاك مجاني، وأنه على كل المستويات رجل مصاب بالازدواجية وأنه أسوأ من الرجل العادي الذي يعلن بوضوح سياديته ووحشيته غالبا بدون خجل، فالأخير أكثر اتساقا من الوجهة المنطقية عن المثقف.
يرى المؤلف أن المثقف ينتمي إلى منظومة اجتماعية تمتهن المرأة، وقد شكلت هذه المنظومة سلطة على المثقف رغم أنه يفترض أن يكون مشغولا بالهم الإبداعي والمعرفي وتشكيل الرأي العام وتجاوز مفهوماته.
وفي كتابها quot;المبتسرونquot; كتبت أروى الصالح فصلا تحت عنوان quot;المثقف عاشقاquot; كالت فيه الاتهامات للمثقف، ولكن الأنثى ليست دائما كائنا مضطهدا، فكثيرا ما يكون الذكر كائنا مدجنا خاضغا لسلطة أنثوية من الأم والزوجة، وتخترع الأنثى حيلا عبقرية لتجاوز الواقع الذي يكرسها ملكية عائلية، فهي تمارس حرية في الخفاء، وفي خروجها للعمل الذي أصبح مقبولا حتى في أوساط مغلقة ومحافظة، وتطلب ذلك من المرأة أن تبحث عن حماية ذاتية.
فالأنثي تنشئ سلطتها بالفعل إن شاءت، ولعل خلافها التأسيسي مع المثقف هو التصور النمطي للمثقف بوصفه الأكثر وعيا من الآخرين والذي يحسن التعبير عن نفسه وعنها في آن، فعندما تكتشف أنه إنسان عادي مضاف إليه الكثير من المرارة لأنه يعرف أكثر، تقع الصدمة.
الأنثي تريد من المثقف أن يعاملها بندية ومساواة، وتريده رجلا قويا أمام المجتمع لأنه يحميها ورجلا مستأنسا في البيت، ولكنه ليس آمرا ناهيا على الطريقة الكلاسيكية.
والمثقف يعجب بالمرأة المثقفة المتحررة والمبدعة، لكنه لا يتزوجها خوفا من عقد وتعليقات المجتمع، والمشكلة هي كيف يتحرر المجتمع من مقولاته الزائفة التي أدت إلى تعقيد وضع الأنثى والمثقف معا.
فالأنثى والمثقف عند المجتمع كائنات مقهورة، وإذا وعى كل منهما هذه الرؤية كانت علاقتهما أفضل بكثير مما هي عليه من زيف وادعاء وكذب وخيانة، فهما يعيشان اغترابا على مستوى المجتمع، وهما في محاولة ورغبة لتجاوز هذا الواقع.

تجديد الخطاب الديني
إن إشكالية التجديد أخطر من فهمها بسطحية فالناس في شوارعنا لا تعرف تماما ماذا تعني بالتجديد. ومن أجل مزيد من التحديد يجب تعريف التجديد بأنه إعادة قراءة ما ينتج سلفا بعيون عقلانية متزامنة مع معاناة الأمة المسلمة وقضاياها، فالعقل الإسلامي عندما يطرح قضية التجديد فهو يطرح قضية حياة أو موت.
الثابت أن إلهنا واحد وأن نبينا محمد وأن صلواتنا خمس ورمضان صيام وزكاتنا فريضة وحجنا أمانة على من استطاع أداءه، فكل شيء كما يؤكد المفكر قابل للنقاش وليس المفاوضة، الحوار لا الشجار، التجديد لا التبديد، لذلك فتجديد الخطاب الإسلامي فريضة على كل من استطاع إلى ذلك سبيلا إذا تحصنا بفهم واع لتيارات العقل الإسلامي وروافد تشكيله وأهدافه وغاياته النبيلة.
فليذهب كل واحد إلى مصحفه ليفهم كلام ربه كما أنزله على نبيه الكريم وليراجع تفاسيره وليقبل منها ما يتفق مع العقل ويرفض ما دون ذلك، ويغربل كتاب التراث بحثا عن الصالح والعقلاني والمنطقي الجميل، ويرفض كل ما هو فاسد أو خرافي أو ساذج وقبيح.
إننا إذ نوجه هذه الدعوة لسنا تابعين لأحد ولا نكتب بناء على أوامر من أي مخلوق وإنما نحتسب ما نقول طاعة للخالق وقربانا إليه، فلن يكون أبدا خطابا أميركيا معدلا، وإنما فهم علمي للإسلام ينتفي معه الفهم النفعي للدين مؤمنين بأن الزبد سيذهب جفاء وأن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض، فلنترك الحكم للناس والتاريخ ونمارس حقنا المفروض في تجديد الدين منتظرين أن نغير أنفسنا حتى نجابه الإرهاب بنوعيه المتمسح بالإسلام والإرهاب الأميركي.
وأخيرا يؤكد أيمن عبد الرسول أن تأسيس الوعي الاستفهامي هو سبيلنا لتجاوز أزمة الوعي الاستسلامي في مجتمعاتنا، من أجل مراجعة نقدية لكل ما تصوره العقل الإسلامي في عهوده المختلفة ومراجعة موقفه من الآخر والعقل والحرية، لعل هذا الوعي الاستفهامي يقودنا إلى إجابات جديدة لأسئلة أخرى.

الحجاب فريضة دينية أم عادة اجتماعية؟
لقد عرفت مصر الحجاب قبل الإسلام، والحجاب هو زي الراهبات المسيحيات، وفي لسان العرب: الحجاب: الستر، وحجب الشيء ستره، ونقرأ في العهد القديم ما يشير إلى ارتداء النساء للنقاب حتى قبل الميلاد بنحو 19 قرنا من الزمان quot;رفعت رفقة عينيها فرأت إسحق فأخذت البرقع وتغطتquot; (سفر التكوين)، وفي العهد الجديد quot;لا حاجة للرجل لتغطية رأسه، فهو صورة الله ومرآة مجده، أما المرأة فمرآة لمجد الرجل، فوجب عليها أن تلبس نقابا على رأسها احتراما منها للملائكةquot;.
الفريضة برأي المؤلف أقوى من الفريضة الدينية، والحجاب تحول من عادة إلى عبادة، والمهم في النهاية هو الحرية الشخصية، ولكن النقاب أمر يراه المؤلف مرفوضا لأنه احتيال وطمس لملامح الشخصية، وإذا اختارت المرأة أن تختفي فلا داعي لأن تظهر، أما أن ترتدي النقاب في عمل يتطلب إثبات شخصيتها كالعمل والجامعة والمدرسة فهذا من باب العته.
والمجتمع الذي فرض الحجاب لا يقر النقاب الذي يخفي شخصية صاحبه، ويجب مناقشة الأمور الاجتماعية من منظورها وليس من منظور آخر غير المجتمع الذي أنتجها.
ولما كان الحجاب أمرا خاصا بزي المرأة، وهو بطبيعة الحال مختلف من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، فلا معنى لأن تلتزم المرأة اليوم بالزي البدوي لنساء القبائل في جزء من العالم، وإذا قبل الحجاب فبوصفه زيا يختاره البعض ويفضله وليس أكثر، وليس تمييزا طائفيا.

نقلا عن quot;الجزيرةquot;