إذا أردنا الكتابة عن العلاّمة الراحل الدكتور حسين علي محفوظ 1926 ـ 2009 فعلينا أن نستذكر ما كتبه الأستاذ الكاتب والمؤرِّخ بل والمفكِّر العراقي حميد المطبعي، وإذا كانت المسافات باعدت بيننا ومكتباتنا في بغداد، فلنا أن نستعين بكتّاب عراقيين عاشوا مع الرحل محفوظ يوم بيوم أو من أسبوع لأسبوع، ومنهم الكاتب العراقي اللامع سلام الشمّاع وغيره من الكتاب والصحافيين العراقيين الذين بذلوا الجهد فائضا في الكتابة عن أعلام العراق المعاصرين. إلا أن ما تبقّى في الذاكرة لكاتب مثلي عاش على مقربة من منزل حسين علي محفوظ الكائن بالقرب من ساحة الشاعر عبد المحسن الكاظمي في مدينة الكاظمية الرائقة بقباب ومنائر مساجدها الجميلة، ربما يجدي شيئاً.
في بداية سبعينيات القرن الماضي، شاهدتُ حسين علي محفوظ ذلك الكائن قصير القائمة الذي يمشي على قدمين بهدوء في شوارع هادئة بالقرب من منزله. وفي نهاية السبعينيات عرفت محفوظ أستاذاً جامعياً، ومن ثم باحثاً أصيلاً، وكاتباً مدققاً يبحث في الأعماق عن جواهر الفكر والأدب واللغة وأسرار القرآن والحديث والتاريخ واللغات واللهجات المقارنة والأنسال وكل ما يمت بصلة إلى حفريات وجينالوجيات المعارف والعلوم واللغات والأقوام والأعراق.
أما في ثمانينيات القرن الماضي، وعندما كنتُ تلميذا في قسم الفلسفة بكلية الآداب ـ جامعة بغداد، رأيتُ محفوظ تلك الدرة التي تمشي على أرض كلية الآداب في زيارات علمية خاطفة كونه كان محالاً على التقاعد.
في إحدى زياراته إلى الكلية تشرَّف قسم الفلسفة بحضور محفوظ في جلسة عابرة مع بعض أساتذتنا الأجلاء بذلك القسم، فوجدتُ بمحفوظ ذلك العالِم الموسوعي الألمعي الذي يفيض لسانه العاطر بعبارات فلسفية مرصوصة البنيان، سلسة الأسلوب، عبقة بكل ما تتضمَّنه العبارة الفلسفية من رصانة الظهور والتدليل والحضور في ذهن المتلقي.
لقد شدَّني هذا المحفوظ الذي يغطي معطفه الشتائي ثلثي جسده، وشدتني ابتسامته الأبوية الناعمة، وشدني أكثر سلاسة عرضه للفكرة التي يريد توصيلها، والخطاب الذي يلمح إليه، كان الرجل لماحاً في بعض المواضع من كلامه، فأدركتُ أن الرجل في خوف من محيطه عن قرب في وقت كان كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية نارا على جمر....
ذهبتُ إلى مكتبة كلية الآداب لأستعير بعض مؤلفاته، فكان أغلبها من غير المسموح بتداوله في تلك المرحلة من ثمانينيات القرن الماضي، فسألتُ بعض أصحابي عن المجالس الأدبية الأهلية التي يتوافر فيها محفوظ، فأشاروا إليَّ ببعضها، وكان هذا خياراً مناسباً لألتقي الرجل.
كان البغداديون يحتفون بالعلامة محفوظ إيما احتفال، وكان مثقفو مدينة الكاظمية أكثر احتفاء بالرجل، وكان هو، ورغم اعتلال صحته، من أكثر المثقفين العراقيين استجابة وتقبُّلاً للقاء أجيال مختلفة من الكتّاب والشعراء والأدباء والمؤرخين العراقيين في بغداد والكاظمية.
في مساء رائق، كان محفوظ ضيفاً محاضراً على عدد من الحاضرين في (مجلس الخاقاني)، بمنزل الأسرة الخاقانية المطل على نهر دجلة في محيط مدينة الكاظمين، ولعلها المرة الأولى التي يطول الحديث والنقاش فيها مع محفوظ، وهي المرة النادرة أيضاً التي ضمتني مع محفوظ والشاعر العراقي محسن حسن الموسوي وبقية طيبة من مريديه، ضمتني صورة فوتوغرافية نادرة والتي صارت جزءاً من تاريخي الشخصي مع العلامة محفوظ والتي أخص إيلاف بنشرها مع هذه المشاهدات، فتكرَّرت زياراتي إلى منزله الهادئ، وبعدها كان لقائي به في محاضرة له خلال سنوات التسعينيات بمنزل أحد المثقفين العراقيين العاشقين للعلامة محفوظ، عندما كنتُ وقتها أعدُّ لأطروحة ماجستير جامعية عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وهناك فوجئتُ بمحفوظ لسعة علمه بالمعارف الفلسفية الغربيَّة عامة والألمانية منها على نحو خاص.
عشنا مع العلاّمة الدكتور حسين علي محفوظ، كتلامذة عاشقين لعلمه الوافر، وأدبه الجم، ورقته الأبوية فائقة الحضور. لقد صمد محفوظ في بغداد حرب الخليج الأولى رغم المضايقات السياسية، وصمد وهو يرى القنابل تنهال على بغداد والعراق في عام 1991، وقاوم وهو الشيخ العجوز معتل العافية مجاعة الحصار الدولي والعربي والإسلامي الجائر الذي قتل العراقيين بدم بارد، وواجه بصبر محنة انهيار دولة وقيام أخرى بديلة ابتداء من نيسان/ أبريل 2003، وكانت المفخَّخات والعبوات الناسفة وما يراه أو يسمعه عن الجثث المجهولة تزيد من هطول دموعه بل ومن أنينه وبكاءه على العراقيين الذين يموتون من دون ذنب.
عاش محفوظ القرن العشرين برمته، بكل ما فيه من تحولات مجتمعية ونكبات سياسية ومآس إنسانية وفصول إبداعية وأدبية وفكرية.
كتب حسين على محفوظ عن كل ذلك، وما كتبه مرصوص في منزله، ولعل دولة رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري كامل المالكي يلتفت إلى تراث هذا العملاق الذي تناهى إلى رحمة بارئه وخالقه الذي سبَّح محفوظ باسمه بعشق وزهد وشفافية الإنسان الصادق في كل يوم سنوات حياته، وأن تخصص الدولة جائزة ثقافية سنوية باسمه.
عزائنا إننا، وفي خلال ثلاثة أيام، فقدنا ثلاثة من مبدعينا الرائعين، وهم: تحرير السماوي (توفيت في لندن يوم الأحد 18-1-2009)، والدكتور حسين علي محفوظ (توفي في بغداد الاثنين 19-1-2009)، والكاتب المبدع أمير الدراجي (توفي في مدينة للي هامر النرويجية يوم الثلاثاء 20-1-2009).
*كاتب وأستاذ جامعي عراقي
[email protected]
في بداية سبعينيات القرن الماضي، شاهدتُ حسين علي محفوظ ذلك الكائن قصير القائمة الذي يمشي على قدمين بهدوء في شوارع هادئة بالقرب من منزله. وفي نهاية السبعينيات عرفت محفوظ أستاذاً جامعياً، ومن ثم باحثاً أصيلاً، وكاتباً مدققاً يبحث في الأعماق عن جواهر الفكر والأدب واللغة وأسرار القرآن والحديث والتاريخ واللغات واللهجات المقارنة والأنسال وكل ما يمت بصلة إلى حفريات وجينالوجيات المعارف والعلوم واللغات والأقوام والأعراق.
أما في ثمانينيات القرن الماضي، وعندما كنتُ تلميذا في قسم الفلسفة بكلية الآداب ـ جامعة بغداد، رأيتُ محفوظ تلك الدرة التي تمشي على أرض كلية الآداب في زيارات علمية خاطفة كونه كان محالاً على التقاعد.
في الوسط العلامة الراحل محفوظ، وإلى يمين الصورة الشاعر العراقي محسن حسن الموسوي، وإلى أقصى اليسار كاتب المقال الدكتور رسول محمد رسول. وتعود الصورة إلى مرحلة ثمانينيات القرن الماضي عندما كان محفوظ محاضرا في مجلس الخاقاني بمدينة الكاظمية. |
لقد شدَّني هذا المحفوظ الذي يغطي معطفه الشتائي ثلثي جسده، وشدتني ابتسامته الأبوية الناعمة، وشدني أكثر سلاسة عرضه للفكرة التي يريد توصيلها، والخطاب الذي يلمح إليه، كان الرجل لماحاً في بعض المواضع من كلامه، فأدركتُ أن الرجل في خوف من محيطه عن قرب في وقت كان كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية نارا على جمر....
ذهبتُ إلى مكتبة كلية الآداب لأستعير بعض مؤلفاته، فكان أغلبها من غير المسموح بتداوله في تلك المرحلة من ثمانينيات القرن الماضي، فسألتُ بعض أصحابي عن المجالس الأدبية الأهلية التي يتوافر فيها محفوظ، فأشاروا إليَّ ببعضها، وكان هذا خياراً مناسباً لألتقي الرجل.
كان البغداديون يحتفون بالعلامة محفوظ إيما احتفال، وكان مثقفو مدينة الكاظمية أكثر احتفاء بالرجل، وكان هو، ورغم اعتلال صحته، من أكثر المثقفين العراقيين استجابة وتقبُّلاً للقاء أجيال مختلفة من الكتّاب والشعراء والأدباء والمؤرخين العراقيين في بغداد والكاظمية.
في مساء رائق، كان محفوظ ضيفاً محاضراً على عدد من الحاضرين في (مجلس الخاقاني)، بمنزل الأسرة الخاقانية المطل على نهر دجلة في محيط مدينة الكاظمين، ولعلها المرة الأولى التي يطول الحديث والنقاش فيها مع محفوظ، وهي المرة النادرة أيضاً التي ضمتني مع محفوظ والشاعر العراقي محسن حسن الموسوي وبقية طيبة من مريديه، ضمتني صورة فوتوغرافية نادرة والتي صارت جزءاً من تاريخي الشخصي مع العلامة محفوظ والتي أخص إيلاف بنشرها مع هذه المشاهدات، فتكرَّرت زياراتي إلى منزله الهادئ، وبعدها كان لقائي به في محاضرة له خلال سنوات التسعينيات بمنزل أحد المثقفين العراقيين العاشقين للعلامة محفوظ، عندما كنتُ وقتها أعدُّ لأطروحة ماجستير جامعية عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وهناك فوجئتُ بمحفوظ لسعة علمه بالمعارف الفلسفية الغربيَّة عامة والألمانية منها على نحو خاص.
عشنا مع العلاّمة الدكتور حسين علي محفوظ، كتلامذة عاشقين لعلمه الوافر، وأدبه الجم، ورقته الأبوية فائقة الحضور. لقد صمد محفوظ في بغداد حرب الخليج الأولى رغم المضايقات السياسية، وصمد وهو يرى القنابل تنهال على بغداد والعراق في عام 1991، وقاوم وهو الشيخ العجوز معتل العافية مجاعة الحصار الدولي والعربي والإسلامي الجائر الذي قتل العراقيين بدم بارد، وواجه بصبر محنة انهيار دولة وقيام أخرى بديلة ابتداء من نيسان/ أبريل 2003، وكانت المفخَّخات والعبوات الناسفة وما يراه أو يسمعه عن الجثث المجهولة تزيد من هطول دموعه بل ومن أنينه وبكاءه على العراقيين الذين يموتون من دون ذنب.
عاش محفوظ القرن العشرين برمته، بكل ما فيه من تحولات مجتمعية ونكبات سياسية ومآس إنسانية وفصول إبداعية وأدبية وفكرية.
كتب حسين على محفوظ عن كل ذلك، وما كتبه مرصوص في منزله، ولعل دولة رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري كامل المالكي يلتفت إلى تراث هذا العملاق الذي تناهى إلى رحمة بارئه وخالقه الذي سبَّح محفوظ باسمه بعشق وزهد وشفافية الإنسان الصادق في كل يوم سنوات حياته، وأن تخصص الدولة جائزة ثقافية سنوية باسمه.
عزائنا إننا، وفي خلال ثلاثة أيام، فقدنا ثلاثة من مبدعينا الرائعين، وهم: تحرير السماوي (توفيت في لندن يوم الأحد 18-1-2009)، والدكتور حسين علي محفوظ (توفي في بغداد الاثنين 19-1-2009)، والكاتب المبدع أمير الدراجي (توفي في مدينة للي هامر النرويجية يوم الثلاثاء 20-1-2009).
*كاتب وأستاذ جامعي عراقي
[email protected]
التعليقات